نحار أي الطُّرق سنختارها لتؤدي بنا إلى خان أسعد باشا؛ هل ندلف من باب شرقي ومئذنته البيضاء سالكاين الشارع المستقيم المليء بخبايا التاريخ، أم نأتيه من باب الجابية وصولاً إلى سوق مدحت باشا المسقوف بحميميته التي لا توصف، أم نختار باب توما ذريعةً لنمرّ على حجارته السوداء نحو حمام البكري فالقيمرية، ومنها نؤمّ إلى المسجد الأموي قبل أن نصل إلى ذاك الخان.
أما رابع الخيارات فهو سوق الحميدية المكتظ بالبشر والبسطات والمحلات التي تُلبِّي احتياجاتنا من البابوج للطربوش، أو ربما نختار الطريق المحاذي لقلعة دمشق، وكأن خان أسعد باشا هو واسطة العقد، وكل الدروب الجميلة تؤدي إليه، فهو نقطة تلاقي تلك الطرق، إذ يقع وسط سوق البزورية الدمشقي الشهير، كنكهة تَضاف إلى روائح البهارات المكتظة في محلاته، أو عبق مميز من طيف العطور التي تلفحنا أينما يممنا وجوهنا.
تكثيف حضاري
خان أسعد باشا من الأوابد العمرانية التي تفوق نظائرها في جميع البلدان التي انتشرت فيها الخانات الإسلامية، أُنشئ هذا الخان عام 1159هـ/1743م، وانتهى بناؤه عام 1167هـ/1753م بحسب الكثير من المؤرخين، وهو ملك خاص لوالي دمشق وأمير محمل الحج الشامي أسعد باشا العظم، وانتقلت ملكيته في ما بعد إلى عدد من التجار، ثم استملكته مديرية الآثار والمتاحف بدمشق.
وهو من أكبر خانات الشرق الأوسط، ويختصر مكانة دمشق الاقتصادية والفنية، كما أنه من أهم محطات طريق الحرير، ويختصر حضارات مرّت على دمشق بدءاً من الإغريقية والرومانية وصولاً إلى الإسلامية، ويبقى شاهداً على عظمة أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، وانعكاساً على انفتاح أهلها الفكري والثقافي.
"هذا الخان أجمل خانات الشرق وقبابه تُعيدني إلى فن عمارة البندقية في عصر النهضة بأوروبا، وإن شعباً فيه مهندسين لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا الخان وعمال قادرون على تنفيذه جدير بالحياة والفن"... هكذا وصفه لامارتين
وعلى العكس من الازدحام والضجيج الذي يشهده سوق البزورية، فإن مناخاً من السكينة والهدوء سيلفحنا ما إن ندلف من بوابته بزخرفاتها البديعة، التي ما زالت ماثلة بجمالها منذ نحو 272 عاماً، يعلو تلك البوابة سقف مزخرف بقوسين بارزتين متشابكتين، وفوقهما تجويف من المقرنصات تحيط به قوس مركبة من أحجار متشابكة مسننة بلونين أبيض وأسود متناوبين، وفوقهما نافذتان، وعلى جانبي القوس من الأعلى نوافذ مستطيلة، ومن الأسفل فتحتان مزودتان بزخارف مميزة.
وفي واجهة البناء الجنوبية الغربية هناك 31 مخزناً، وبعد دهليز عريض يستوعب غرفتين للحراسة ومصعدي الدَرَجين ثمة باحة ذات فتحة سماوية دائرية وفي وسطها بركة مثمّنة، وجدران الباحة التي تشكل واجهات الغرف مبنية بالحجر الأسود والأبيض بمداميك متناوبة، وهو ما يسمى في العمارة السورية بالحجر "الأبلق"، وتحيط بالفتحة السماوية ثماني قباب تغطي الباحة عدا مركزها بمساحة 729 متر مربع، وهي ترتفع عشرين متراً.
يتألف هذا الخان من طابقين: الطابق السفلي يحوي واحداً وعشرين مخزناً أكثرها مزود بمستودعات، وفي القسم الشمالي الغربي مسجد صغير ينفتح إلى خارج الخان.
ويتألف الطابق العلوي من أروقة مشرفة على الباحة، وخلفها خمس وأربعون غرفة، وجناح للحمامات، والغرف جميعها مغطاة بقباب صغيرة، وذات أبواب ونوافذ ما زالت تحتفظ بأصالتها مع أقفالها.
