شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
استراحة محارب... فلسطينيون يؤجلون الاصطفافات الفصائلية لصالح الكروية

استراحة محارب... فلسطينيون يؤجلون الاصطفافات الفصائلية لصالح الكروية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الأحد 20 نوفمبر 202212:47 م

الشعب الفلسطيني متعلِّق بكرة القدم، خاصّة فئة الشباب سواء على مستوى الأندية المحليّة ودوري المحترفين، أو على مستوى الكرة العالمية، فيما يأتي المونديال ليُتمم هذا الاهتمام مسلطاً الضوء على ظاهرة تبرز في الدول المحتلّة مثل فلسطين، تكشف عن الطريقة التي تُغيَّب فيها الاصطفافات الفصائلية لصالح الاصطفافات الكرويّة.

انطلاقاً من بداية المونديال وحتى يصل المنتخب المتوج في المباراة النهائية ستمتلئ مقاهي فلسطين بالمشجعين وستعود الحياة إلى المقاهي والتي كانت قد فقدت بعض رونقها خلال فترة الوباء وما بعدها، مجيء المونديال لا يبشِّر بعودة التجمّعات الكبيرة مرة أخرى فحسب، بل ويوثِّق كيف تعمل هذه الظاهرة في ظلّ الاحتلال والاعتداءات المستمرّة على الشعب الفلسطينيّ، كآلية من آليّات التمسُّك الفلسطيني بالفرح. كيف يمكن أن يشكل المونديال ظاهرةً استثنائيّةً في المجتمع الفلسطيني.

فتح وحماس يحتفلان بفوز ألمانيا

متابعة الفلسطينيين للمونديال، تكشف عن حالة هروب مجتمعي من سوء الأوضاع السياسيّة وضبابيَّتها بحيث تحال مشاعر الضياع ومجهولية المستقبَل إلى المباريات ذات النتائج الواضحة الثابتة، فهي إمّا فوز أو خسارة. من جهة أخرى، تنتقل حالة التعصب الفصائلي إلى التعصب الكروي بحيث يتآخى مشجّعوا المنتخب الواحد رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية، فتجمع كرة القدم أحياناً ما شرذمته السياسة. 

متابعة الفلسطينيين للمونديال، تكشف عن حالة هروب مجتمعي من سوء الأوضاع السياسية وضبابيَّتها بحيث تحال مشاعر الضياع ومجهولية المستقبل إلى المباريات ذات النتائج الواضحة الثابتة، فهي إمّا فوز أو خسارة

ينتقي لنا عبد الخالق محمد (30 عاماً) من ذكرياته المتعدّدة مع المونديال، تحديداً عام 2014 الذي شاهده مع أقربائه وقريباته في فناء البيت، إذ لم يكن مسموحاً لهنّ كفتيات بمتابعته في المقاهي فكنَّ يشاهدنه مع أشقائهن وأقربائهن من الشباب متى سنحت الفرصة. لا زال يتذكَّر التلفاز الصغير والأسلاك التي كانت تتلف إذا داسها أحد، لذا كان عليهم اجتيازها بحذر لئلا يفوتهم هدف. يقول في حديثه لرصيف22 عن الاصطفافات الكرويّة: "حضرَت المونديال معنا قريبتي التي تعمل في تنظيم حركة فتح وكنت في حالة شجار سياسي مستمر معها لأنني أنتمي حزبياً إلى حركة حماس. ولكننا احتفلنا معاً وقتذاك بفوز ألمانيا".

صداقة الكرة قد تُصلح عداء السياسة

يؤكد محمد أن قضيّة تغييب الانتماء الفصائلي لصالح الكروي ليست جديدة، بل تساهم أحياناً في بناء "صداقة الكرة" التي تتوطَّد مرة أخرى في المناسبات الرياضية. ويضيف: "صديقي مؤمن واحد من الأشخاص الذين ينتمون إلى حركة فتح، تعرفت عليه قبل سنوات لأننا كنا نشجِّع برشلونة، وما زلنا نتابع بعض المباريات معاً".

من جهته صرَّح الصحافي والمعلِّق الرياضي محمد عراقي، لرصيف22: "المونديال عرس كروي عالمي يجمع الجمهور حتى أولئك الذين لا يتابعون كرة القدم بشكل دوري، أي تُضاف إلى شريحة الرياضيين والمتابعين القدامى، شريحة جديدة وهي الأشخاص العاديين. وهي فئة غالبيتها فقدت الثقة في الفصائل وفرَّت من ضيق الأفق إلى الرياضة." 

يتفق الصحافي المهتمّ في الشأن الرياضيّ إحسان عمّار (24 عاماً)، بشكلٍ جزئيٍّ مع عراقي،فيقول لرصيف22: "تفوّقت كرة القدم على الخطابات السياسية لأن الشباب الفلسطيني ملَّ من كثرة التصريحات وخطابات القادة المكررة." مع ذلك، يرى إحسان أن كرة القدم أصبحت سبيلاً للتعصب الرياضي حتى مع غياب المونديال. فمثلاً مباراة تجمع بين ريال مدريد وبرشلونة يمكن أن تحوِّل الأصدقاء إلى أعداء لمجرَّد أن أحدهما يشجِّع الفريق المضاد.

عبدالخالق: "حضرَت مونديال 2018 معنا قريبتي التي تعمل في حركة فتح وكنت في حالة شجار سياسي مستمر معها لأنني أنتمي حزبياً إلى حركة حماس، ولكننا احتفلنا معاً وقتذاك بفوز ألمانيا".

يختلف معه في الرأي رامي عودة (45 عاماً) وهو أحد المتابعين باستمرار للمباريات، لاعتباره المونديال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالسياسة، فيقول لرصيف22: "الرياضة مثل الحرب، أنت تقاتل من أجل الفوز. نحن نلجأ إلى تشجيع منتخبات معينة إلا أن هذا اللجوء يعبر في حقيقته عن رغبتنا الدفينة في الانتصار، وإن كان انتصاراً رمزياً".

ويعتقد رامي أنَّ المونديال إحالة مجتمعية لمفهومَي الفوز والخسارة، ويتجذَّر في صلب السياسة سواء على مستوى السلطة الفلسطينية أو الاحتلال الإسرائيلي.

تختلف وجهة النظر بالنسبة إلى الفئة العمرية الأصغر. إبراهيم علي (16عاماً) يقول لرصيف22: "أنا لست مهتماً بالسياسة، أستمتع بلعب ومشاهدة المباريات وكثيراً ما أتشاجر مع أشقائي إذا فاز الفريق الخصم. ولكن في المونديال تكون المنافسة أكثر شراسة وبالتالي يصبح الفوز أكثر إمتاعاً".

تغييب السياسة "مؤقتاً" ليس تغييباً للقضية

تغييب الانتماء الفصائلي لا يعني غياب القضية الفلسطينيّة. فالمشجِّع الفلسطينيّ لفريقه لم ينس قضيّته وبممارسته التشجيع يهتف للأسرى والشهداء ولفلسطين، وخير مثال على ذلك ما حدث مؤخراً في مباراة شباب الخليل وشباب الظاهرية في دوري المحترفين الفلسطيني. أما على صعيد القضية الفلسطينيّة، فقد برزت مرة أخرى قبل مجيء المونديال بحوالي شهر ونصف، في حملة عربية بقيادة محمد عدنان لدعم القضية الفلسطينية في كأس العالم، تحت عنوان "شارة الكابتن فلسطينية" تدعو المنتخبات العربية المشارِكة في كأس العالم لارتداء شارة العلم الفلسطيني في مبارياتهم. هذا ما يدفَع الجماهير الفلسطينيّة أيضاً إلى تشجيع منتخبات بعينها نظراً لوقوفها إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة. 

الشباب المتابعين والمختصين يرون أن الانتماء الكروي أكثر أماناً من الانتماء السياسيّ، فحتى حالة الاختلاف ينتهي بها المطاف إلى نتيجة تحسمُ الخلاف

نلاحظ من المقابلات السالفة أنَّ العلاقة بين الرياضة والسياسة تعتمد على الشريحة المتابِعة، فالشباب المتابعين والمختصين يرون أن الانتماء الكروي أكثر أماناً من الانتماء السياسيّ، فحتى حالة الاختلاف ينتهي بها المطاف إلى نتيجة تحسمُ الخلاف.

المقهى كحيّز للتضامن

يقول محمود درويش في وصف الشعور الذي تمنحه المقاهي: "أتباطأ في احتساء قهوتي لأحافظ على صحبة مفترضة مع ما حولي، فليس للغريب إلا اختراع ألفة ما مع مكان ما". لعلَّ المقاهي تشكل مساحة بينيّة في حياة المواطن الفلسطيني، فهي بمثابة محطّة عبور تساعده على سرقة بعض الوقت قبل العودة مرة أخرى إلى مشاغل الحياة.

حضور المونديال يُعيد ترتيب الطقوس الفرديّة ضمن نطاق جمعيّ، ويشكل نوعاً من التضامن الجماهيري خلال ساعات المباراة.

استخدم عالم الاجتماع الفرنسي أرنولد فان قينيب المصطلح "Rites de passage" أو "طقوس العبور" في علم الأنثروبولوجيا في كتابه "طقوس العبور" الصادر عام 1909م. حيث يرى أنَّ لطقوس العبور ثلاثة أوجه: طقوس التجميع، وطقوس الانفصال والطقوس الهامشية.

اعتدنا أن نعتبر المقاهي من الطقوس الهامشية، ولكنَّ المونديال يغير هذا المفهوم فتصبح جزءاً من طقوس التجميع. مثلاً، مقهى مرار اشتيه، واحد من أقدم المقاهي في مدينة سلفيت، يصف صاحبه مرار التغيّر الذي يطرأ على المقهى مع مجيء المونديال فيقول لرصيف22: "عادة، زبائننا من كبار السن ونعرفهم جيداً. ولكننا نلاحظ في فترة المونديال إقبالاً كبيراً من جميع الفئات العمرية. فضلاً عن تغيّر الجو العامّ من الهدوء إلى الصخب."

ويشير إلى دور المونديال في إنعاش اقتصاد المقاهي القديمة التي دخلت منذ سنوات في حرب شرسة مع المقاهي الجديدة المطلّة على مراكز المدن. مما يعني أنَّ مفهوم المقهى بالنسبة إليه لم يعد يقتصر على تواجد شرائح جديدة من المجتمع فحسب، بل وأنعش الاقتصادين المادي والحسي أيضاً.

محمد: "صديقي مؤمن واحد من الأشخاص الذين ينتمون إلى حركة فتح، تعرفت عليه قبل سنوات لأننا كنا نشجِّع برشلونة، وما زلنا نتابع بعض المباريات معاً"

يضيف محمود الشاعر (65 عاماً) وهو أحد زبائن المقهى إلى ما قاله اشتيه: "لستُ مولعاً بكرة القدم ولكن المباريات تُخرجنا من عزلتنا لأنها تجمعنا بالآخرين من جهة، وتكسر روتينية الحياة اليوميّة بأجواء جديدة من جهة أخرى". 

الإصرار على الفرح 

إنَّ التأمّل في ظاهرة "الانهماك المجتمعيّ في الطقس" ويُقصد بالطقس هنا التغيرات الأدائية كما يسمّيها دكتور علم الاجتماع في جامعة بير زيت أباهر السقّا، إن التأمل فيها يكشف أنَّ الأمر لا يتعلَّق بالمونديال بحد ذاته، وإنَّما في توظيف طقوسه كوسيلة للهرب من الواقع بخلق فرص متخيَّلة تمنح الفلسطيني القدرة على ضبط إيقاع المشهد وتغيير الأولويات. مثلاً، يقول إحسان عمار إنَّ أغلب العاملين في القطاع الخاص أو العام طلبوا إجازة لمدة شهر لمتابعة جميع المباريات. هكذا تتفوَّق المتعة على العمل والسياسة.

أيضاً، تشكِّل تغيرات الطقوس جزءاً من التغيرات القيمية في المجتمع نفسه، فتفضيل المباريات على العمل لا يعني أنَّ كرة القدم مجرَّد شغف يتحكم في عادات الجمهور، وإنَّما ناتج عن رغبةٍ ملحة في تحدي المكان، والزمان والبطولة.

من جهةٍ أخرى، تحاول الشركات الربحيّة استغلال هذا التغيّر بتقديم الإعلانات والدعايات المتماشية مع الظاهرة مثلاً تقوم كل من شركة جوال وشركة الوطنيّة للاتصالات بإرسال رسائل نصية تتعلق بوضع أغنية كأس العالم كنغمة رنين للهاتف، وهي أحد تجليات حالات "استقطاب الفرح" التي يتقنها الفلسطينيون جيداً بالمقارنة مع واقعهم الاستثنائي الذي يعد الفرح فيه في كثير من الأحيان غير منطقي، أو غير مفهوم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image