تلفاز أبيض وأسود 14 بوصة وذيل حصان شعر روبيرتو باجيو الشهير وركلة جزاء مهدورة وكأنها أوقفت الكرة الأرضية عن الدوران لثوانٍ معدودة، هي أول ذكرياتي مع كأس العالم وأنا في الخامسة من عُمري أشاهد المباراة مجبراً مع والدتي، في وقت متأخر من الليل لا يستيقظ فيه الأطفال عادة في صيف عام 1994.
في مثل هذه الحقبة امتلكت الأسر المتوسطة في مصر تلفاز بثلاث قنوات محلية فقط، طبق الدش كان مقتصراً على الأغنياء فقط، لم نمتلك رفاهية حيرة ما نشاهده، بل نكيف أنفسنا على تذوق المتعة من المحتوى الذي يعرض على الشاشة، سواء كان كارتون، مباراة، مسلسل أو فيلم أو حتى جلسات البرلمان المصري "مجلس الشعب".
مونديال 1994
كان صوت التلفاز ونيساً لأهل البيت، وقدوم مباريات كأس العالم عليه بالقمر الصناعي من أقصى بلاد الكرة الأرضية كل 4 سنوات حدث فريد، تجتمع عليه كل الأسرة.ورثت حب مباريات كرة القدم من والدتي، ورثت انتماءها المحلي بتشجيع فريق الأهلي، وورثت اهتمامها بمتابعة المباريات العالمية، وكان أول كأس عالم أشاهده معها هو مونديال 1994 رغم تأخر وقت بث المباريات لفارق التوقيت بين البلد المضيف الولايات المتحدة الأمريكية ومصر، لا أعلم كيف غفرت لي والدتي السهر في مثل هذه السن الصغيرة حتى وقت الفجر، ربما أرادت أن تجعلني أتعلق بما تحبه، لا أتخيل أن أفعل هذا الأمر مع ابنتي حالياً، ربما أسامحها للسهر معي حتى ترث مني شغفي. من الممكن ووقتها سأكون قد اكتسبت رفيقاً جديداً لمشاركة شغفي.
تلفاز أبيض وأسود 14 بوصة وذيل حصان شعر روبيرتو باجيو الشهير وركلة جزاء مهدورة وكأنها أوقفت الكرة الأرضية عن الدوران لثوانٍ معدودة، هي أول ذكرياتي مع كأس العالم وأنا في الخامسة من عُمري
"أمي.. لماذا لم يأتِ كأس العالم حتى الآن؟" كان هذا سؤالي البريء لوالدتي في كل عام بعد أن شاهدت سحر مباريات المونديال للمرة الأولى عام 1994، لتحبطني بالإجابة: "لسة يا حبيبي كل 4 سنوات".. إجابة صادمة بالنسبة لي وقتها كطفل، فانتظار 4 سنوات تعني وقتها بالنسبة لي الانتظار إلى أبد الدهر.
مونديال 1998 على تلفزيون 4 بوصة
مرت السنوات الأربع بالنسبة لي وكأنها 40 عاماً، وبلغنا أخيراً عام 1998، أصبح الآن عمري 9 سنوات، أستطيع تذكر مباريات وتفاصيل أكثر، وأخيراً سأشاهد كأس العالم.. محبوبي الذي رأيته مرة واحدة في حياتي، وأتذكرها كالضباب يعود بعد غياب، وأثناء اقتراب انطلاق البطولة، جاءت الصدمة بالنسبة لي، خبر من الممكن أن يسعد أي طفل بالعالم، إلا أنا."حجزتلكم المصيف يا ولاد.. إن شاء الله يوم 10 يونيو هنروح الساحل".. فرحت أختي الصغيرة بسماع كلمات والدي، الذي انتظر بدوره أن يرى الفرحة في عيني مثلما اعتاد عند سماعي خبر ذهابنا إلى المصيف، ولكن هذه المرة اختلف الأمر، سيكون يوم ذهابنا إلى المصيف هو يوم افتتاح مباريات كأس العالم، هل سأفوت الحدث الذي انتظرته طوال 4 سنوات؟ لن أقبل حتى لو الثمن عدم ذهابي إلى المصيف.
والدي الذي لم يكن يكترث بكرة القدم وكأس العالم وربما كان في قرارة نفسه يريد أن يورث لي شغفاً آخر دون الذي أورثته لي أمي، لنصبح حزباً كروياً في بيت ربه لا يحب كرة القدم ولا يفرق بين ما هو النادي وما هو المنتخب.
"أمي.. لماذا لم يأتِ كأس العالم حتى الآن؟" كان هذا سؤالي البريء لوالدتي في كل عام بعد أن شاهدت سحر مباريات المونديال للمرة الأولى عام 1994، لتحبطني بالإجابة: "لسة يا حبيبي كل 4 سنوات"
على الرغم من ذلك حل والدي المعضلة، واشترى تلفاز 3 أو 4 بوصة وقتها، وجهاز استقبال يدوي للقنوات "إريال" وسلك، حتى أشاهد المباريات في المصيف، وسافرنا وعانينا من عملية تركيب "الإريال" لالتقاط أفضل إشارة لمشاهدة مباراة افتتاح كأس العالم 1998 في فرنسا، بين البرازيل واسكتلندا، وسعادتي كانت لا توصف رغم عدم جودة الإشارة بالشكل الكافي، وصغر حجم التلفاز.
