شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من البرلُّس إلى أسوان.. الفن يحيا خارج القاهرة

من البرلُّس إلى أسوان.. الفن يحيا خارج القاهرة

حياة نحن والحقوق الأساسية

الأحد 20 نوفمبر 202204:54 م

لعقود طوال، ظلت مدينة القاهرة مركزاً لكل فعالية ثقافية كبرى؛ بحكم استئثارها بمؤسسات صناعة القرار. من ثم؛ أصبحت قِبلَة ومستقراً للفنانين والكتاب الذين انهالوا عليها كالسيل من مدن وقرى مصر الأخرى، إلا قليلين استمسكوا بمواقعهم في مسقط رأسهم، وحافظوا على طابعهم الإبداعي الأصيل غير الملوث بدخان العاصمة السام.

 كانت هناك محاولات قديمة للخروج عن مركزية القاهرة مع تأسيس الكاتب الصحافي الراحل سعد كامل للثقافة الجماهيرية، قبل أن تقرر الدولة تبني مشروعه الثقافي وتضع عليه طابعها في الحقبة الناصرية، ساعية إلى استكشاف وتوثيق الفنون وخلق ساحات داعمة لفناني وكتاب الأقاليم المصرية خارج العاصمة، بل ونقل فنون العاصمة إلى خارجها، على اعتبار أن الثقافة والفنون حق لكل أفراد الشعب وليس سكان العاصمة فقط. لكن هذه الجهود مع الوقت؛ تداعت تحت وطأة البيروقراطية والترهل الحكومي الذي يقف بالمرصاد لأي محاولة لكسر المركزية.

المحاولات التي جاهدت خلال الحقبة الناصرية للتخفف من مركزية القاهرة في مجال الفنون ونشر العدالة الثقافية، انهارت تحت وطأة البيروقراطية والترهل الحكومي الذي يقف بالمرصاد ضد أية محاولة لكسر المركزية

وفي السنوات الأخيرة، بفعل من الظروف السياسية والمخاوف الأمنية، لا يخفى أن نهر الثقافة والفنون في العاصمة نفسها آخذ في الجفاف، ما شجع فنانين ومبدعين مصريين ينتمون إلى خارج العاصمة للعودة إلى مساقط رؤوسهم وبدء مبادرات فنية وثقافية مختلفة تحارب جمود وجفاف المركز.

لو وقفنا على التركيبة السكانية والبنية الأساسية لمدينة القاهرة، فهي تضم 25.5 مليون نسمة، أي نحو ربع سكان مصر، وبحسب الثبت الرسمي لمحافظة القاهرة، تحتوي العاصمة على 24 مسرحاً، وإن كانت مصر بها 325 دار عرض سينمائي – وفقا لإحصائيات رسمية من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء- تستحوذ القاهرة على معظمها.

تدير الدولة مؤسساتها الثقافية ومهرجاناتها الرسمية من وفي قلب العاصمة، حتى المراكز الثقافية الأجنبية التابعة للسفارات تركز نشاطها في القاهرة والأسكندرية فقط، ولا تخرج عنهما إلا نادراً.

مؤسس ملتقى البرلُّس الدكتور عبد الوهاب عبد المحسن أثناء الملتقى

هنا البرلُّس

لعقود طالت، ظل الفنان التشكيلي المصري الدكتور عبدالوهاب عبد المحسن أسيراً للعاصمة، يعرف زائري مكتبه حين كان مديراً للإدارة العامة لفنون في الهيئة العامة لقصور الثقافة، أنه كان يستغل كل فرصة ممكنة للهروب من العاصمة إلى مسقط رأسه في قرى البرلُّس الواقعة على البحيرة التي تحمل الاسم نفسه في محافظة كفر الشيخ.

وعندما أنهى خدمته الرسمية، عاد إلى البرلُّس ليبدأ ملتقاها الفني السنوي بعيدا عن العاصمة. يقول عبد المحسن لرصيف22: "أثناء عملي وكيلاً لوزارة الثقافة في الهيئة العامة لقصور الثقافة، لاحظت غياب العدالة الثقافية في الأقاليم والمحافظات. كل الأنشطة متركزة في القاهرة وبعض عواصم المحافظات الكبيرة، لذلك قررت تنظيم أنشطة ثقافية في مجال تخصصي كفنان تشكيلي، وأن تكون هذه الأنشطة في منطقتي وبين أهلي. يمكن أن تكون هذه الفكرة خطوة يقتدي بها كل فناني ومثقفي الأقاليم، وربما يكررون التجربة في محيطهم".

بحكم كونه بين العالمين، عالم "الثقافة الرسمية" والمبادرات الفنية المستقلة، يجد عبد المحسن أن المبادرات الفردية أكثر ألقاً من الجهود الرسمية التي عادة ما تلجأ لقوالب ثابتة من دون ابتكار أو تجديد

ملتقى البرلس الدولي للرسم على الحوائط والمراكب الذي اختتمت دورته التاسعة في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لا يخلق فقط تفاعلاً فنياً خارج العاصمة في منطقة منسية؛ وإنما يعيد الفن للناس ويترك منتجه بينهم، ليخرج عن أسر قاعات الفنون المغلقة.

وعن اختيار هذه المدينة تحديدا يقول عبد المحسن لـرصيف22: " البرلس مكان ملهم، مسكون بالطاقات الإيجابية. ومصدر ملهم لتجربتي الفنية منذ عشرات السنين. ويحتاج للفت الأنظار إليه كمنطقه تتوافر فيها كل وسائل الجذب السياحي، كما أنها ذات كثافة سكانية كبيرة، ومحرومة من أي خدمات ثقافية".

النسخة التاسعة لهذا الملتقى جاءت بمشاركة 25 فناناً وفنانة من عشر دول: الهند وإيطاليا وصربيا وبولندا والنرويج والأردن وتونس والسعودية ومصر.

يوضح عبد المحسن: "تقوم المؤسسة بدعوة فنانين من أنحاء العالم للرسم علي الحوائط والمراكب، ويجري تنظيم هذه الفعالية السنوية للرسم في الشوارع أمام كل الناس من سكان البرلس، لتوصيل رسالة من خلال الفن، مفادها نشر البهجة والجمال والتفاؤل وتعزيز قيم الانتماء".

ملتقى البرلس الدولي للرسم على الحوائط والمراكب، لا يخلق فقط تفاعلاً فنياً خارج العاصمة في منطقة منسية؛ وإنما يعيد الفن للناس ويترك منتجه بينهم، ليخرج عن أسر قاعات الفنون المغلقة

يتوقف عبد المحسن طويلاً عند شرح "تعزيز الانتماء" الذي اتى على ذكره، فالمسألة بالنسبة له ليست مجرد شعار، أو جملة اعتادت البيانات الرسمية الصادرة عن موسسات الدولة إدراجها، بل هي استشعار منه لواقع المناطق المهمشة مثل البرلُّس: "تعزيز الانتماء مهم جداً، خاصة في المناطق التي تكثر فيها العوامل المحفزة على الهجرة غير الشرعية، وهي غالبا المدن القريبة من السواحل".

بحكم كونه بين العالمين، عالم "الثقافة الرسمية" والمبادرات الفنية المستقلة، يجد عبد المحسن أن المبادرات الفردية أكثر ألقاً من الجهود الرسمية التي عادة ما تلجأ لقوالب ثابتة من دون ابتكار أو تجديد.

الفنانة المصرية سماء يحيى ومشاركتها في الدورة التاسعة لملتقى البرلُّس - الصورة إهداء من الملتقى

الشعر في طنطا

"أشجع منظمات المجتمع المدني والمبادرات الفردية على إقامة مهرجانات ثقافية للشعر أو الأدب. وممكن أن ينجح المهرجان بالدأب والإصرار والإخلاص. نحن ستة أفراد ننظم مهرجاناً دولياً للشعر، استضاف على مدى 8 سنوات ما يزيد على 200 شاعر عربي وأجنبي إلى جانب المصريين. هذا العام كان لدينا شاعرة من جواتيمالا، وشاعر من السكان الأصليين في كندا، وشعراء من الهند ومن المكسيك وكوسوفو، وغيرها من الدول التي تمثل ثقافة مختلفة تماما وغريبة عنا".

