"الأزمنة، مهما تبدّلت، تظلّ موصولة الأسباب والنتائج، والبدايات والنهايات. ويظلّ كل شعب يتلفّت إلى ماضيه إذ هو يتطلّع بشوق إلى مستقبله". هذه خلاصة ما سجّله الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة حين كان يتجوّل بين معالم أوروبيّة شُيّدت لغايات دينيّة، وبعدما كانت ملاذاً للمؤمنين، باتت مزاراتٍ سياحيّةً في ذلك الزمن، زمن التحوّل الإيديولوجي-السياسي لبعض دول أوروبا الشرقيّة.
قبل زيارته مدناً روسية في عام 1956، بدعوة من اتحاد الكتاب في موسكو، كان قد حلّ ميخائيل نعيمة في مدينة "بولتافا" الأوكرانية للتعلّم خلال السنوات 1906-1911. وأوكرانيا كانت تعرَف آنذاك باسم "روسيا الصغرى". وقبل هذه وتلك من الزيارتين، تعرّفَ نعيمة إلى روسيا في المدرسة المسكوبيّة المختلطة التي أنشئت عام 1896 في بلدته "بسكنتا" اللبنانية، ليتابع بعدها دروسه في دار المعلّمين الروسيّة في مدينة الناصرة الفلسطينيّة، حيث وصلها في أواخر عام 1902.
أربع محطات إذاً لم تغادره فيها اللغة الروسية، بل رافقته أيضاً في سياتل ونيويورك، حيث سلخ عشرين عاماً من عمره في مدن أمريكية. وحين لم يكن متاحاً التواصل مع غير العربيّ باللغة العربيّة، فكانت في جعبة نعيمة لغتان أخريتان يتقن التحدّث بهما بطلاقة (الإنكليزية والروسية). وفي خضمّ الثورات والحروب التي عاشها أو عايشها رجل مثله نَعِم بما يقرب القرن من الحياة والخبرات (1889-1988)، يطالعنا بمشاركته مجنّداً أمريكياً في الحرب العالميّة الأولى لسنةٍ صرفها في فرنسا.
من بسكنتا إلى الناصرة، فبولتافا الأوكرانية
حين أنشئت المدرسة المسكوبية في بسكنتا، تولّد شعور لدى ميخائيل نعيمة وأترابه بأنّهم انتقلوا من الجحيم إلى النعيم. وفي مخيّلته أنّ المسكوب قوم أشدّاء وكرماء يحكمهم قيصر تهتزّ لكلمته جميع ملوك الأرض، وهم "روم" على غرار انتماء نعيمة الديني. وقد تحقّق حلمه في أن يزور المدينة الفلسطينيّة التي ربي فيها يسوع، ليتخرّج بعد أربعة أعوام في دار المعلّمين، على نفقة "الجمعية الإمبراطوريّة الروسيّة الفلسطينيّة".
ضمّت الدار طلاباً اختيروا من مدارس روسيّة في أنحاء سوريا وفلسطين ولبنان. وإن كانت الدروس تلقَّن فيها باللغة الروسيّة، فكان للغة العربيّة نصيب وافر في تدريس الأدب والتاريخ والتعليم المسيحي. ويشير نعيمة إلى ما يستحقّ الوقوف عليه لجهة اهتمام الروس بتدريس تاريخ الأدب العربي مع ترجمة خطّية لكتابٍ وضعه أحد المستشرقين الروس، في وقت لم يُكتب تاريخ الأدب العربي بطريقة جامعة تصلح للتدريس.
غير أنّ ذلك الطالب الذي توغّل في الأدب الروسي، حالما تمكّن من قواعد اللغة، بات يخجل من الفقر الفاضح إلى أدب ينبع من الحياة، بتلهّي الأدباء العرب بالقشور -كان يغبطهم إلى زمن قريب- إزاء كنوز إنسانية تزخر بها أعمال دوستويفسكي وتولستوي وغوغول وتورغينيف وغوركي وتشيخوف وغيرهم.
