"سئمنا الوضع البيئي الذي ما انفكّ يتدهور يوماً بعد يوم، من دون حلول تلوح في الأفق... سنة مرت على هذا الكابوس الذي ألمّ بعاصمة الجنوب التي اشتهرت على مر السنين بالتفوق في شتى المجالات العلمية والعملية، وأضحت اليوم رهينة كارثة بيئية مثقلة بالأمراض تهدد أهالي المنطقة. النفايات المبعثرة هنا وهناك شوهت جمالية المنطقة، وعكّرت صفو الحياة فيها. رائحة العفن تنبعث من كل مكان وسوائل مختلفة الألوان تتسرب من تحت أكوام النفايات منذرةً بهجوم مرتقب للبعوض والحشرات. هذه الأكوام المكدّسة ملجأ للعديد من الحيوانات كالكلاب السائبة والقطط وأحياناً الخنازير حتى!".
تعبّر رؤى (24 سنةً)، وهي طالبة ماجستير في كلية صفاقس، عن دهشتها واستغرابها من اعتماد حرق النفايات كوسيلة للتخلص منها بعد أن بلغ المصبّ طاقة استيعابه القصوى، مشيرةً إلى أن رائحة الدخان التي تحاصر الجهة من كل مكان تجثم على صدور السكّان، وتطبق على أنفاسهم، كما تسيّل دموعاً غزيرةً من أعينهم.
تشهد تونس خلال الأسابيع الأخيرة موجة احتجاجات غير مسبوقة شارك فيها التونسيون على اختلاف مشاربهم
لقد قدمت محافظة صفاقس السنة الماضية، "شهيداً" في سبيل الظفر ببيئة سليمة، هو عبد الرزاق الأشهب، الذي توفي اختناقاً بالغاز المسيل للدموع خلال احتحاجات مطالبة بغلق مصب عقارب الذي تقرر توسيعه عوض إغلاقه، فيما قال تقرير الطب الشرعي إنها وفاة لأسباب "طبيعية".
يعيد التاريخ نفسه والأحداث تتكرر للسبب عينه وبنسق أشد حدةً، فسكان صفاقس لم يعد من خيار أمامهم للظفر بهواء نقي وشوارع نظيفة سوى الاحتجاج والاستماتة في المطالبة بحقهم في محيط نظيف.
تقول رؤى إنها شاركت في الوقفة الاحتجاجية التي دعا إليها اتحاد الشغل في الجهة، أمام مقر المحافظة: "لقد هتفت بأعلى صوتي 'صفاقس تحت القصف البيئي... صفاقس تحت القصف البيئي'، علّ صوتي المنهك من نزلة البرد التي أصابتني يجد صدى في آذان المسؤولين الذين حكموا علينا بإعدام جماعي. لست ممّن ينخرطون بسهولة في الاحتجاجات والمسيرات، لكني الآن إزاء قضية عادلة عزمت على تبنّيها حتى إيجاد حل يرضينا ويعيد لصفاقس بريقها".
الشارع للتعبير عن الغضب
تُعدّ هذه الفترة من السنة، حساسةً جداً لدى الشارع التونسي، فشرارة الثورة انطلقت نهاية سنة 2010، وتالياً ظلت هذه الفترة راسخةً في أذهان التونسيين ومتصلةً بالاحتجاج والتظاهر ضد سياسات الدولة، كما أضحت فرصةً مناسبةً ليسائل الشعب الحكومات المتعاقبة عما أُنجز خلال السنوات الماضية.
تحركات فردية وأخرى جماعية تختلف أهدافها، لكنها تلخص معاناة الشعب التونسي الذي يواجه إشكاليات بالجملة على جميع الأصعدة.
في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، تتوشح سماح بالعلم الوطني، وتهتف بأعلى صوتها: "وْفَاتْ وْفَاتْ (انتهت) المسرحية. لا قيس لا خوانجية". تتقدّم وسط الزحام غير عابئة بالتدافع المحتدم بين المحتجين، ولا بعصي البوليس التي تترصد كلّ من يخترق الحواجز الحديدية تلبيةً لدعوة رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، للاحتجاج يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي والذي دخلت على إثره في اعتصام مفتوح قرب مبنى وزارة الداخلية وإضراب عن الطعام لمدّة يومين استوجب نقلها إلى المصحّة.
"لست ممّن ينخرطون بسهولة في الاحتجاجات والمسيرات، لكني الآن إزاء قضية عادلة عزمت على تبنّيها حتى إيجاد حل يرضينا"..
تقول سماح، وهي أستاذة فلسفة وناشطة نسوية، إنها ترفض الوضع الراهن المتردي على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مضيفةً: "لقد شاركت في عشرات الاحتجاجات خاصةً في العشرية السوداء التي كانت السبب الرئيسي في الوصول إلى هذا النفق المظلم. لم يعد التونسي قادراً على توفير قوت يومه. ارتفاع الأسعار جنوني والمواد الأساسية كالحليب والسكر والخبز مفقودة، كذلك شهد الوقود أزمةً غير مسبوقة اضطرت التونسيين إلى الانتظار في الطوابير لساعات. جثث شبابنا وأطفالنا يلفظها البحر يومياً، ناهيك عن المفقودين الذين خلّفوا لوعةً في قلوب أهاليهم. إلى أين نتجه؟ أما آن الأوان لاتخاذ إجراءات حازمة تقطع مع السياسات الخطأ التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة؟".
تتابع المرأة التي اختارت الشارع للتعبير عن غضبها، بأن دافعها الأساسي للاحتجاج ليس دعوات الأحزاب إلى التظاهر وإنما خوفها وحرصها على مستقبل أبنائها وأبناء الشعب التونسي، "الذي تؤكد كل المؤشرات أنه سيكون صعباً"، وفق تقديرها.
وأكدت على أنها لا تنخرط إلا في التحركات الاحتجاجية السلمية التي تهدف إلى اقتلاع الحقوق وتغيير الأوضاع نحو الأفضل، لكنها في المقابل تندّد "بكل التحركات التي تشهد تطورات عنيفةً، سواء من قبل المحتجين أو من قبل أعوان الأمن".
احتقان شعبي
تشهد تونس خلال الأسابيع الأخيرة موجة احتجاجات غير مسبوقة شارك فيها التونسيون على اختلاف مشاربهم وقد كانت الذكرى 59 لعيد الجلاء (رحيل الجيش الفرنسي)، فرصةً للعديد من الأحزاب المعارضة للرئيس سعيّد، للتظاهر ودعوة مناصريها للنزول إلى الشارع والاحتجاج في مختلف شوارع العاصمة. المسيرات التي تنظمها الأحزاب تزامنت مع حالة احتقان وغليان تعيشها البلاد ترجمتها التوترات الاجتماعية والاحتجاجات في مختلف الجهات، خاصةً منها جرجيس جنوب شرق البلاد وحيّ التضامن في العاصمة.
وقد نفذ أهالي جرجيس إضراباً عاماً يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تسبب في شلل تام لجميع المرافق، وذلك على إثر فاجعة غرق مركب "حرقة" (هجرة غير نظامية) التي عاشتها الجهة، وكان على متنه 18 شخصاً.
وقد عمدت السلطات المحلية إلى دفن ضحايا المركب في "مقبرة الغرباء"، وهو ما أثار احتقاناً كبيراً في صفوف أهالي المنطقة كما عدّته المعارضة جريمة دولة، فيما تطالب عائلات المفقودين السلطات الرسمية ببذل مجهودات أكبر للبحث عن جثث ذويهم.
ونفّذ الاتحاد المحلي للشغل في جرجيس، إضراباً عاماً محلياً، يومي 24 و25 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، احتجاجاً على فاجعة غرق المكتب وارتفاع منسوب الاحتقان في الجهة، بالإضافة إلى استعمال العنف ضد سكان الجهة خلال مسيرتهم السلمية نحو جزيرة جربة، مكان انعقاد القمة الفرنكفونية.
تعقيباً على ما حدث، قال الرئيس سعيّد، لأهالي جرجيس: "من يعمل على إفساد هذه القمة فليعلم أنه فشل. صبراً يا أهالي جرجيس فإن الحقيقة آتية".
عودة الاحتجاجات الليلية
منطقة حي التضامن، وهو أكبر الأحياء الشعبية في تونس، عاشت بدورها على وقع احتجاجات لأيام عدة على التوالي، تحولت إلى اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن التي اضطرت إلى استعمال الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.
حسن الهيشري، ناشط في المجتمع المدني في حي التضامن ومدوّن، أفاد في حديثه إلى رصيف22، بأن حادثة مالك السليمي تعود أطوارها إلى نحو شهر ونصف الشهر، إذ كان برفقة صديقين له على متن دراجة نارية (من دون أوراق)، وبتفطنه إلى وجود دورية أمنية حاول الهروب فسقط وتعرض لكسور على مستوى الظهر والنخاع الشوكي تسببت له في شلل تام.
يقول الهيشري، إن صديقيْ السليمي تواصلا معه عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي، وأخبراه بأن صديقهم تعرّض للاعتداء من قبل الأمنيين، مما تسبب في سقوطه فنشر صور الضحية في المستشفى، ومنذ ذلك الحين انطلقت الاحتجاجات في حي التضامن تنديداً بالاعتداء على مالك السليمي.
منطقة حي التضامن، وهو أكبر الأحياء الشعبية في تونس، عاشت بدورها على وقع احتجاجات لأيام عدة على التوالي، تحولت إلى اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن
يضيف المتحدث: "بعد شهر ونصف من دخول السليمي في غيبوبة، توفي، فحاولت عائلته وأصدقاؤه الدفاع عن حقه عبر وسائل الإعلام المحلية، لأنه لولا تعرضه للضرب لما قفز من دراجته. من جهتها، نفت وزارة الداخلية هذه الرواية لتندلع الاحتجاجات. واكبنا الأحداث في الليلة الأولى لاندلاعها، وكان الهدف منها تسليط الضوء على القضية والوزارة أكدت أنها فتحت تحقيقاً وتم إيقاف الأعوان لكن بعد ذلك تسيّست الحادثة وتزامنت مع حالة الاختناق في البلاد وخروج المعارضة للتظاهر. حي "الانطلاقة"، المنطقة التي يعيش فيها مالك السليمي، توقفت فيه الاحتجاجات وتواصلت لأربع ليال متواصلة في حي التضامن. كرّ وفرّ بين الأمن والمحتجين أبناء المنطقة الذين أرسلوا إليّ مقاطع فيديو وطلبوا منا كمجتمع مدني التدخل لفائدة الشباب الذين تم اعتقالهم في المراكز. بالنسبة إلينا، نحن متشبثون بحق مالك، وعائلته وأصدقاؤه كان هدفهم مكافحة التعتيم الإعلامي وإثارة الموضوع وتحويله إلى قضية رأي عام، واعتقدوا أنه بعد تبليغ أصواتهم وتفاعل الداخلية سيتم تتبّع الموضوع بالقانون. لكن الاحتجاجات خرجت عن إطارها وأغلب الشباب المحتجين اليوم لديه إشكاليات مع الأمن ووجدوا بيئةً مناسبةً لإثارة الفوضى"، وفق ما يقول.
تعقيباً على أحداث حي التضامن، أكد رئيس مكتب الإعلام في وزارة الداخلية، فاكر بوزغاية، في تصريح لإذاعة محلية، أن بعض من وصفهم بـ"المندسّين" شاركوا في الاحتجاجات في حي التضامن وحي الانطلاقة لتنفيذ عمليات خلع وسرقة ولأهداف سياسية. كما لفت إلى أنه تم حجز أموال كانت ستوزَّع على المحتجين، لافتاً إلى أن ما يروج حول تعرض الشاب مالك السليمي للاعتداء من قبل أعوان الأمن، "فيه الكثير من المغالطات".
بدوره، قال رئيس الجمهورية قيس سعيّد، خلال إشرافه على إحياء ذكرى عيد الجلاء، إنه "سيحصل جلاء جديد في تونس حتى يتم التخلص من كل من يريد أن يضرب استقلالها، أو يتعامل مع الخارج، أو يكون خائناً وعميلاً للاستعمار"، على حد قوله، مضيفاً أنه لن يقبل "إلا بالنجاح وإنقاذ الدولة من براثن الذين يعبثون بها".
غضب الفلاحات
بعد سنوات من التهميش والتفقير، قررت الفلاحات التونسيات الخروج عن صمتهن والاحتجاج على ظروف العمل الرديئة التي تسببت في هلاك العشرات منهن خلال تنقلهن للعمل في شاحنات الموت. أمام المسرح البلدي في العاصمة، تحدثت "زهرة"، وهي خمسينية متحدرة من محافظة الكاف، عن معاناتها اليومية لكسب قوت يومها: "المرأة الريفية في تونس خارج حسابات الحكومات المتعاقبة. الوعود كثيرة ووضعيتنا على حالها منذ سنوات. غياب التأمين الصحي والتغطية الاجتماعية وأجر زهيد يعادل نصف ما يتقاضاه الرجل وشاحنات نقل أودت بحياة الكثيرات منا... فإلى متى هذه الوضعية؟".
تضيف زهرة في حديثها إلى رصيف22، أنها تستيقظ عند الساعة الرابعة صباحاً، وبالكاد تجهّز وجبة الصباح لأبنائها الثلاثة، وتتجه مسرعةً نحو الطريق الرئيسي في انتظار الشاحنة التي تقلّها وزميلاتها إلى مكان العمل، وعادةً ما تكون المسالك وعرةً والحقول بعيدةً يستغرق الوصول إليها ساعة أو أكثر. "أن تكوني امرأةً فلاحةً يوجب عليك أن تتحلي بالعديد من الخصال وأولها الشجاعة لمواجهة ما سيعترضك من مصاعب، وثانيها الصبر على أشعة الشمس الحارقة في الصيف، ولفحات النسيم الباردة في الشتاء"، تقول وتضيف: رسمت مهنتي الشاقة وظروف العمل القاسية على وجوهنا تجاعيد برزت قبل أوانها وعلى أيدينا شقوقاً عميقةً. نعمل من دون توقف وإذا توقفنا لسبب عائلي أو لمرض ألمّ بنا، لا نجد قوت يومنا. نتقاضى 15 ديناراً مقابل العمل ليوم كامل من السادسة صباحاً حتى الرابعة مساءً في حين يتقاضى الرجل 25 ديناراً. سئمنا التمييز والتهميش وسنواصل الاحتجاج لافتكاك حقوقنا".
البطالة "أنهكتنا"
يمثّل النزول إلى الشارع والاحتجاج متنفساً للتونسيين الثائرين على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي ما انفك يتردى يوماً بعد يوم، وبالرغم من أن نتائج الاحتجاج مخيبة للآمال غالبا ولا تحظى باهتمام الجهات المعنية، فإن التشبث بحق الاحتجاج أصبح مبدأ ثابتاً لدى التونسي الذي يعدّ أن الحقوق تُفتك ولا تُهدى.
شهدت نسبة البطالة خلال السنة الجارية تراجعاً طفيفاً، لتبلغ 15.3 في المئة، ومع ذلك فإن نسبة العاطلين عن العمل في صفوف الشباب مرتفعة جداً، ما دفع بالكثيرين منهم للاحتجاج والمطالبة بعمل لائق يحفظ كرامتهم. وقد أكدت نجوى البكوش، وهي صحافية خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار، أنها من مؤسسي تنسيقية خريجي معهد الصحافة المعطلين عن العمل وهي مجموعة تضم عدداً من الصحافيين الذين أحيلوا على البطالة بعد سنوات من العمل الهش، فخاضوا كافة الأشكال النضالية واحتجوا للمطالبة بحقهم في العمل.
"لقد نفّذنا وقفةً احتجاجيةً، وراسلنا رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة من خلال عريضة موقّعة من طرف عدد من الصحافيين، طالبنا فيها بالانتداب في مؤسسات الدولة في خطة ملحق صحافي، كما نفّذنا احتجاجاً على هامش مؤتمر النقابة الوطنية للصحافيين في أيلول/ سبتمبر 2020، وتم التوصل إلى اتفاق مع رئاسة الحكومة لانتدابنا بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر، لكنه لم يطبَّق إلى الآن. كما دخلنا في اعتصام في مقر نقابة الصحافيين في آب/ أغسطس 2021، لكن بعد ضغوط تم فضّه".
تضيف البكوش، أن المجموعة تشتّتت بسبب تملص النقابة من الدفاع عن حق الصحافيين في التشغيل، فضلاً عن أنه "مع الحكومة الحالية تحتج أو تنتحر ولا يشعر بك أحد"، مشددةً على أن المجموعة لن تستسلم وستعود بقوة للمطالبة بحقها في التشغيل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...