يشرح الشاعر محمود شرف، مؤسس ورئيس مهرجان طنطا الدولي للشعر، كيف بدأت الفكرة عام 2015: "المهرجانات [الشعرية] التي حضرتها في الخارج لم تكن في العواصم، في المكسيك مثلاً كان المهرجان في مدينة اسمها ثامورا شمال شرقي البلاد، وهي مدينة صغيرة جداً، أصغر من مدينة طنطا. في أسبانيا كان المهرجان في طليطلة على بعد 90 كيلو تقريبا من العاصمة مدريد، ورأيت حضوراً كبيراً للشعر لدى الجمهور. قلت لماذا لا نفعل هذا في مصر؟ وبما أنني من طنطا، لماذا لا أفعل هذا في مدينتي خاصة أنها محرومة ثقافياً؟ حين طرحت فكرتي على الدكتور جابر عصفور (وزير الثقافة الأسبق)، رحب جدا بالفكرة وأشار إلى الصعوبات التمويلية التي يمكن أن تواجه مؤتمراً بهذا الحجم، فقلت له إننا لن نتكلف شيئاً بخصوص حضور الشعراء، وتولت الوزارة دعم المهرجان مادياً، لكن التنظيم كله يعود لجمعية شعر للأدباء والفنانين بالغربية التي أترأسها".

فعاليات المهرجان تتكون من أكثر من ندوة وأمسية شعرية في أماكن تتنوع بين المدارس والجامعات ونوادي الشباب في طنطا وبعض القرى المجاورة، وفي السنوات الأولى كانت الأمسية الافتتاحية تقام في ساحة مسجد السيد البدوي، الأمر الذي توقف منذ عامين بسبب كورونا، "لكن في السنوات القادمة سنعود لهذا التقليد خاصة أن ساحة السيد البدوي تشهد حضوراً جماهيرياً كبيراً".

الدورة الثامنة للمهرجان انتهت قبل أيام، وشهدت حضوراً كبيراً في حفل الافتتاح وصل إلى 600 شخص، وهو عدد كبير بالنسبة لمهرجان شعري، يعلق شرف: "هذا يؤكد أن الناس ليست منصرفة عن الشعر، لكن المشكلة أنهم ليس لديهم معرفة به، نحن كشعراء أو مبدعين ننتظر أن ياتي إلينا الناس في الندوات أو في قصور الثقافة أو غيرها، في حين أننا يجب أن نذهب نحن إليهم في أماكن تجمعاتهم".

يؤكد شرف أنهم لم تواجههم عقبات سوى الدعم اللوجستي، فرغم أن المهرجان أصبح على خريطة المهرجانات الثقافية الدولية في مصر، ويقام تحت رعاية وزير الثقافة بشكل مباشر، فإن دعم الدولة محدود والدعم الخاص غير متوفر، خاصة أن الجهات الأهلية المانحة لا تهتم بالشعر والأدب، تهتم بالفن والرياضة أكثر.

وعن مستقبل المجتمع المدني والمبادرات الفردية في الخروج بالفعاليات الثقافية من القاهرة يقول شرف: "لا بد من نشر الثقافة بقوة الأمر الواقع، أتمنى أن يتكرر هذا المهرجان في نسخ متعددة في ربوع مصر على مدار العام، بهذا نستطيع استقطاب الشباب وإبعادهم عن الأفكار الهدامة، عبر فعاليات ترفع من وعيهم وتغذي أرواحهم وحسهم الإنساني. القاهرة مكتظة بالفعاليات، وربما هي بحاجة للمزيد، لكن في الوقت نفسه هناك مدن أخرى مثل دمنهور أو المنصورة أو قنا، ليس لديها أي شيء".

نافذة لنساء الصعيد

إذا انتقلنا إلى عالم الفن السابع، ففي أقصى جنوب مصر، قرر اثنان من السينمائيين إقامة مهرجان لأفلام المرأة. يقول الكاتب الصحفي حسن أبو العلا مدير مهرجان أسوان لأفلام المرأة: "هناك ضرورة ملحة لخروج الأنشطة الثقافية بعيداً عن مركزية القاهرة. وأسوان مثل كل أقاليم مصر، بها مواهب، ومن حق أبنائها أن تكون لديهم فرص لمشاهدة الأنشطة الثقافية. وأتصور أن مبادرات المجتمع المدني ستكون هي الرهان الذي يمكن أن يحقق هذا الهدف، خاصة أنني أعتبر الفن الوسيلة المثلى لمواجهة الإرهاب والتطرف والتيارات الظلامية”.

بدأت فكرة مرجان أسوان لسينما المرأة بمبادرة من أبو العلا، وصديقه السيناريست محمد عبدالخالق. يقول أبو العلا: "اخترنا تيمة المرأة لأن السينما المصرية قامت على أكتاف شخصيات نسائية. بدأت على أيدي فنانات عظيمات مثل عزيزة أمير وفاطمة رشدي، وبعد ذلك آسيا داغر وماري كويني وغيرهن من الرائدات. كنا حريصين من البداية أن يكون المهرجان خارج القاهرة، لإضافة طاقة نور ثقافية بعيداً عن الطاقات الموجودة في العاصمة. واخترنا أن نذهب إلى أبعد نقطة عن القاهرة، وتتوافر فيها شروط كثيرة جاذبة لإقامة مهرجان، بداية من طبيعتها الخلابة وأبعادها التاريخية وهي معروفة عالمياً، حتى لصناع السينما والنجوم العالميين، حين نخاطبهم عن مهرجان أسوان يكون لديهم تصور عن المدينة وتاريخها الموغل في القدم".

الجمهور الذي يحضر المهرجان متنوع، من كل الشرائح والأعمار تقريباً، بداية من سن 16 وحتى 60 سنة.

وحرص المهرجان على التعاون مع المجتمع المدني في أسوان، وأن يتداخل مع نسيج المجتمع الأسواني من خلال ورش التدريب التي نظمها، هذه الورش يشارك فيها شباب من أسوان ومحافظات الجنوب ويأتي أهلهم لرؤية إنتاجهم: "الجمهور محروم. ليس لديه سوى سينما واحدة، تعمل في فترات معينة من السنة. تعرض الأفلام التجارية فقط. خلال المهرجان أهالي أسوان يكون لديهم فرصة لمشاهدة أفلام من كل دول العالم، وحرصنا على ترجمة الأفلام حتى يتفاعل الجمهور مع المهرجان، ومن أبرز إنجازات المهرجان وصولنا إلى رجل الشارع العادي في أسوان".

يشمل المهرجان أنشطة متعددة، منها برامج للأفلام الطويلة والقصيرة، ومنتدى نوت لقضايا المرأة وتشرف عليه الدكتورة عزة كامل، ويعرض الأفلام التي تناقش قضايا المرأة بجرأة وحرية، وهذا البرنامج تحديداً يأتي بتنسيق مع المجلس القومي للمرأة. إضافة إلى هذا يقدم المهرجان فرص للتدريب على الإخراج والتصوير وكتابة السيناريو، يقول مدير المهرجان: "لدينا أكبر برنامج تدريبي لمهرجان سينمائي في مصر، يتدرب لدينا حوالي 230 فتاة وشابا من أسوان وجنوب مصر، وأسسنا مدرسة الكادر التي أطلقناها بالتعاون مع هيئة بلان مصر، لتخريج أجيال جديدة من الشباب الذين يهوون السينما، هذه الورش أخرجت أفلاما قصيرة شاركت في مهرجانات مهمة مثل مهرجان قرطاج ومهرجان الرباط لسينما المؤلف. وأصبح لدينا قاعدة من الشباب الذين يشكلون نواة لسينمائيين أرى أنه سيكون لهم مستقبل رائع".

يشير أبو العلا إلى المشكلة الرئيسية التي واجهت المهرجان منذ البداية وهي مشكلة التمويل، فالدولة كانت تمول 37% من ميزانية المهرجان، في الدورة الأخيرة انخفض دعم الدولة إلى 17% من الميزانية. "التمويل طوال الوقت يمثل مشكلة، نحن مطالبون بتوفير باقي الميزانية من الرعاة والشركاء من المجتمع المدني".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image