في كلّ مرة يجتاز فيها حدوداً لا يشعر بأنه انتقل من عالم إلى آخر، ولا بأن السماء غير السماء، أو الأرض غير الأرض... المدن التي زارها ميخائيل نعيمة من الناصرة إلى حدود العالم
المرة الأولى التي ارتدى فيها نعيمة بِذلة إفرنجية (بَدلة بالعاميّة) كان بعد "القمباز"، فاستبدل قبعةً من القش بالطربوش، وكان ذلك عندما نزل في بولتافا لاستكمال دروسه في إحدى حلقات النقاش الرّوحية. لم ينبّهه أحد إلى أنّ البذلة الرقيقة لن تمنع عنه رجفةَ البرد وازرقاق أطرافه وشفتيه، ولا العيون التي تحدجه باستغراب حين وصل. كان ثمّة قلّة من الطلاب الغرباء، من بلاد البلغار و"السِّرب" كما ذكر (لعلّها الصّرب)، ومن بينهم نعيمة ورفيق سوري، الوحيد من طلاب دار المعلمين في الناصرة.
روسيا بين زمنين وثورتين
بين نعيمة الطالب الذي كانه والأديب المرموق مسافة من التجارب والخبرات والمشاهدات، تماماً كحال المدن الروسية، أو دول "الاتحاد السوفياتي" في تحوّلاتها. فأشدّ ما أسعده في تلبية دعوة اتحاد الكتّاب في موسكو في منتصف القرن العشرين هو تحقيق رغبته في الاطلاع على مدى الانقلاب الذي أحدثته الثورة في حياة تلك البلاد التي زارها منذ نصف قرن.
حين حدثت الثورة الأولى إثر حرب الإمبراطورية الروسية مع اليابان، كان لا يزال نعيمة في الناصرة، بحيث تحوّل النظام من ملكيّة مطلقة إلى ملكية دستورية (1905-1907). لكنّه يسجّل في رحلته الأولى انطباعاته مع شيء من تأنيب الضمير. ففي رحلته بالقطار بعد الباخرة، رافق أشخاصاً محليين من "الموجيك" (وصف للفلاح الروسي قبل الثورة الشيوعية)، و"الجِيد" (اليهود)، كما رافقته رائحة أجسادهم وأنفاسهم و"الماخوركا" التي كانوا يدخنونها.
ويصف القرى التي مرّ بها، ولم تكن سوى مجموعات من الأكواخ الطينيّة الملتصقة بالأرض، والمسقوفة بالقش، والمزوّدة بنافذة أو اثنتين، ويطلق عليها تسمية "إيزبا"، كان قد قرأ عنها قبل مشاهدتها عن كثب. وهو على الرغم من ضيقه بهذا البؤس وبالروائح النفّاذة، سرعان ما يسرّ لنفسه بأنّ هؤلاء جميعهم قد يكونون من جملة المحسنين إليه والمساهمين في تثقيفه، من خلال تبرّعاتهم لصندوق "الجمعيّة الإمبراطورية الفلسطينية"، من يدري؟! وليس هذا فحسب، بل إن المدرسة التي يقصدها هي مجّانيّة شيّدها "المجمع المقدّس"، ويجمع ماله من المؤمنين.
وإذا كانت رحلاته السابقة على ظهر سفينة، فزيارته الثانية للمدن السوفياتية كانت على متن طائرة للمرة الأولى؛ من بيروت إلى ميونيخ فإلى براغ التي كانت تُدعى "بوهيميا"، وتعني بالسكسونيّة واللاتينية المرح واللامبالاة. ومن براغ إلى موسكو التي تغيّرت كثيراً. يتوقف بالوصف أمام "قصر الحرف" -أو قصر الكتاب- في براغ، فيراه شاهداً على اهتمام الدولة بالعقل والفن اهتمامَها بالبطون.
في البلاد السلافيّة: نعيمة المشاغب وقصيدته "النهر المتجمّد"
قرأ ماضي روسيا وحاضرها، كما استشفّ مستقبلها ممّا أتاحه كتّابها وشعراؤها. ويتخيّلها "بسكّانها هرماً هائلاً في رأسه القيصر... وفي أسفل الهرم الفلاحون والعمال والمُعدمون والمشرّدون والمنسيّون. وهم الكثرة الساحقة". ويتساءل عمّا يحلّ بالذين في أعلى فيما لو تحرّك من في أسفل! وذلك لمعرفته بالتمايز العرقي والقومي والطبقي، الأمر الذي يؤثر على مناعة الهرم المشيّد واستقراره. هذا الحدس المبكر بأنّ الأمور ليست على ما يرام في بلاد الروس لم يأتِ من الملاحظة فقط، بل من الهمس المسرّب، والمؤلفات المهرّبة، والنشرات السريّة عن الثورة الفرنسية بين الطلاب.
كتب "ناسك الشخروب" كتابه "أبعد من موسكو ومن واشنطن" ليس لتسجيل رحلاته إلى بلدين، أو لتدوين انطباعاته عن شعبين أحبهما فحسب، بل لأنّ الكتاب وضع في مرحلة حرب باردة بين منظومتين، وصراع بين إيديولوجيتين
مَيلُ نعيمة إلى المظلومين ومقته الغطرسةَ والاستبداد، وإعلاؤه من شأن اللطف والمحبة، دفعه في شتاء 1910 إلى نظم قصيدة "النهر المتجمّد". يرمز بالنهر إلى روسيا المكبّلة، متسائلاً فيها عن موعد ربيعها الآتي، ليبصر العامل أياماً يتذوّق فيها شيئاً من العدل والكرامة. ولاحظ تحدّث الأوكرانيين بلغتهم بالرغم من أن الروسية هي اللغة الرسمية ولغة التدريس، واللغتان هما من أرومة واحدة، وللشعبين تاريخ مشترك ودين واحد، وهما من جنس واحد، كما أنّ بينهما معاهدة تربط مصيرهما. فالنعرة القوميّة حدت ببعض رفاقه إلى الانتساب إلى جمعية سريّة تدعو إلى استقلال أوكرانيا (روسيا الصغرى) عن روسيا الكبرى.
غير أنّه شارك في إضراب الطلاب "زابا ستوفكا" مطالبين بحقوق مسلوبة، وبحريّات مهدورة، ولأول مرة يشهد تمرّد تلاميذ على أساتذتهم، وعصيان مرؤوسين على رؤسائهم. فدُفع الطالب الغريب محمولاً إلى المنصة ليدلي برأيه ويشجّع المضربين. ومن جملة ما يذكره أنّه قال في ذلك اليوم: "نطلب خبزاً فيعطونا حجراً. ونطلب سمكة فيعطونا حيّة"، مستلهماً في كلماته مقولات المسيح.
إنّما هذا الخطاب كلّفه الحرمانَ من استئناف دروسه لمدة عام، على أن يستعد للامتحانات النهائيّة خارج المدرسة ويتقدّم إليها في ربيع 1911، ليعود إلى بلاده في شهر أيار/مايو، مودّعاً بلاداً تغلغلت ثقافتها في دمه، وبغير أدنى حقد عليها بسبب ما لقيه من صعوبات في العام الأخير.
بين الرّوس والأمريكيين... انطباعات أديب أحبّ الشعبين ولا ينحاز إلا إلى الإنسان
كتب "ناسك الشخروب" كتابه "أبعد من موسكو ومن واشنطن" ليس لتسجيل رحلاته إلى بلدين (بمدنهما)، أو لتدوين انطباعاته عن شعبين أحبهما (السلافي والأميركي) فحسب، بل لأنّ الكتاب وضع في مرحلة حرب باردة بين منظومتين، وصراع بين إيديولوجيتين. فيرى الأديب الإنساني نفسه بعيداً عن مماحكات تقدّم إحداهما على الأخرى في محاولة المفاضلة بين الشيوعيّة والرأسمالية. ويصف ذلك الاصطفاف بالرغوة، وقد أثار في نفسه الألم، لما يربطه بالبلدين من صلات وثيقة.
وإذ يُقبَل الطالب في جامعة "سياتل" بغير امتحان دخول (1912)، بل بشهادة روسية توازي سنتين دراسيّتين مكّنته من إنجاز دراسته في كليّتي الآداب والحقوق في أربع سنوات، يعبّر عن استئناسه بالطلاب الأجانب أكثر من الأمريكيين منهم، لجدّيّة فكريّة كان يراها في غير الأمريكي. وبطريقة ما يدين النزعة البراغماتيّة-الماديّة لدى الأمريكيين، لا سيما حين حدّد أستاذ الاقتصاد السياسي الغاية من التعلّم الجامعي في "كسب المعاش" فحسب. فمن هو الإنسان؟ وما موقعه في هذا المنهج الفكريّ؟
مشكلة الإنسان الحقيقيّة بحسب ما خلص إليه نعيمة تكمن في أنه "ما وعى بعدُ قيمتَه وهدفَه كإنسان"
كلمات الأستاذ البسيطة يراها ميخائيل نعيمة إرهاصاً بالتعبير عن اتجاه التعليم الحديث، وخاصة في أمّة ناشئة كالأمة الأمريكيّة. غير أنّه خلال عشرين عاماً، تعرّف فيها على نماذج إثنيّة وقوميّة وعرقيّة مختلفة، يرى الأمريكيّين أقرب إلى الخير والمسالمة والعمل منهم إلى الشر والمخاصمة والكسل، و"من حيث النشاط في تنظيم حياتهم العمليّة، لا يتقدّمهم أيّ شعب من شعوب الأرض".
واقع حال البلاد الأمريكيّة من السّعة والبحبوحة جعلت قومها يكتفون بها، وفي غنىً عن بقية العالم، ولا يهتمّ جلُّهم بما يجري خارج بلادهم، هذا طبعاً في الثلث الأول من القرن العشرين، حيث عاد نعيمة إلى لبنان عام 1932. كما يجدهم يميلون إلى الانصباب في قوالب (من حيث المأكل والملبس والمسكن والمعتقد والعادات) يطمئنون إليها، على الرغم من الوفرة في الشيع الدينيّة، و"كلّ شيعة تؤمن أوثق الإيمان بأنها الباب الوحيد المؤدّي إلى السماء".
حين كان في أمريكا، ظنّ أن الثورة الشيوعيّة قضت على علاقته بروسيا عندما قضت على البعثات الروسية في أمريكا، فبات القناصلة وعائلاتهم من "البيض المشرّدين"، لا هم يستطيعون البقاء حيث هم، ولا يجرؤون على العودة إلى بلادهم. وبعد أن عمل سكرتيراً في القنصليّة الروسيّة في "سياتل" واشنطن، انتقل إلى نيويورك، لينضمّ إلى الرابطة القلميّة، وليعمل من جديد في إحدى البعثات الروسية (بعثة المدفعيّة)، فيبقى إذ ذاك في جوّ روسيّ.
من عُزلتِه في سفح جبل صنين اللبناني تابع المفكّر والأديب اللبناني متألّماً معارك "الحرب الباردة" بين العملاقين "الأوفر غنى ونشاطاً وفتوّة من كلّ دول الأرض"، مستعرضاً تاريخ الثورات والحروب الأهليّة في البلدين، ليصلا إلى مكانة يعتزّ بها كلاهما بين الأمم، من تحرير المهمّشين والفلاحين من قبضة الجهل و"الكولاك" (بمعناها الحرفي: جمع الكفّ، وتطلق على كبار الملّاكين الرّوس الجشعين والقساة)، وتالياً تحقيق المساواة والكرامة في أحدهما، وترسيخ الحريّة الفردية والقوة الاقتصاديّة في الآخر. ويردّد مستذكراً قول الشاعر: "تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها/أهلاً بأهلٍ، وجيراناً بجيرانِ".
وفي كلّ مرة يجتاز فيها حدوداً لا يشعر بأنه انتقل من عالم إلى آخر، ولا بأن السماء غير السماء، أو الأرض غير الأرض. ليخلص إلى أنّ مشكلة الإنسان الحقيقيّة تكمن في أنه "ما وعى بعدُ قيمتَه وهدفَه كإنسان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون