شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الرصاص الطائش في سوريا يخلّف ضحايا قاتلها مجهول

الرصاص الطائش في سوريا يخلّف ضحايا قاتلها مجهول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 8 نوفمبر 202211:36 ص
Read in English:

Death at any moment: Stray bullets leave countless victims in Syria

بينما كان محمد المسكي، ذو السنوات الثماني، يلهو أمام محل والده في منطقة سوق الحميدية بالقرب من المسجد الأموي في العاصمة السورية دمشق، سقط فجأةً على الأرض من دون حراك، وثمة دماء سالت على جبينه. الأب أسعف الابن إلى إحدى المشافي الحكومية، ظانّاً أن الأمر مجرد حادث صغير، وهو ما اعتقده الأطباء أيضاً، فقرروا على عجل وقف النزيف وإغلاق الجرح، لكن قلب الأم كان يهمس بشيء آخر، فالجزء السفلي من جسد ابنها كان مشلولاً، لهذا، رفضت إخراجه من المستشفى من دون إخضاعه لصورة أشعة، وهنا كانت المفاجأة: ثمة رصاصة اخترقت الرأس الصغير، واستقرت في جمجمته.

الرصاصة أطلقها مجهول في الأول من شهر كانون الثاني/ ديسمبر عام 2015، إذ شهد ذلك الصباح استمرار احتفالات المبتهجين بالسنة الجديدة ممن اعتادوا توديع سنة واستقبال أخرى برصاصات في الهواء يطلقونها عشوائيّاً.

القانون وتطبيقه

وبالرغم من أن القانون السوري جرّم هذا الفعل منذ عقود، لكن حتى اليوم، لم يفلح في منعه، خصوصاً أن سوريا تعيش حالةً من عدم الاستقرار بسبب الوضع الأمني منذ عام 2011، وما تلا ذلك من حروب ونزاعات أدت كلها إلى مزيد من انتشار السلاح بين أيدي المواطنين والميليشيات، الأمر الذي ضاعف من عمليات إطلاق النار وغياب المحاسبة في الوقت نفسه.

القانون السوري جرّم هذا الفعل منذ عقود، لكن حتى اليوم، لم يفلح في منعه، خصوصاً أن سوريا تعيش حالةً من عدم الاستقرا

يقول المحامي رامي هاني الخير، إن قانون العقوبات السوري الصادر في المرسوم التشريعي رقم 148 تاريخ 1949، وتعديلاته المتلاحقة، حسم أمر استخدام السلاح بشكل عشوائي، فعدّ في المادة 312 أن "الاجتماع مسلح" إذا كان شخص أو أكثر يحملون أسلحةً ظاهرةً أو مخبأةً أو مخفيةً، والعقوبة من 6 أشهر إلى سنتين في حال كان السلاح مسدساً، أو قد تتراوح بين سنة إلى ثلاث سنوات إذا كان الفعل يتعلق بأسلحة أو ذخائر أو أعتدة حربية أو بقطع مفصولة، وذلك حسب المادة 315، كما يعاقب القانون بالحبس 6 أشهر على الأكثر، كل من حمل سلاحاً أو ذخائر من دون ترخيص،، وذلك بموجب المادة 314 من القانون نفسه.

ويتابع الخير أن "من يقوم بإطلاق الرصاص بشكل عشوائي يرتكب جرائم عدة أقلها إرهاب المواطنين، وتُشدَّد هذه الجريمة في حال أسفرت عن حدوث ضرر ما بالأملاك العامة والأملاك الخاصة"، كحال ريتا المقيمة بالقرب من حي جوبر في دمشق والتي تعرضت سيارتها لطلق ناري خلال احتفالات رأس السنة، من عام 2015 أيضاً، لكنها لم تستفد من القانون، لأنها لم تعرف من أين جاءت الرصاصة ولا من أطلقها، واضطرت إلى تصليح سيارتها على نفقتها الخاصة.

وبالعودة إلى القانون، وبحسب المحامي الخير: "في حال أسفرت هذه الظاهرة عن مقتل شخص، فنحن هنا أمام جريمة من نوع آخر، وهي جريمة القتل غير المقصود، التي تصل عقوبتها إلى السجن ثلاث سنوات"، إذ تنص المادة 550 من قانون العقوبات، على أن "من سبب موت أحدٍ عن إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة، عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات".

