شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"مين الخاين اللي ورَّاها مصر؟"... هبَّة وطنيّة ضدّ مغنيّة كولومبيّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن وحرية التعبير

الخميس 17 نوفمبر 202204:18 م

لافتة على رمال صفراء، تحمل بالعربية كتابة بخطوط مختلفة تتضمن اسم الأغنية/ المدينة "القاهرة"، يليها اسم المخرج وتبدأ موسيقى خفيضة ترتفع بتسارع ويظهر معها صوت ووجه المغنية الكولومبية كارول جي، مرددة أغنيتها لحبيبها فيما تنتقل الصورة إلى شوارع ضيقة، تشبه الشوارع التي تميز منطقة القلعة، وبيوت سكانها الذين قد تُزال مساكنهم قريباً وفق خطط الدولة التوسعية للقضاء على "العشوائيات".

أغنية فنانة الريجي-تون الكولومبية التي حازت حتى لحظة نشر هذا التقرير ما يزيد على 10 ملايين مشاهدة منذ إطلاقها يوم الأحد 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، تنقل  صوراً لقاهرة تسعى الحكومة الحالية إلى القضاء عليها، وتحويلها جميعها إلى "وجه حضاري" كما يتمثل في وحدات حي الأسمرات والعمائر الرمادية الشاهقة التي احتلت موضع المساكن الشعبية المتواضعة في منطقة مثلث ماسبيرو، وهو عينه ما ردده مواطنون مؤيدون أثارت الأغنية فزعهم وغضبهم، مطالبين بملاحقة كل من صرح للمطربة الكولومبية وفريقها بالتصوير في مصر، وفرض رقابة على المواد الأجنبية المصورة داخل البلاد وتوجيه أصحابها إلى التصوير في الأماكن التي تعكس "وجه مصر الحضاري الجديد" بحسب رؤيتهم.


أغنية الفنانة الكولومبية تنقل  صوراً لقاهرة تسعى الحكومة الحالية إلى القضاء عليها، وتحويلها جميعها إلى "وجه حضاري" كما يتمثل في وحدات حي الأسمرات والعمائر الرمادية الشاهقة التي احتلت موضع المساكن الشعبية المتواضعة في منطقة مثلث ماسبيرو

مكارثية مصرية

في خمسينيات القرن الماضي، ظهر تيار "المكارثية" في السياسة الأمريكية، نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي "جوزيف مكارثي"، الذي أسس لملاحقة المثقفين والفنانين والمواطنين على أساس التفتيش في معتقداتهم وأفكارهم السياسية والاجتماعية، ومحاصرتهم باتهامات التآمر والخيانة التي تتكفل بعزلهم عن المجتمع وخسارة وظائفهم أو حتى سجنهم من دون أدلة. 

 هذا التيار الذي ظهر بقوة في الولايات المتحدة خلال الخمسينيات، ثم أخذ في التراجع لاحقاً، ارتد إلى مصر خلال العشر سنوات الأخيرة من خلال تيار عرف باسم "الدولجية" وهو نسخة محدثة من المكارثية لا تعادي الخصوم فقط وإنما تعادي المناصرين أيضاً تحت اسم الحفاظ على صورة الدولة. 

بعد أن أطلقت المطربة اللاتينية كارول جي "كليبها" الغنائي الجديد "القاهرة"، والذي أظهر إلى جانب صور البسطاء والمساكن في الأحياء الشعبية، صوراً أخرى لبعض معالم القاهرة الكبرى السياحية التاريخية كالأهرامات ومسجد السلطان حسن، وبعض الأحياء الشعبية، سرعان ما احتل المرتبة الثانية كأكثر المقاطع الأعلى مشاهدة على منصة يوتيوب.

هذا النجاح لفت أنظار تيار "الدولجية" ليبدأوا في توجيه انتقاداتهم الحادة للكليب باعتباره "مسيئاً لصورة مصر" ويظهر الأحياء "العشوائية الفقيرة"، متجاهلاً التصوير في المدن الجديدة التي أنشئت على أطراف القاهرة، أو الأبراج الجديدة في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.

 "تخيل يتعمل فيديو بتغني فيه لأسمنت العاصمة الإدارية ولا فى مدينة جديدة، وتسيب منطقة زي القلعة والأهرامات وعابدين، طب ما كانت [كارول جي] راحت قطر ولا الإمارات هتلاقى أسمنت أكتر من عندك"

"ملكيون أكثر من الملك"

رغم احتفاء الإعلام المصري المملوك في معظمه لأجهزة سيادية ورجال أعمال موالين للدولة، بالمقطع الغنائي باعتباره دعاية مجانية للسياحة المأزومة في مصر، اعتبر "الدولجية" على منصات التواصل الاجتماعي أن الفيديو ربما يحمل مؤامرة على مصر.

 

البداية كانت من لؤي الخطيب مقدم البرامج على قناة أون المملوكة لأحد الأجهزة السيادية، والمعروف بدفاعه الدائم عن الدولة والرئيس، وهو انتقد مقطع الفيديو وعبّر عن غضبه من صورة القاهرة والجيزة في الفيديو. قال "فكرة إن كليب يتصور في مصر مش مهمة في حد ذاتها، لأن المهم هو شكل الصورة اللي بتتقدم". 

أضاف الخطيب متعجباً "كليب كارول جي هو مجرد استمرار لتقديم نفس الصورة النمطية، دولة لها تاريخ عظيم وناسها عايشين في العشوائيات والزبالة!".

واستكمل "اتفرج كده على أول 5 صور، اللي هما من الكليب، وقول لي فين الشيء الجذاب اللي يخلي أي سايح يتفرج ويقول أنا عايز أزور المكان ده؟ طيب دي مؤامرة؟ مفيش دليل على كده، بس الكليب لازم يبقى لمبة حمرا لينا كلنا دولة وشعب إن الصورة النمطية اللي استمرت عشرات السنين لسه موجودة رغم إن في تغيير حقيقي على الأرض، وده ممكن تشوفه في الـ5 صور التانيين، دي مناطق في قلب القاهرة "ميدان التحرير - زهور مايو - روضة السيدة - أبراج ماسبيرو - سور مجرى العيون".

وألقى الخطيب باللوم على الصورة النمطية المأخوذة عن مصر على الحكومة والشعب في آن واحد. قال "المناطق دي (يقصد المشروعات الجديدة) قريبة جداً من الأماكن اللي اتصور فيها الكليب، بس ماحدش شافها. ولو في حد لازم نلومه على كده يبقى احنا كدولة وشعب قبل أي طرف تاني، لاننا مش بنسوق اللي بيحصل عندنا كما ينبغي، ودي حاجات جوا العاصمة التاريخية، فما بالك بالعاصمة الجديدة وأكثر من 20 مدينة جديدة تانيين على أرض مصر؟"


منشور الخطيب المعروف بكونه "قائد رأي" وسط ذلك التيار، كان إشارة انطلاق لسلسلة من التعليقات والتغريدات التي عبرت عن غضبها من مقطع الفيديو الذي صور مصر في صورة "جِمال، وصحراء: وعشوائيات: وصور بدائية: وحافلة قديمة تبدو منذ عصر الستينيات"، لم ترق لأنصار الدولة أن تظهر في مقطع فيديو حقق انتشاراً واسعاً، حتى أن بعض المعلقين على منشور الخطيب اعتبر تصوير مقطع الفيديو مؤامرة على مصر نفّذه أحد الخائنين من داخل الدولة "أكيد الفريق بتاع التصوير ليه حد جوه مصر كان بيرشده و يقترح عليه الأماكن دى"، مضيفاً "عندنا خاين من جوه".

كله من صورة مصر

ما يواجهه كليب المغنية الكولومبية، هو السبب نفسه الذي جعل الدولة المصرية تعرقل تصوير العديد من الأفلام والأغاني والمسلسلات الاجنبية في مصر، خشية أن يطلع الوافدون وجمهورهم على ما "يسيء إلى سمعة الدولة المصرية" على النحو الذي تراه الدولة.

لكن مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها مصر خاصة في قدرتها على توفير العملة الصعبة، إلى جانب التراجع الكبير في قطاع السياحة المتباطئ، مقارنة بدول أخرى لا تملك الإمكانيات السياحية التي تمتلكها مصر، سعت الدولة في الأشهر الأخيرة إلى التخفيف من القيود المفروضة على التصوير في مصر.

لكن خطاب القلق على "صورة مصر" وسمعتها قديم ومتجذر، ووقفت الدولة وراء ترويجه من خلال برامجها وإعلامها. وشهد أبرز تجلياته في انتفاضة عدد من الممثلين من نفس التيار "الدولجية" ضد فيلم "ريش" أثناء عرضه في الدورة الأخيرة من مهرجان الجونة السينمائي. 

وشهدت الكثير من الأفلام السينمائية المصرية المحلية هجوماً من قبل بدعوى الإساءة إلى سمعة مصر، منها أفلام المخرج خالد يوسف الذي لقبه نقاد بـ"مخرج العشوائيات" لتبنيه تقديم أنماط العلاقات والصور التي تحكم عالم المناطق العشوائية في مصر، والتي يخلط الخطاب الحالي بينها وبين الأحياء الشعبية.

واتهم أبناء التيار مقطع الفيديو، بكونه يشبه أفلام خالد يوسف، كما ظهر في أفلام "حين ميسرة، ودكان شحاتة"، وهي أفلام اعتبرها بعض المحسوبين على تيار الدولة مسيئة لسمعة مصر، ودافع عنها يوسف بأن الفن ينقل الواقع ولا يجمله. 

خطاب القلق على "صورة مصر" وسمعتها قديم ومتجذر، ووقفت الدولة وراء ترويجه من خلال برامجها وإعلامها. وشهد أبرز تجلياته في غضبة عدد من الممثلين من نفس التيار "الدولجية" ضد فيلم "ريش" أثناء عرضه في الدورة الأخيرة من مهرجان الجونة السينمائي

وكتبت إحدى المتفاعلات على منشور الخطيب معلقة "ولا أنا مبسوطة ولا عاجبني أصلاً. فكرني بأفلام خالد يوسف، بس الفرق إن مفيش عشوائيات تصورها. أولاً التصوير نفسه سيء، الألوان وحشة"، وأضافت "التصوير قصد يظهر صور تدل على الفقر والجهل، وتجاهل النهضه اللى حصلت والتغييرات الحديثة، أنا كمان أول ما شوفته قولت مؤامرة بس خلتها فى نفسي". 

مغردة أخرى واصلت الحديث على نفس النسق فكتبت متسائلة "وأنا معاك الفيديو مش عجبني واحنا مش كنا خلصنا من المناطق العشوائية وقضينا عليها؟ الفقر مش عيب بس القبح يقترن بالعظمة ليه؟". 

ورغم محاولات الحكومة للقضاء على المناطق العشوائية، لا تزال محافظتا القاهرة والجيزة، بهما مناطق عشوائية لم يطلها قطار "التطوير"، وتصنف ضمن المناطق الخطرة من الفئة الأولى، وفقاً لتقرير حكومي.

ما لا يفهمه المؤيدون

تشتهر أغاني مطربي أمريكا الجنوبية بتصويرها في الشوارع والحارات الملونة لبلادهم. أحياناً تخرج تلك الأغاني للتصوير على شواطئ المحيطات أو الغابات التي تعمر بها القارة ذات الطبيعة الثرية، لكن غالبية الفيديوهات تهتم بتصوير الحياة العادية في مناطقها الطبيعية من دون عناية بمحو مظاهر الفقر أو إخفائها، بل تعتمد على تقديم الجمال والقدرة على الاحتفاء بالحياة والاستمتاع بها رغم ذلك الفقر. كما يظهر في الأغنيات المصورة الكولومبي "مالوما"، وموسيقى الشارع للكوبي أرماندو فلوريس، كما انبنت عليه مسرحية ناجحة حازت جائزة التوني أوردز المسرحية الأمريكية، وهي المسرحية الموسيقية In the Heights للأمريكي اللاتيني الأصل لين مانويل ميراندا.

 

وسط الهجوم، انتبه البعض إلى تلك المعلومات، إذ نُشرت بعض الإشادات بالتصوير، واعتبر المشيدون أن الفنانة اللاتينية قدمت دعاية مجانية للسياحة في مصر، منبهبين إلى أن التصوير في المناطق الفقيرة بشكل عام هو عادة الفنانين القادمين من أمريكا اللاتينية، الذين يفضلون التصوير في مناطق تشبه بلادهم، على غرار الأغنية الشهير ديسباسيتو

ومما ينفي ما أشيع من نظرية المؤامرة، تعليق كارول جي على أغنيتها في مصر، إذ احتفت بزيارتها القاهرة، واعتبرت أن دخولها إلى الأهرامات كانت لحظة مهيبة، وقالت إن القاهرة واحد من أفضل خمسة أماكن في العالم حلمت بزيارتها، وأن التصوير داخل الأهرامات وأبو الهول كان هدفاً تمناه قبلها، مضيفة أن "تحقيق الأحلام أثناء العمل أمر لا يقدر بثمن". 

وكتب أحد المغردين ساخراً من تعليق لؤي الخطيب "تخيل يتعمل فيديو بتغني فيه لأسمنت العاصمة الإدارية ولا فى مدينة جديدة، وتسيب منطقة زى القلعة والأهرامات وعابدين، طب ما كانت [كارول جي] راحت قطر ولا الإمارات هتلاقى أسمنت أكتر من عندك". 

وعلق آخر معتبراً أن الأحياء الشعبية هي روح مصر وكتب "لا، الفيديو جميل وروحه حلوة والأحياء الشعبية دي موجودة ومنتشرة جداً في دول أمريكا اللاتينية وتقدر تشوف أي أغنية لاتينية هتلاقي نفس الأماكن ونفس ستايل التصوير"، متسائلاً "عايزهم يصورو الفيديو كليب في الأسمرات ولا بشاير الخير يعني؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image