لدى كلّ شخص شاشته الخاصة، الكلّ أمامه عشرات الفرص لأن ينتج محتواه وينشره للعالم، ربما هذه هي عدالة الإنترنت التي مكنت الجميع من النشر والتوزيع ببعضِ الجهد وقليلٍ من التكلفة. لكن هذه العدالة كما خلقت فرصاً وسياقات جديدة، لم تتح فرصاً واسعةً للفكاك من أسرِ الخطابات السائدة وعلاقات القوى المتجذرة.
ظهر هذا بشكل واضح في الاستقبال الشعبي والمتخصص لشخصين اعتليا قمةَ الترند خلال أسابيع الفائتة، وحازا الشهرة ودرجاتٍ متفاوتةً من الإعجاب والقبول. لكن السياقات الاقتصادية والاجتماعية التي نستعرضها ونحاول تحليلها في هذا المقال، والقوى المهيمنة عليها، استطاعت أن تئد الفرصة ليبقى "الترند".
"الموهبتان" هما أحمد سالم المعروف بالمطرب النقاش، وهيثم جاكسون الذي يدعو نفسه "ويجز الغلابة"، وقد حقق انتشاراً واسعاً بمقطع "أنتش واجري".
السياقات الاقتصادية والاجتماعية والقوى المهيمنة عليها التي نستعرضها ونحاول تحليلها في هذا المقال، استطاعت أن تئد الفرصة التي منحتها "عدالة الإنترنت" لمواطنين من البسطاء، أحدهما على الأقل لا اختلاف على موهبته، لتضيع الفرصة ويبقى "الترند"
معايا نت ومعايا وقت
منذ شهرين انتشر مقطع لسالم وهو يمارس عمله بينما يغنى أغنية "بكرة يا حبيبي" ، بعد أن شاركه الشاعر عمرو حسن. بينما أكد سالم أن عمر الفيديو سنتان، وأنه صوّره في الإمارات، لأنه هناك "لقى الوقت والنت". وبحسب معلومات الفيديو المنشور عبر حسابه الشخصي على يوتيوب، فإن عمر الفيديو يصل إلى عامين فعلاً.
سالم شاب 32 سنة من مركز زفتى بمحافظة الغربية، متزوج ولديه طفلان. هوايته الغناء، ولكن يعمل في مجال النقاشة منذ أن بلغ التاسعة ليساعد والدَه الذي رفض انشغاله بالفن، وقد صرح: "لو كنت اديته فرصة بأمانة أحمد كان هيبقى حاجة عالية أوي". كان سالم يقدم بعض الفقرات الغنائية في أفراح أصدقائه، لكنه رفض العمل مقابل أجر، لحيرته إن كان الغناء والكسب منه حلالاً أم حراماً.
شارك الشاعر عمرو حسن مقطعَ سالم، وقدمه لمتابعيه، كما قدمه لجمهوره في حفلتين شعريتين، واحدة في مسرح الزمالك، والأخرى بمكتبة الإسكندرية، وفيها نصحه ألا يخاف الجمهور "لأن المسرح للفقراء أمثالهم". أما في مداخلته مع قناة CBC، قال عنه حسن: "صوته هو تعبير عن هوية مصر وصوتها".
أعاد مشاهير وشخصيات عامة نشرَ المقطع الغنائي، ما ساهم في انتشار سريع مصحوب بهاشتاغ "المطرب_النقاش". من المشاركين كان علاء مبارك نجل الرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذي أعرب عن إعجابه بسالم معلقاً: "أجمل من أصوات كثيرة موجودة الآن على الساحة... بصراحة مايتسابش".
سرعان ما حلّ سالم ضيفاً على عدد من البرامج التلفزيونية، وأعلن عدد من مشاهير كتابة الأغاني والملحنين والمطربين عن رغبتهم في العمل معه. ثم أقيم له حفلٌ في قاعة النهر بساقية الصاوي يوم 20 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وحقق نجاحا ملحوظاً، ما يشي بانتقاله من "ترند" على السوشال ميديا إلى ساحة القبول الجماهيري الناجح.
نجاح الحفل لفت نظر المطربة السورية المقيمة في مصر أصالة، التي دعت سالم إلى مشاركتها الغناءَ في حفل ختام مهرجان الموسيقى العربية، الذي يقام على مسارح وقاعات دار الأوبرا المصرية ومعهد الموسيقى العربية بوسط القاهرة. ولكن قبل الحفل مباشرة، أُبلغ سالم بأنه غير مرحّب به في المهرجان، ونقل الناقد والكاتب الصحافي طارق الشناوي عن مصادره بإدارة المهرجان أن ملحناً كبيراً، معروف عنه آراؤه الحادة، وجد أن "المطرب النقاش" لا يليق بوقار دار الأوبرا المصرية ولا مهرجان الموسيقى العربية.
موجة الغضب التي انطلقت في وسائل التواصل الاجتماعي، دفعت إدارة المهرجان لإعلان أن سبب استبعاد سالم لا علاقة له بخلفيته الاجتماعية أو حرفته، وإنما غياب الترخيص من نقابة المهن الموسيقية، على الرغم من أنه استخرج تصريحاً من النقابة نفسها لإقامة حفل "ساقية الصاوي" من دون مشاكل
ولم يكن من الصعب على المتابعين استنتاج هوية هذا الملحن الكبير المشار إليه، لتهبّ موجةٌ غاضبة وساخرة ضد هذا القرار، دفعت إدارة المهرجان لإعلان أن رفض سالم لا علاقة له بخلفيته الاجتماعية أو حرفتِه، وإنما لأنه لا يحمل تصريحاً من نقابة المهن الموسيقية، على الرغم من أنه استصدر تصريحاً من النقابة نفسها –قبلها- لأداء حفله في ساقية الصاوي، وكذلك على الرغم من أن المهرجان يستصدر تصاريح الأداء العلني لكافة المطربين العرب القادمين للمشاركة في المهرجان من دون عوائق.
لكن الملحن حلمي بكر، عضو اللجنة العليا للمهرجان، الذي استنتج كلُّ من تابع الأخبار أنه صاحب قرار منع سالم من المشاركة في الحفل، أدلى بتصريحات صحافية، قال فيها إن "سالم لا بدّ من تأهيله قبل أن يقف على خشبة الأوبرا"، ولم يقترب من مسألة التصريح.
يبدو أن الانترنت ساعد سالم في هزيمة بعض من تقاطعات وضعه الاجتماعي، من تربية محافظة رافضة للعمل في مجال الفنون الأدائية، تحديداً الموسيقى، وأصوات أصولية تخيفه من كسب الرزق عبر الموسيقى، إلى جانب انتمائه لقرية بعيدة عن العاصمة التي تقبض بمركزيتها على الثقافة والفنون، وخلوّ المناخ الثقافي من مؤسسات داعمة للمواهب.
في النهاية استطاع سالم بصوته أن يلفت الأنظار في هذا العالم الكبير الذي رحب به وبالغ في استقباله. هذه المبالغة لم تكن فقط تقديراً لموهبته، فمصر بها الكثير من الموهوبين المجهولين، ولكن الترحاب ربما نبع من أنه استطاع تلبيةَ نداء النموذج الأيديولوجي كما يقول عالم الاجتماع ألتوسير: " كلّ الأيديولوجيا تنادي على الأفراد"، وهذا يتحقق من خلال تحضير نموذج مثالي مع إظهار عمليات تسابق الأفراد للوصول إليه، وكما تحافظ الدولة على نموذج المواطن "الشريف" من خلال القانون، جرت نمذجة سالم في قالب الشاب المكافح صاحب الموهبة المدفونة التي تستحق التدخل والإنقاذ.
نجح سالم بتمسكه بإعادة غناء الأغاني الطربية، وتكراره لأغاني البوب المصري السائدة، مع إعلانه عن ظرفه الاقتصادي والاجتماعي، في طمأنة كثيرين على أن النموذج لا يزال فعَّالاً، وهناك من يحتذي به. فصار دعم جمال لسالم هدفه الارتقاء بالذوق العام، وصوته هوية مصر كما قال عمرو سلامة. وبوركت جهوده برضا الله الذي كتب لسالم نصيباً من الشهرة، ووهبه القبول. ولكن هذه النفحة الإلهية لم تفتح باب المؤسسة الرسمية التي لا زالت تطلب من سالم التدريب والمهارة.
"أنتش واجري" عكس التيار
على النقيض تماماً اختار هيثم أحمد (هيثم جاكسون) الظهور فوق أحد أسطح العمارات، لتصوير وتقديم مقطع راقص غنى فيه ما استطاع التقاطه من إنكليزية مايكل جاكسون في أغنية "Smooth criminal"، واشتهرت نسخته سريعاً من خلال كلمتين اثنتين مهفومتين وسط الأصوات التي كان يصدرها، هما "أنتش واجري".
حقق المقطع ملايين المشاهدات. اعتبر البعض أنه مقطع ساخر، ومن هؤلاء فنانون أدوا رقصاتٍ على المقطع، بينما استهجن البعضُ انتشارَ المقطع، وسخروا من شكل هيثم وصوته وحركاته وملابسه، ومنهم صانع المحتوى إسلام فوزي الذي قدم مقطع "أنتش واجري" في فيديو بعنوان "مواهب مدهونة".
@hossammohamed1734 اسمع#ويجز ♬ انتش واجري - تيك توك
في لقاء مع موقع القاهرة 24 الإخباري، قال هيثم: "أنا إيه اللي خلاني دبيت صدري؟ عشان معيش جيتار. أنا بسيط". أنهى المقابلة المراسل الصحافي الذي اتبع قواعد الصحافة المصرية في اختطاف الترند، وتناسى القواعد المهنية التي تفرض على الصحافي عدمَ التعليق على المصدر أو إبداء الرأي فيه أو توجيه الانتقادات إليه، فسارع للتعليق على كلام "ويجز الغابة" كما يلقب نفسه بـ: "إحنا كقاهرة 24 لا نشجع الإسفاف، وبننصحك إنك تخلي اللي بتعمله ده إيجابي، تخلي بيه حد يبطل مخدرات أو يبر والديه، وخلينا نوعد الناس أن لا إسفاف بعد الآن".
في برنامج "سبوت" على قناة الشمس، والذي استضاف هيثم ليضمن تحقيقَ مشاهدات وتفاعلاً جيداً على شبكات التواصل الاجتماعي، قاطع المذيع أحمد رضوان هيثم أثناء غنائه، قبل أن يلفظ "أنتش واجري" قائلاً: "استنى قبل ماتقول اللي إنت هتقولها دي. مش هينفع تقولها على الهوا". ووعده هيثم في نهاية اللقاء بالالتزام بالقيم، وأنه سيتجه لغناء "كلام ناس نضيفة" وأشياء مفيدة للشباب والأطفال.
وعندما أعلن خبر تعاقد شركة فودافون مع هيثم لتكون أغنيته "كول تون" بمقابل مادي 420 ألف جنيه، أثار الخبرغضبَ كثيرين، منهم الملحن عادل حقي، الذي أعلن عن فسخ تعاقده مع شركة فودافون، واصفاً ذلك بـ"التشجيع على نشر الجهل والتفاهة".
في اليوم التالي نفت فودافون الخبر مؤكدةً أنها لم توقع مع هيثم أية عقود، وأن تنسيق خدمة الكول تون يتم بالتعاون مع شركات أخرى متعاقدة من شركة الاتصالات الكبرى.
استقبل هيثم خبريْ التعاقد وفسخه في صمت، وأطلق أغنيته "أنتش واجري" بعد تصويرها كليباً، وكان آخر ظهور لهيثم وسط طلاب في مركز للدروس الخصوصية يغني لهم الأغنية كنوع من الترفيه.
يعقب الناقد الفني محمد شميس قائلاً: "لم يقدم هيثم نفسه كمطرب، وإنما قدّم مقطعاً ساخراً، والكلمات الغريبة طريقة متبعة منذ أيام إسماعيل ياسين. أما عن تعاقد فودافون فهو أمر متوقع، حيث أنها شركة تستهدف الربح من كلّ ما هو جديد وشائع. فلماذا كلّ هذا الاستنكار من هيثم ومن ما يقدمه؟ استطاع هيثم ركوب الترند لوجود ركود وتكرار وافتعال في ما هو سائد مما يقدم، أفرز حاجة للتجديد والتلقائية".
الناقد محمد شميس: "تفاعُلُ المغني والملحن رامي جمال مع سالم هو منفعة مشتركة لكليهما؛ ففي هذا الزحام الهائل فقد مطربين يقدمون ألواناً معينة مكانتهم، خصوصاً وأن التسويق بات يعتمد بشكل أساسي على الحضور على شبكات التواصل الاجتماعي"
ويستكمل شميس تحليله عن سالم: "تفاعُلُ المغني والملحن رامي جمال مع سالم هو منفعة مشتركة لكليهما؛ ففي هذا الزحام الهائل فقد مطربين يقدمون ألواناً معينة مكانتهم، خصوصاً وأن التسويق بات يعتمد بشكل أساسي على الحضور على شبكات التواصل الاجتماعي".
حسب تعريف آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، فـ"التفاهة هي شكل الوعي والعقل الذي يتكيف مع العالم كما هو، الذي يطيع مبدأ القصور الذاتي. ومبدأ القصور الذاتي هذا هو حقاً الشر الجذري".
وعليه فإن كلا المقطعين المحققين لانتشار أصحابهما ليسا هما المشكلة، بل يكمن الشرّ في الخطاب المنغلق على قيمه الثابتة، التابع لدوائر سابقة التجهيز، سواءً القديمة أو الحديثة، رافضة للتنوع وغير واعية بالامتيازات الطبقية، محمية بقوة القانون المنشغل بعقاب الأفراد على مخالفتهم لنظام أخلاقي متصور للأسرة المصرية. هذا الخطاب سيظل يتهم هيثم بالتردي، لكنه يبيع إنتاجه ويستفيد منه بكلّ السبل، وسيبالغ في التباهي بموهبة سالم، مع التركيز على جهله بالموسيقى، لتعظيم وتبجيل من دعموه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...