التعليلات المختلفة

أما إذا أسفرت هذه الظاهرة عن إيذاء الشخص، لا قتله، فإن العقوبة تختلف هنا، وتنظمها المادة 551، وتنص هذه المادة في ما يتعلق بالفعل غير المقصود على أنه "إذا لم ينجم عن خطأ المجرم إلا إيذاء كالذي نصت عليه المواد الـ542 إلى الـ544، كان العقاب من شهرين إلى سنة، كما يعاقب على كل إيذاء آخر غير مقصود بالحبس ستة أشهر على الأكثر، أو بغرامة لا تتجاوز المئة ليرة".

والإيذاء المذكور في المادة 542، هو التسبب في تعطيل عن العمل يتجاوز العشرين يوماً، فتكون العقوبة هنا الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، وتنص المادة 543 المتعلقة بالفعل المقصود على أنه إذا أدى الفعل إلى قطع أو استئصال عضو أو بتر أحد الأطراف أو إلى تعطيلها أو تعطيل إحدى الحواس عن العمل أو تسبب في إحداث تشويه جسيم أو أية عاهة أخرى دائمة أو لها مظهر العاهة الدائمة، عوقب المجرم بالأشغال الشاقة المؤقتة عشر سنوات على الأكثر.

كان علي يقف مع مجموعة من الأصدقاء في منطقة دمشق القديمة عند حجارة الكنيسة المريمية الأثرية، وخلال وقوفهم، لاحظوا تغيّر لون علي، ومن ثم تعرضه للإغماء، وبعدها، أدركوا إصابته برصاصة في كتفه

أما المادة 544، فهي تشمل من تسبب بإجهاض حامل، وهو على علم بحملها، وتكون عقوبته الحبس ستة أشهر على الأكثر أو الحبس التكديري والغرامة من خمس وعشرين إلى مئة ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين.

والعقوبة هنا كان يمكن أن تشمل من أصاب خالد في ليلة الاحتفال بالعام 2019، فبينما كان يقف الشاب مع أصدقائه في حي نهر عيشة في دمشق، للاحتفال بالعام الجديد، شعر بألم غريب في كتفه، وكأن شخصاً ضربه، فسأل أصدقاءه من فعل هذا معه، وبعد دقائق، شعر ببرودة في كتفه، وبدأ الدم ينزف، وعلى الفور، نقله أصدقاؤه إلى المستشفى، وتمكن من النجاة، لأن الجرح الذي خلّفته الرصاصة في كتفه كان سطحيّاً، وتحقيق الشرطة في وقت لاحق لم يجد جواباً، وجرى تصنيف الحادثة على أنها نتيجة "رصاص طائش ضد مجهول".

وحسب أرقام نشرتها وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، ففي مطلع عام 2021، تعرّض 26 شخصاً للإصابة بالرصاص الطائش في عدد من المحافظات السورية، وتكرر الأمر نفسه في ليلة رأس السنة لعام 2022، إذ توفي شخص وأُصيب ثمانية آخرون في محافظة اللاذقية.

ضحية فرحة البكالوريا

قصة الصغير محمد في تراجيديتها، وغيره من الضحايا، لا تختلف كثيراً عن قصة علي النجدي، الشاب العشريني الوسيم، الذي ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بقصة وفاته عام 2019، حين خسر حياته بسبب رصاصة طائشة مجهولة المصدر استقرت في قلبه بعدما اخترقت كتفه الأيسر.

يخبرنا هادي النجدي، ابن عم الفقيد، بأن الصدفة هي التي جمعت علي مع هادي ومجموعة من الأصدقاء لقضاء بعض الوقت في منطقة دمشق القديمة عند حجارة الكنيسة المريمية الأثرية، وهو مكان إقامة علي، وخلال وقوفهم، لاحظوا تغيّر لون علي، ومن ثم تعرضه للإغماء، وبعدها، أدركوا إصابته برصاصة في كتفه.