زاره "لامارتين"
واجهة هذا الخان ومشهده الداخلي يثيران الإعجاب بروعة الزخرفة والتنسيق اللوني، مع دراسة رائعة لسينوغرافيا المكان، وكل ذلك يدفعنا للسؤال عن هذا الخان ومعماريته التي تُشبه الحصون إلى حد ما، تذكرنا بما قاله عنه الشاعر الفرنسي "لامارتين" عندما زار دمشق سنة 1833: "هذا الخان أجمل خانات الشرق وقبابه تُعيدني إلى فن عمارة البندقية في عصر النهضة بأوروبا، وإن شعباً فيه مهندسين لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا الخان وعمال قادرون على تنفيذه جدير بالحياة والفن".
غرفة "الخانجي" وهو مدير الخان، كانت مطلة على السوق ليراقب حركة التجار والقوافل الداخلة إلى الخان
نلجأ إلى مديرة خان أسعد باشا الأستاذة غادة سليمان التي أوضحت: "تبلغ مساحة هذا الخان 2500 متر مربع، ويمتاز بأن أسعد باشا وظف لبنائه إمكانات تقاليد العمارة الفنية السورية آنذاك، مع بروز تأثر واضح بالحضارات التي مرت على دمشق بدءاً من العصر الهلنستي مروراً بالروماني والإسلامي بحقبه العديدة. وكلمة خان مشتقة من الفارسية وتعني المبيت (كرفاي سراي)، وكانت الغاية من بنائه عام 1743م إيجاد مكان لتبادل البضائع بين التجار ويكون في الوقت ذاته استراحة لهم، حيث إن دمشق تقع في موقع إستراتيجي على طريق الحرير، كما أنها ازدهرت اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، في فترة حكم أسعد باشا الذي كان مستقلاً نوعاً ما عن الأوامر السلطانية في الأستانة، لذلك أصبحت على مستوى عالٍ من الفكر والثقافة".
وتابعت سليمان أنه بعد ستة أعوام من بناء الخان، أي في عام 1759م تحديداً، تعرضت دمشق لزلزال تهدّم على إثره عدد من القباب، واشتعل حريق في الخان حتى أن الأثاث والسجلات احترقت وسرقت، وكان لذلك أثر كبير في فقدان الكثير من المعلومات والوثائق المتعلقة به. لكن في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر دخل تجار سوق البزورية إلى الخان ورمموه بشكل بسيط كي لا ينهار، وتم استملاك المحلات التجارية التي كانت جزءاً من الخان وأصبحت أملاكاً خاصة، واستمر الوضع على هذا النحو حتى عام 1979–1980 حين استملكته وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار".
غرفة "الخانجي"
وعن أجزاء الخان واستخداماتها، أشارت مديرته إلى أن الطابق الأرضي مكون من 40 غرفة تتوزع على 11 جناحاً، كانت مخصصة لتخزين البضائع والسجلات التجارية لتدوين الصفقات، أما الطابق الثاني فمؤلف من 44 غرفة وهي غرف إفرادية خصصت لمنامة التجار، وتختلف عن نموذج الطابق الأرضي، بالإضافة إلى وجود غرفة "الخانجي" وهو مدير الخان، حيث إن غرفته كانت مطلة على السوق ليراقب حركة التجار والقوافل الداخلة إلى الخان.
وتلفت سليمان إلى أن هناك أربعة أعمدة تحمل تسع قباب متناوبة بالارتفاع لتوزيع الضوء والهواء، وإحدى تلك القبب مفتوحة، وهي القبة المتواجدة فوق البحرة، ويذكر بعض المؤرخين أنها كانت مسقوفة بسطح جَمَلوني، لكن هناك خلاف حول هذه الأمر، كما أن مسجد البزورية الحالي هو جزء من المبنى، وهناك ثلاثة وثلاثون محلاً تجارياً ينتمون إلى كتلة بناء الخان ذاته.
كتابة تُمجِّد الوالي
وتتوقف مديرة الخان كثيراً عند البوابة الضخمة للخان، إذ تقول: تحتوي على مقرنصات شكلها محدب تشبه حذوة الفرس وهي مزيج من المقرنصات الأيوبية والمملوكية بحسب التسلسل التاريخي، فالأيوبية محدبة جداً، وفي منتصف البوابة هناك كتابة تمجد أسعد باشا كوالٍ لدمشق بالخط الكوفي، أما على طرفي البوابة فنلاحظ ثلاث أعمدة مزخرفة على الطريقة اليونانية السورية، وترجع للفترة الهلنستية التي أسس فيها سلوقس نيكاتور الدولة السورية 312 قبل الميلاد، فالزخرفة مجدولة، والتاج أيوني، وعلى طرفي البوابة ثمّة سبيلاً ماء مازالا يعملان حتى يومنا هذا، ومياههما من نبع الفيجة، وعلى على سبيل دائرة تسمى معمارياً عين البقرة وتعود للفترة الإسلامية".
وعتبة الخان تأتي بمثابة توطئة جمالية لهذا المكان الآسر، إذ عند عتبته الأولى، كما تقول سليمان، يرتفع قوسان دائريان يعودان إلى الفترة الرومانية، وعند العتبة الثانية ثمة مدخل طويل يؤدي إلى الساحة مع درجين جانبيين للطابق الثاني، أما السقف فمزخرف بأشكال هندسية وعلى رأسها زهرة اللوتس المستقاة من الحضارة العربية الإسلامية.
استضاف الخان العديد من الشخصيات المهمة مثل ملكة إسبانيا والممثلين براد بيت وأنجلينا جولي، وأجريت فيه ندوات حوارية وثقافية، وعروض أزياء، ومعرض للأماكن الأثرية التي تعرضت للتخريب والهدم خلال الحرب
وأوضحت مديرة الخان أنه بعد استملاك وزارة الثقافة للخان قامت بعملية ترميم استمرت 25 عاماً، بعدما تعرض للكثير من الخراب والهدم، حتى أن القباب كانت مغطاة بشكل يحميها فقط من المطر والشمس، لكن هناك تشققات كبيرة فيها وكانت جميعها مزخرفة، ولم يبقَ سوى قبة واحدة أصلية، أما الباقية فأعيد ترميمها وزخرفتها بنفس الرسوم والزخارف والألوان وهي رسوم دقيقة وصغيرة، وذلك بخبرات وطنية من العاملين في المديرية العامة للآثار والمتاحف، وطبعاً كل عمليات الترميم أجريت بعد دراسات تاريخية وجيولوجية خاصة، لاسيما أن دمشق تقع على بحيرات من المياه.
مركز ثقافي
ومنذ إعادة افتتاح الخان عام 2005 بات إلى جانب قيمته المعمارية والتاريخية، معلماً ومركزاً للنشاطات الثقافية والفنية، فمن معارض الفنون التشكيلية ولاسيما معرضيْ الخريف والربيع السنويين، إلى العروض والقراءات المسرحية التي استفادت من سينوغرافيا المكان، فضلاً عن مهرجانات للحرف والمهن اليدوية والتراثية. وعلمنا من سليمان أنه عقدت فيه مؤتمرات على مستوى عالٍ جداً ما أدى إلى نقلة نوعية للترويج للخان، وباتت تلك المؤتمرات مناسبة للتعريف بحضارة سوريا وإرثها الثقافي والفني، كما استضاف الخان العديد من الشخصيات المهمة مثل ملكة إسبانيا والممثلين براد بيت وأنجلينا جولي، وأجريت فيه ندوات حوارية وثقافية، وعروض أزياء، ومعرض للأماكن الأثرية التي تعرضت للتخريب والهدم خلال الحرب (أفاميا – ماري – إيبلا) بعدما تم توثيقها بمعرض فوتوغرافي أقامته المديرية العامة للآثار والمتاحف ما بين عام 2013 و2014، ومهرجان الكتاب المتعلق بالتراث، وإلى جانب كل ذلك تم تصوير العديد من الأعمال الدرامية السورية في الخان مثل مسلسل الحلاج وحرملك وغيرهما.
ورغم أن الحرب أثرت بشكل كبير على عدد الزوار، كما تشير سليمان، إلا أن السياحة الداخلية إليه لم تنقطع طيلة سنوات الأزمة، وازداد الإقبال عليه في السنوات الأخيرة، إذ بات مكاناً يستريح فيه الناس من المشي الطويل في الأسواق المحيطة، ولذلك تم إنشاء مقهى صغير في إحدى زوايا ساحة الخان ليؤمن متطلبات الزوار، والجدير بالذكر أن سعر بطاقة الدخول إليه هي مائة ليرة سورية (0,025$) فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...