خلقت لنفسي أبطال طفولة من مونديال فرنسا 1998، رونالدو الذي سمعت عنه كثيراً أنه الأفضل في العالم في آخر عامين، حان الوقت أخيراً لمشاهدته، فلم أكن أمتلك رفاهية مشاهدة مبارياته مع فرقه في الدوريات المحلية الأوروبية، لذلك كان علي الانتظار لكأس العالم لمشاهدة الظاهرة.
ها هو روبيرتو باجيو يعود بعد أن قص ذيل الحصان الشهير وبرقم قميص مختلف ليمحو كابوس نهائي عام 1994، عرفت زيدان وشاهدت كيف جعل رئيس فرنسا يتخلى عن وقاره في المدرجات، وتيقنت من سحر كرة القدم وما تفعله في الشعوب.
أمي ورثتني حلمها أيضاً
تجربة ساحرة عشتها بتفاصيل أوضح مما كنت عليها وأنا في عمر خمس سنوات، حان الآن وقت النضج وتوجيه السؤال المنطقي من طفل في التاسعة من عمره شاهد نسختين من كأس العالم لوالدته "لماذا لا تشارك مصر في كأس العالم يا أمي؟".وقع السؤال على والدتي كالصدمة، فهي في حياتها منذ الطفولة حتى إنجابها لي لم تشاهد مصر في كأس العالم سوى مرة واحدة، حاولت والدتي شرح التصفيات لي ونظامها فلم أفهم سوى إن منتخب بلادي ضعيف، لا يبلغ مستواه الكفاءة المطلوبة لمقارعة الكبار.
حان الآن وقت النضج وتوجيه السؤال المنطقي من طفل في التاسعة من عمره شاهد نسختين من كأس العالم "لماذا لا تشارك مصر في كأس العالم يا أمي؟"
خلق هذا الأمر في نفسي حلماً كبيراً، تمنيت ولو أراه لمرة واحدة في عمري، حلماً قوبل بالصدمة من مراهق يبلغ من العُمر 13 عامًا عند فشل مصر في التأهل لكأس العالم عام 2002.
لن أشاهد منتخب بلادي في المونديال، لن يفسد علي هذا الأمر متعتة الحدث المنتظر، اليوم أصبحت شابًا في بدايات العقد الثاني من عمري، مونديال 2002 مختلف، أمتلك جداول المباريات، أعرف أغلب لاعبي المنتخبات، أتصفح الانترنت.
انقلبت الآية وأصبحت أنا مرشداً لوالدتي في شرح نقاط القوة والضعف لكل منتخب، ثرت على انتماءاتها وأصبحت لي شخصية مستقلة في من أشجع، أصبحت لا أكترث لتشجيع الكرة المحلية، واخترت بطلاً جديداً كان كل طفل مراهق وقتها يتطلع لأن يصبح مثله، لاعب كرة مشهور ووسيم يحتل أغلب أغلفة الصحف والمجلات، وواجهة لأغلب منتجات عصره، ومن غير الإنجليزي "ديفيد بيكهام".
منذ الطفولة حتى سن المراهقة توقفت عن السير في ظل من تشجعه والدتي من الفرق والمنتخبات، أصبحت انتماءاتي الكروية مختلفة عنها كلياً، ولكني أدين لها بالفضل في أنها أورثتني الشغف الذي لا أتخيل حياتي من دونه الآن، والذي تحول بعد ذلك إلى مصدر لكسب الرزق، بعد أن حققت حلم حياتي بالعمل في الصحافة الرياضية.
حتى تلعب مصر في كأس العالم
بقى كابوس عدم رؤية منتخب بلادي في المونديال هو الغصة التي ورثتها عن والدتي، واستمرت حتى شاهدت مصر في كأس العالم للمرة الأولى كأب في العام 2018.تمنيت وقتها من طفلتي الرضيعة أن تعي هذه اللحظة التاريخية وما تعنيه بالنسبة لي، كنت أصرخ فرحًا بالدموع وأنا حاملها وهي لا تعي أي شيئاً.
في مونديال 2022 أصبح عمر ابنتي في نفس عمري عندما شاهدت مع والدتي كأس العالم للمرة الأولى، أتمنى أن أخلق لها نفس الذكريات التي خلقتها لي والدتي في طفولتي، هل سترث انتمائي بتشجيع المنتخب الإنجليزي، أم ستتمرد علي في مراهقاتها، أم ستكره كرة القدم التي ستحرمها بكل تأكيد من مشاهدة الكارتون على التلفاز. لا أعرف المهم بالنسبة لي أن أخلق لها ذكريات تعيشها معي.. فعندما تكبر ويأتي أمامها خبر عن كأس العالم 2022 ستتذكر مرحها مع والدها، وتشعر بالنوستاليجا الذي نشعر به حالياً عند مشاهدة أصغر الأشياء التي تذكرنا بطفولتنا حتى لو كان هذا الشيء لا يمثل لنا أهمية في الماضي.
توقفت عن السير في ظل من تشجعه والدتي من الفرق والمنتخبات، أصبحت انتماءاتي الكروية مختلفة عنها كلياً، ولكني أدين لها بالفضل في أنها أورثتني الشغف الذي لا أتخيل حياتي من دونه الآن، والذي تحول بعد ذلك إلى مصدر لكسب الرزق، بعد أن حققت حلم حياتي بالعمل في الصحافة الرياضية.
الشيء الوحيد الذي أتمنى ألا ترثه ابنتي عني وعن جدتها هو غصة مرارة عدم مشاهدة منتخب بلادها في كأس العالم إلا مرة كل ثلاثة عقود. ورّثوا لأولادكم الشغف والذكريات، وربما الانتماء ولكن كونوا سعداء عندما يختلفون معكم.. الأهم هو خلق الذكريات التي ستربطكما للأبد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...