يقول هادي بحرقة: "الخميس 12 تموز/ يوليو 2019، تاريخ لا أنساه ولن أنساه، حينما حاولنا إسعافه. كان الأمر صعباً كثيراً، فليلة الخميس في منطقة باب شرقي تشهد ازدحاماً عادةً بسبب كثرة الإقبال على المنطقة ومطاعمها، ولا يوجد إلا طريق واحد للخروج من المنطقة، ولذلك، حين وصل علي إلى المستشفى، كان قد فارق الحياة"، ويضيف هادي أن الخطوة الأصعب كانت إبلاغ عائلة علي بالأمر، فالصدمة كبيرة، ولم يتمكنوا حتى اليوم من الخروج منها.

التحقيقات يومها حصرت الاحتمالات في رصاص أُطلق خلال حفل في قلعة دمشق، أو احتفالات بنتائج الثانوية العامة مصدرها منطقة دويلعة، ويشرح هادي أن الشرطة عاينت المكان، وحققت مع الأشخاص الذين كانوا مع علي حينها، وفي النهاية، أُغلق الملف، والجواب: تسجيل الحادث ضد مجهول جديد.

في مطلع عام 2021، تعرّض 26 شخصاً للإصابة بالرصاص الطائش في عدد من المحافظات السورية، وتكرر الأمر نفسه في ليلة رأس السنة لعام 2022

علي توفي بسبب استقرار الرصاصة في القلب، وهي من الحالات الخطرة، ومحمد أيضاً خسر حياته لأن الرصاصة استقرت في الدماغ، ولم يكن من السهل إخراجها، والأطباء قالوا إنه يمكن التكيّف معها، لكن وضع الصغير لم يتحسن واستمر في التراجع، وما هي إلا ستة أيام، حتى فارق الحياة، حسب ما ذكرت والدته منى شبيب.

ويقول الدكتور أحمد نزار محمد، وهو طبيب أذن وأنف وحنجرة، ومؤسس منصة الصحة السورية (ميد دوز)، إن 22% من المصابين بالرصاص تكون إصاباتهم قاتلةً، كما أن 70% من المصابين هم من الذكور، وذلك حسب إحصائيات عدد من المشافي في السنوات العشر الأخيرة.

ويضيف محمد، أن الإصابات الأكثر خطورةً تصيب المناطق المحورية في الجسم أو محور الخط الناصف، مثل الدماغ والوجه والرقبة ومنطقة الصدر ومنتصف البطن أو الإصابة في الطحال أو الكبد، وتكون السيطرة عليها عمليةً ليست بالسهلة، فكلما كانت أقرب إلى الخط الناصف للجسم، كانت الإصابة أكبر.

صعود ثم هبوط

المشكلة في ظاهرة الرصاص الطائش، أن الضحية لا تعرف من أصابها، والجاني لا يعرف ماذا فعل، بالرغم من علمه المسبق بأن سلاحه المُشهر في الهواء ستنتج عنه مقذوفات تعود بالتأكيد إلى الأرض، فكل رصاصة تنطلق في الجو، لا بد أن تعود للسقوط، كما يوضح صلاح الدين الخطيب، وهو محامٍ وبطل دولي في الرماية، والرئيس السابق للاتحاد العربي السوري للرماية.

ويوضح أنه عند إطلاق الرصاص من دون توجيه على هدف محدد، سيسقط المقذوف بشكل حر متجهاً نحو الأرض، وتعتمد قوته على مركز الثقل وقانون الجاذبية الأرضية، وتختلف زاوية سقوطه حسب زاوية الفوهة، وهناك أسلحة يكون سقوط المقذوف فيها بعد كيلومتر أو كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات، وهناك مقذوفات من مسدسات تنطلق نحو 100 إلى 200 متر وتسقط بعدها.

برأي الخطيب، فإن أي زاوية تسديد عشوائي تُعدّ خطرةً، ولا يمكن الاعتماد على زاوية محددة، ففي حالة إطلاق النار خلال الفرح أو الحزن، لا يمكن القول إن من يمسك السلاح سيتمكن من الالتزام بزاوية محددة، ومن يصوّب بزاوية 90 درجةً بشكل عمودي، قد يصيب أحد الموجودين في التجمع حوله، ومن يُطلق بزاوية 45 درجةً، فهذا يعني أنه سيتسبب في إصابة مباشرة لمن حوله.

وعن المدى القاتل للأسلحة، يذكر الخطيب أن بعض الأسلحة مثل الكلاشينكوف المعروف سوريّاً بـ"الروسية"، يصل مداه القاتل إلى نحو ألف متر، والقنّاصات تصل إلى أكثر من 1،400 متر، أما رصاص المسدسات من عيار 9 مليمتر و38 و45 و6 مليمترات، فيمكن أن يصل مداها إلى ما بين مئة ومئتي متر.

رصاص الشجار

وبعيداً عن الاحتفالات والمناسبات، قد يكون الحظ العاثر من نصيب شخص بريء لا ذنب له، مرّ بالصدفة في منطقة تشهد خلافاً استخدم خلاله المتشاجرون السلاح، وهو ما حدث مع طفل صغير في السويداء.

ففي عام 2005، وبتاريخ 25 آب/ أغسطس، عند الساعة السادسة مساءً، حدث شجار بين عائلتين تسكنان بجوار منزل غسان أبو طافش في السويداء. خرجت زوجته وبعض الجيران لمتابعة ما يحدث، ومن بين المشاركين كان ابنه الصغير ذو السنوات السبع، وبعدما كان الشجار تلاسناً بالكلام وتشابكاً بالأيدي، تطور إلى إطلاق نار، ما أدى إلى إصابة اثنين من المتشاجرين، واستقرت رصاصة ثالثة في ظهر الصغير الذي كان يبعد نحو أربعين متراً عن المتشاجرين.

تطور خلاف بين عائلتين في السويداء إلى إطلاق نار راح ضحيته طفل عمره 7 سنوات. القضية سُجِّلت على أنها "قضاء وقدر"، نتيجة تدخل وجهاء المحافظة، وتم إيقاف القاتل لكنه خرج من السجن، لأن الصلح تم عشائريّاً ودُفعت الدية

يقول أبو طافش، إن الرصاصة تسببت بنزيف داخلي وبقطع الوريد الذي يغذّي القلب، ولم يقف النزيف بالرغم من إسعاف الطفل، ليفارق الحياة في المستشفى، مخلّفاً صدمةً كبيرةً لوالديه اللذين لم يُرزقا إلا بمولود واحد.

القضية سُجِّلت على أنها "قضاء وقدر"، نتيجة تدخل وجهاء المحافظة، لأن عائلة الطفل لم تكن طرفاً في الشجار، وتم إيقاف القاتل حسب مجريات اتخاذ العدالة مجراها، وفق بند الحق العام، ثم خرج من السجن، لأن الصلح تم عشائريّاً ودُفعت الدية.

ضد مجهول

جرح السيدة منى وعائلتها لم يلتئم حتى اليوم، والأمر ذاته ينطبق على عائلة علي النجدي وغيرهما الكثير من الضحايا، فهؤلاء رحلوا تاركين لأسرهم الحسرة والحزن، وضبطاً للشرطة يُغلَق بكلمة "ضد مجهول"، لعدم القدرة على تحديد جهة إطلاق النار، بالرغم من أن القانون -حسب المحامي الخير- يُحتّم على السلطات المختصة "تقصّي الجريمة الحاصلة وتنظيم ضبط أصولي بما حدث، وتحويل هذا الضبط إلى النائب العام الذي يأمر بالتوسع في التحقيق والتقصّي، ويجب على قوى الأمن الداخلي أخذ إفادات الشهود عن الحادثة وصولاً إلى الجاني الذي اقترف الجريمة".

لا شك في أن الأوضاع غير الطبيعية التي خلفتها الحرب في سوريا تلقي بظلالها على عمل مؤسسات الأمن فيها، ولكن، وطالما بقي الجناة خارج أسوار السجن، وطالما بقيت غالبية القصص تنتهي بكلمة جريمة مسجلة "ضد مجهول"، ستبقى أرواح العشرات من السوريين مهددةً بأن تكون رخيصةً، ثمنها رصاصة يطلقها مُحتفل أو شخص حزين يُشيّع ضحيةً من معارفه.


* أُنجز هذا التقرير بدعم من أريج

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard