"هل استأصلوا الكلية؟"؛ كان هذا سؤالي الأول عندما صحوت من عملٍ جراحي أجريته قبل نحو عام، وجلّ أملي كان أن تبقى في داخلي، لكن الحياة تفرض علينا أحياناً التخلي حتى عن أجزاء من أجسادنا، إذا كانت ستتحول إلى قطع سامّة، بفعل "كتلة" تشكلت عليها.
يبدو الأمر غريباً بعض الشيء، وعندما تخبر أحداً عنه سيقول لك: "حقاً! هل يستطيع الإنسان أن يعيش بكلية واحدة؟". نعم يستطيع، ويمارس حياته اليومية بشكل طبيعي، ولكنه ليس أمراً بسيطاً عندما يُطلب إليك ولسبب "طبي" التخلي عن قطعة من جسدك.
"شربت مي؟ لا تكتر ملح، أوعك تحمل شي تقيل"؛ هي إنذارات وتساؤلات يومية تُطرح عليك في أثناء تناولك الطعام أو عند لقائك أحد أفراد عائلتك أو أصدقائك المهتمين بك، فإن كنت تسمعها فأنت مثلي تعيش بكلية واحدة.
صعوبة العيش
جعلني هذا الواقع أكثر حساسيةً على الصعيد النفسي، فلم يبقَ مجرد جرح بسيط أو عملية انتهت، بل مقاربة يومية بين الماضي والحاضر، بين ما أنا عليه اليوم من فتاة في الـ26 من عمرها تعيش بكلية واحدة وستكمل بها حياتها، ما يثير الكثير من الخوف والأسئلة في عقلي، وبين أنني اليوم طبيعية، أمارس حياتي اليومية، وأعمل في الصحافة، وأقضي ساعات طويلةً خارج المنزل.
المعضلة الأصعب تبدأ عندما تدرك أنك تعيش في سوريا، فحتماً يومياً أتدافع مع الناس على وسائل النقل، وهذا يخيفني بعض الشيء، وفي كثير من الأحيان كان يخيّل إلي في تلك اللحظات عندما تبدأ الناس بالتجمع من حولي والتزاحم أن أصرخ في وجه الجميع: "ابتعدوا هناك جرح، أو ابتعدوا فأنا أجريت عمليةً جراحيةً وأعيش بكلية واحدة".
المعضلة الأصعب تبدأ عندما تدرك أنك تعيش في سوريا، فحتماً يومياً أتدافع مع الناس على وسائل النقل، وأتخيّل أنني أصرخ في وجه الجميع: "ابتعدوا هناك جرح، أو ابتعدوا فأنا أجريت عمليةً جراحيةً وأعيش بكلية واحدة
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، لا يمكن أن تأخذ استراحةً كافيةً أو أن ترفض عملاً ما، إلى جانب أن ساعات العمل طويلة، إذ قد تضطر إلى العمل في أكثر من مكان معاً، فتكون أمام 12 ساعة عمل يومياً وقد تتخطاها في بعض الأحيان.
لحسن الحظ، وعلى الصعيد الشخصي، لا أفضل أيام الراحة كثيراً، بل الإنجاز هو الأهم، ومن ناحية الالتزام بنظام غذائي صحي فهو من المنسيات في بلاد تعيش أشد أزماتها الاقتصادية على مر السنوات، وتالياً النصيحة الوحيدة التي يمكنك التقيد بها هي التخفيف من الملح قدر المستطاع.
جسدي كله "جُرحٌ"
أعاينُ يومياً جرحي الذي أحمله حيناً في جسدي، وحيناً آخر يحملني هو إلى أسئلة وأماكن وأزمنة بين الماضي والمستقبل. يذكرني بأحد مكامن قوتي، ولم يزعجني وجوده يوماً، على خلاف ذلك، أشعر وكأنه المكان الضعيف في جسدي والذي عليّ أن أعطيه كل الحب والأهمية كما أتعامل مع الذين أحبهم حينما يصيبهم أمر ما.
ولكن في الحقيقة لم أستطع النظر إليه إلا بعد أيام طويلة من العملية، ففكرة وجود جرح طويل يشقّ بطني كانت تخيفني كثيراً، ولكن اليوم أنظر إليه مرّات عدة من دون تردد.
الشخص الذي يعيش بكلية واحدة يُنصح بعدم تناول أدوية بشكل عشوائي وخاصةً المسكنات كونها تؤذي الكلية
قد يستلزم الأمر التغيير في أنماط الملابس، أو محاولة إخفاء هذا الجرح لعدم الرغبة في إظهاره إلى العلن، ولكن تماشى ذلك مع نمط ملابسي في الحياة العامة، أو مع الحاجة إلى طبقات أسمك في الشتاء تخوفاً من حدوث أي عارض.
التجربة والنضوج
لا يمكن إخفاء أن هذه التجربة صنعت مني إنساناً ناضجاً على صعيد الحياة، فمجرد دخولك غرفة العمليات لمرة واحدة أمر كفيل بأن تجعل مئات الأفكار تراودك عن عدم العودة، أو الموت ربما. بالنسبة لي هذه النقطة في حياتي كانت مفصليةً، وجعلت مني إنساناً أكثر نضجاً، يقدّر قيمة الحياة والصحة، وكأنها أشبه بالمعجزة.
فكرة أن تجلس في المنزل لمدة شهر على الأقل كفترة "استشفاء"، بعد العمل الجراحي، كانت الفترة الأصعب، فكم تتمنى العطلة في أيام العمل، ولكن سيكون ثقيلاً جداً أن تمضي أياماً وأنت في حاجة إلى المساعدة للوقوف حتى؛ تمسك بجرحك وتتحرك في أرجاء المنزل فقط.
أوهام كثيرة كانت تراودني في اليوم الواحد عن إمكانية توقف الكلية الأخرى عن العمل، أو يمكن أن تفكر في زراعة كلية أخرى، لكن الأمر من وجهة نظر الطب غير متاح، إذ يستطيع الإنسان أن يعيش بشكل طبيعي بكلية واحدة فقط.
أوهام كثيرة كانت تراودني عن إمكانية توقف الكلية الأخرى عن العمل، أو زراعة كلية أخرى، لكن الأمر من وجهة نظر الطب غير متاح، إذ يستطيع الإنسان أن يعيش بشكل طبيعي بكلية واحدة فقط
ولكن خرجت بعدها إنساناً مقبلاً على الحياة، محبّاً للعمل أضعاف ما كان يحبه، وبدأت بخطة حياة مختلفة، جعلتني ألحق بسعادتي أينما تكون.
ماذا يرى الطب؟
يقول الطبيب المختص عمار الراعي، لرصيف22، إنه "لا يوجد أي اختلاف عملي بين الإنسان الذي يملك كليتين أو كلية واحدة، وهو يعيش حياةً طبيعيةً 100%، وهناك الكثير من الحالات لأشخاص وُلدوا بكلية واحدة وتنتهي حياتهم من دون أن يدركوا ذلك، أو عن طريق المصادفة في أثناء إجراء صورة شعاعية أو "إيكو" من أجل أمر طبي ما".
ويوضح أن "استئصال الكلى لا يؤثر على حياة المريض نهائياً، وتُجرى عمليات الاستئصال عادةً لأسباب متعلقة بمشكلات مرضية للكلى، أبرزها الأورام التي تُعدّ شائعةً، تليها الحصيات البولية والآفات الإنتانية على الكلية، وضيق شريان الكلية الذي يؤدي إلى ارتفاع توتر شرياني غير مسيطر عليه"، مشيراً إلى أن المريض يبحث عادةً عن طرق أو وسائل أخرى للعلاج أو استئصال جزء منها فقط.
وتُجرى أيضاً في حالات التبرع بالكلى، من شخص حي ومعافى، وتُجرى في البلاد بشكل متكرر، ولكن تخوف المتبرّع يكون أقل، خاصةً إن كانت أم أو أحد الأقارب يتبرعان لقريبهما، ولكن وفقاً لقانون التبرع بالأعضاء السوري يتم إبقاء الكلية ذات الوظيفة الأعلى لصاحبها، ومنح الأخرى للمتبرع.
بحسب الراعي، فإن أغلب المتبرعين ذكور، لأن القانون السوري يمنع التبرع للإناث إلا للأقارب من الدرجة الأولى، أما الأورام والأمراض (الحصيات) فهي أكثر شيوعاً لدى الذكور، ولكن لا توجد إحصائية معينة تثبت ذلك، مشيراً إلى أن "الشخص الذي يعيش بكلية واحدة يُنصح بعدم تناول أدوية بشكل عشوائي وخاصةً المسكنات كونها تؤذي الكلية، وبممارسة الرياضة، والطعام الصحي، والحفاظ على وزن مثالي، وهي أمور على الجميع التقيّد بها، ولكنها تكون فرصةً لتذكّرها والتقيّد بها".
تشكل عملية إزالة الكلية صدمةً للجسم، ومنها تنتقلُ إلى الحالة النفسية للإنسان، لكنها في الحقيقة صدمة مباشرة وواضحة
أكثر من كافية
ليس سرّاً أنني أقارن نفسي يومياً بكل صديقاتي وأقراني اللواتي يحملن كليتين، في مقابل أنني أحملُ كليةً واحدةً. هل هذا يعدّ نقصاً؟ وهل أنا أقلّ من الأخريات؟
تُجيب المرشدة النفسية رشا الصباغ، عن سؤالي، قائلةً: "فقدان جزء من جسم الإنسان لأي سبب كان لا يعني اختلافه عن الآخرين، ولا يعني نقصاً عنهم، إذ إن قيمة الإنسان لا تتحدّد بجسده، ولا تنقص مع نقصان أي جزء منه"، وتضيف: "نحن لسنا جسداً فحسب، وغالباً ما ننظر إلى أنفسنا بطريقة تختلف عن تلك التي ينظر فيها الآخرون".
وتشير في حديثها لرصيف22، إلى أنه "قد تشكل عملية إزالة الكلية صدمةً للجسم، ومنها تنتقلُ إلى الحالة النفسية للإنسان، لكنها في الحقيقة صدمة مباشرة وواضحة، بينما نحن قد نعيش تحت تأثير الكثير من الصدمات من دون أن نعرف سببها أو مصدرها أو جذرها".
وبالرغم من الصعوبات الجمّة التي تلمّ بالسوريين، إلا أن الصباغ ترى أن "معاناة المرض هي واحدة في العالم، ويشعرُ المريض أينما كان بأن مشكلته هي الأكبر، لكن ما يختلف هو طريقة تفكيره في الأمر، ونظرته إلى نفسه، وكيف يتجاوز هذه الصدمة بأقل الأضرار الممكنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون