كان الكاتب محمد شكري مهووساً منذ كتاباته السّردية الأولى بالتجريب، وداعياً إلى "كسر عمود السَّرد" والتمرّد على الموروث الأدبي العربي وأنسنته باعتباره فعلاً بشرياً يخضع لمبدأ النسبية، لا مبدأ الكمال.
ويرى من جهة ثانية أن القراء العرب قد تطوّروا كثيراً، مقارنةً بالكتّاب العرب الذين بقوا نسّاخين للمواضيع والأساليب. وفي إطار مديحه للقراء العرب المعاصرين الذين استفادوا من نشاط الترجمة، وما قدمته لهم الآدابُ العالمية الراقية، اعتبر أن الكتّاب العرب المعاصرين المكبّلين بأغلال الماضي يعيشون مأزقاً حقيقياً، نتيجةَ جمودِ أدائهم، مقارنةً بتطوّر أداء القراء الذين أصبحوا يرون في ما يكتبه الكتّابُ العربُ مجرّدَ سذاجاتٍ، مقارنة بما يصلهم من الآداب العالمية الأخرى، مما أفقد الكتّابَ العربَ، حسب رأيه، نخبةَ القراء، وأصبحت كتاباتهم لا تُغري سوى المرضى وأنصاف الأمّيين. ويعطي مثالاً للكتّاب الذين فقدوا قرّاءهم بإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ووفيق العلايلي، الذين "لم يعد يقرأهم إلاّ الذين لم يتخلّصوا من مراهقة الكبت الجنسي وعقدة الدونية تجاه الطبقة البرجوازية"، حسب رأيه.
ومن ثم فالكتّاب العرب المعاصرون، حسب شكري، عليهم أن يجاروا الكتّابَ العالميين في نظرتهم الجدّية للكتابة، بصفتها فنّاً، لأن القراء العرب تطوّروا، وأصبحوا يقيّمون الكتابة العربية وفق ما اكتسبوه من معرفة بفنون الكتابة، من خلال قراءاتهم ومطالعاتهم للآداب العالمية. وهذا تماماً ما يعنيه محمد شكري بأن الكاتب العربي محكوم عليه "أن يكون طبقياً في كتاباته".
تكشف لنا هذه العتبة النصّية عمقَ الوعي الفنّي لمحمد شكري، ونظرته المختلفة للكتابة، وهو بذلك يفنّد القراءات العجلى لكتاباته، والآراء الخاطئة بخصوص العفوية والسذاجة التي كان يكتب بها.
قراءة أعمال محمد شكري في ضوء هذه الآراء والمواقف من الكتابة الأدبية تجعلنا نكتشف أن شكري كان مجرّباً ومجدّداً في الكتابة السردية بوجهٍ عام، والسّيرذاتية بوجهٍ خاص. وهو في كتاباته يحاول أن يتبارى مع الكتّاب العالميين، ويسعى جاهداً إلى تجاوز منجز الكتابة العربية. لذلك كان لا يترك فرصةً دون أن يشير إلى أصالةِ أسلوبِه وتفرّدِه والقطيعة التي أحدثها مع الإرث الطه حسيني في الكتابة السيرية.
كان مهووساً منذ كتاباته السردية الأولى بالتجريب، وداعياً إلى "كسر عمود السّرد"، والتمرّد على الموروث الأدبي العربي، وأنسنته، باعتباره فعلاً بشرياً يخضع لمبدأ النسبية، لا مبدأ الكمال... الكاتب المغربي محمد شكري
في هذا الإطار يمكن أن نفهم القصدَ من وصفِه لسيرته الذاتية بأنها "رسالة احتجاجية" و"محاولة لكتابة الكتابة"؛ فإلى جانب رسالتها الاجتماعية بما هي سيرة تؤرّخ للمهمّشين، فقد كانت في الآن ذاته رسالةَ احتجاجٍ فنّيٍّ لما هو متداول في الساحة الأدبية آنذاك. أحدثت سيرة شكري انعطافاً، لا في كتابة السيرة الذاتية فقط، بل في كتابة الرواية العربية.
الكتابة و الأسلوب عند شكري
يؤكّد محمد شكري في عديد اللقاءات والشهادات أن "الأسلوب هو الرّجل"، على حد عبارة بيفون، وأن لكلِّ كاتب أسلوبه الخاص الذي يميّزه عن غيره. ويعتبر الكتابة الأدبية والإبداعية تأتي كفعل احتجاجٍ ضد العادي، والمألوف واليومي والآني، ومن ثم فهي تقطع مع كلّ ما هو جاهز، بما في ذلك الأسلوب، فهي "مغامرة بشرية من أجل تسكين القلق اليومي والوجودي والميتافيزيقي". والكتابة عنده صنفان لا ثالث لهما: جيدة، ورديئة، كتبها رجل أم امرأة. ولا يؤمن بتذكير الكتابة ولا بتأنيثها، ويقرن عمليةَ اكتساب الأسلوب الخاص بإتقان اللغة، وقدرة الكاتب على تطويعها من جهة، وبتنوع قراءات الكاتب من جهة ثانية.
قدّم محمد شكري اللغة العربية في ألعاب جديدة، وطوّعها لتشتغل وفق فكرٍ جديد لكاتب مختلف آتٍ إليها من قاع المجتمع، وغازٍ إياها من مجاهل الأمية وفضاءات التهميش؛ لغة وصفها الناقد إبراهيم الخطيب بـ"الحسية العنيفة" "استمدت نصّها من معايشة تلك الأحداث معايشةً آنية أو عبر ذاكرة حريصة على عدم نسيان أي شيء".
لم تكن اللغة والأسلوب اللذان كتب بهما "الخبز الحافي" سوى اختيار من محمد شكري لكتابة سيرة ذاتية مختلفة. فلئن كان صحيحاً أن محمد شكري قد أقدم على كتابتها عن طريق الصدفة، وفي وقت قياسي، إذ لم يستغرق زمن الكتابة كما ذكر سوى شهرين، فإنه وهو يخوض تجربةَ الكتابة، كان يستند إلى ذاكرةٍ قرائية كبيرة لفنّ السيرة الذاتية وفن الرواية معاً.
ومن ثم فسرعة الكتابة لم تكن تعني التسرّع؛ فمحمد شكري، آنذاك، كان ما زال يمتلك ذاكرةً شفوية اكتسبها من سنوات الأمية العشرين، فكان يكتب نصوصه في ذاكرته قبل أن يحبّرها على الورق، وهذا ما يفسّر عدم مراجعته لنصوصه في بداية الأمر، لأن المراجعة قد حصلت في الذاكرة قبل أن تنتقل إلى الورق. وهذا ما يعنيه شكري بأنه يطبخ نصوصه جيداً في الذاكرة قبل كتابتها. ألم يردّ على بولز الذي احتجّ على توريطه في إبرام عقد حول ترجمة نصّ غير موجود: "كانت سيرة حياتي مطبوخة جيداً في ذهني يا سينيور بولز"؟
إقدام محمد شكري على كتابة سيرته الذاتية بطريقة روائية مردّه هو إيمانه بأن لا فائدة من استرجاع الوقائع التي عاشها بطريقة تسجيلية باردة، فالأدب عنده ليس انعكاساً كلّياً للواقع، وليس استعادةً ساذجةً له
يبدو أن هذه الملكة ستختفي من تجربة شكري مع الكتابة كلّما ابتعد عن زمن الأمية (نقطة الصفر مع اللغة)، إذ يصرّ في حواره الشهير مع القدس العربي إنه ليس بصدد الكتابة إنما يكتفي بمراجعة ما حبّره منذ سنوات.
محمد شكري وتجنيس الثلاثية
أما حول تجنيس النص السيري الأول، فيقول محمد شكري، إجابةً عن سؤال وجّهه له جهاد فاضل عن تجنيسه الشخصي لكتابه "الخبز الحافي" وهل يعتبره "روايةً" أم "سيرة ذاتية": "هي سيرة ذاتية. أنا لا أقول إنها رواية، ولا أقول في نفس الوقت إنها سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ متسلسل، فهي سيرة ذاتية (مُروّأَة)، أو سيرة ذاتية روائية، كتبتها بشكل روائي".
يلتزم شكري بهذا الموقف في جلّ تصريحاته حول مؤلَّفه، ولكننا نجده أحياناً غيرَ مبالٍ أو متردداً في تجنيس "الخبز الحافي"، ففي حوار جمعه بالصحافي حسن أحمد بيريش، وجدناه يصف نصَّه بالرواية والسيرة الذاتية معاً، ثم يصفه بالكتاب، ليطلق عليه بعد ذلك صفة "الرواية". وانطلق يحلّل نصَّه وفقاً لهذا التجنيس، ولكنه يعود بعد ذلك إلى الحديث عن كتابه واضعاً إياه في خانة "السيرة الذاتية الروائية"، ويواصل حواره الطويل مؤكّداً هذا الانتماءَ الأجناسي.
اسم العلم والسيرة الذاتية
يمثل الاختبار الاسمي أحدَ أهم الاختبارات التي تستند إليها عملية التلقي لتبيّنِ مدى انخراط النص الأدبي موضوع القراءة في خانة السيرة الذاتية، إذ يرفع المنظرون لهذا الجنس الأدبي اسمَ العلم إلى مستوى الميثاق القرائي الأول، ويعتبره الفرنسي فيليب لوجون المدارَ الأساسي لجنس السيرة الذاتية. فيقوم البحث في أجناسية النصّ في البداية على النظر في هوية الرّاوي ومدى تطابقه مع هويّة المؤلّف. وأثبتت البحوثُ المتعلقة بالكتابة الأوتوبيوغرافية أن ضمير المتكلم لا يمكن اعتباره دليلاً قاطعاً على هذا التطابق، ولا مؤشراً على انخراط النصّ في السيرة الذاتية، لأن هذا الضمير يسجل حضورَه بالكيفية ذاتها في فنون أدبية أخرى، مثل المذكّرات والرحلة والرواية التي تتقاطع مع السيرة الذاتية في الكثير من النقاط الإستراتيجية.
ومن ثم وجب البحث عن عناصر أخرى تكون خاصةً بالسيرة الذاتية لتجنب هذا الالتباس، وكأن الرواية باتت تهدد بابتلاع السيرة الذاتية غير الدقيقة أو النصوص الأوتوبيوغرافية التي تركها مؤلفوها دون مواثيق قرائية واضحة.
وتبعاً لما تقدّم اكتسب اسمُ العلم في السيرة الذاتية قيمتَه الهامةَ باعتباره توقيعاً على انتساب النصّ، وتصريحاً بدخوله خانةَ الأوتوبيوغرافيا. ومن هنا جاء استنتاج عبد القادر الشاوي التالي: "يبدو الاسم العلم في السيرة الذاتية صفةً حصرية للمؤلف، به يتعيّن ويوقّع الكتاب، فيصبح منتسباً إليه ضمن قائمة أخرى من الانتسابات الممكنة".
يقترن اسم العلم/اسم المؤلف بالشخصية الرئيسية في العمل السيرذاتي، ولكن إذا كان المشكل بالنسبة إلى الشخصية في الأعمال التخييلية لغوياً بالأساس، كما ورد في "المعجم الموسوعي لعلوم اللغة"، لأن الشخصية باعتبارها كائناً ورقياً لا وجود لها خارج الكلمات، فإن الشخصية في السيرة الذاتية المشار إليها باسم العلم هي شخصية من لحم ودم، ولها وجود حقيقي في الواقع، متمثلة في شخص المؤلّف و"مؤلف ما ليس مجرد شخص. إنه شخص يكتب وينشر. ولأنه متواجد خارج النص وفي النص، فإنه خط الوصل بين الاثنين، ويتحدد بصفته شخصاً واقعياً مسؤولاً اجتماعياً، ومنتجاً لخطاب، في نفس الوقت"، كما يقول لوجون. وقد دعم جرار جينت في كتابه "عتبات" قيمةَ اسمِ المؤلف الذي اعتبره "يشغل وظيفةً تعاقدية مهمة في الأجناس الضعيفة التخييل أو الخالية منه".
يرى شكري أن الكتّاب العرب المعاصرين المكبّلين بأغلال الماضي يعيشون مأزقاً حقيقياً، نتيجةَ جمودِ أدائهم، مقارنةً بتطوّر أداء القراء الذين أصبحوا يرون في ما يكتبه الكتّابُ العربُ مجرّدَ سذاجاتٍ، وأصبحت كتاباتهم لا تُغري سوى المرضى وأنصاف الأمّيين
يمثّل اسم المؤلف على غلاف العمل الأدبي واحداً من المحرّكات الكبرى في عملية التلقي، خاصة مع الكتّاب الذين يحملون أسماء مستعارة؛ فكاتب مثل الجزائري محمد مولسهول الذي يوقّع أعماله باسم زوجته "ياسمينة خضرا"، قد يربك قارئاً جديداً يقرأه لأول مرّة، لأنه سيتلقّى أعماله باعتبارها صادرةً عن كاتبة، وهذا ما سيدفع به إلى قراءة أعماله في ضوء المنجز الأدبي النسائي. وإن كان هذا القارئ ناقداً، فستكون الطامةُ أكبرَ، لأنه سيكتب عنه وفق هذا التصوّر الجندري للأدب، ومن ثم سيجانب الحقيقة، وهو ما حصل بالفعل عندما أُدرج اسمه ضمن قائمة الروائيات الجزائريات في بيبليوغرافيا المبدعات المغاربيات.
هذا الاعتقاد سيدفع بالقراء إلى تناول سيرة محمد مولسهول الذاتية التي حملت عنوان "الكاتب" على أنها رواية أو سيرة غيرية. ومن ثم فالتغيير الذي لحق باسم الكاتب على الغلاف يمكن أن يكون سبباً في تغيير أفق التلقي وأجناسية الكتابة؛ إذ يتسيّد اسم المؤلف في تلقي السيرة الذاتية حركة القراءة، ويقودها، لأنه أحد بنود الميثاق الذي يعقده الكاتب مع القارئ، فتوقيعه لنصه باسمه في حضور العلامة الأجناسية الدالة على انخراط العمل في السيرة الذاتية يكون قد تعهّد بأنه هو نفسه الشخصية الراوية والمروية في آن. وهكذا يكون اسم المؤلف على غلاف الكتاب قد انقلب إلى عقدٍ قرائي من الطراز الأوّل لا يمكن أن نقفز عليه دون أن نمعن النظرَ فيه.
تحمِل كلُّ أعمال محمد شكري الأدبية توقيعَه الخاصّ على الغلاف، ولم يلجأ الكاتب في أيّ عمل من أعماله إلى الأسماء المستعارة، فالاسم العلم يوحّد أعمال شكري باعتبارها صادرةً عن مؤلف واحد.
غير أن وجود الاسم العلم على غلاف العمل الأدبي لا يجعله منخرطاً في السيرة الذاتية، إلا بحضور دعائم أخرى من داخل النص وخارجه، وأوّلها التطابق بين هذا الاسم المرسوم على الغلاف مع اسم الشخصية التي تضطلع بمهمة السرد، والتي عليها أيضاً أن تكون مدارَ الحكي. وهو شرط وضعه فيليب لوجون، وتبنّاه تيتز رووكي في قوله: "التطابق بين اسمي الكاتب والبطل دالّ أولي على نوع العمل كسيرة ذاتية في تعريفنا للنوع".
يعلن محمد شكري عن هوية السارد في "الخبز الحافي" منذ الصفحات الأولى، ليثبت اسم العلم. ويؤكد ذلك التطابق بين السارد والمؤلف، ليدفع بعملية التلقي في طريق معلومة هي القراءة وفق أفق تلقي السيرة الذاتية. وقد استند في ذلك إلى صورة سردية استحضر من خلالها أمَّه وهي تناديه في الظلام: "الناس نائمون، مصباح الله يظهر ويختفي، شبح أمي، صوتها خفيض. تبحث عنّي. تنتحب، الظلام يخفيني. لماذا ليست قوية مثله؟ الرجال يضربون النساء وهن يبكين و يصرخن.
- محمد، محمد اينو (محمدي). أراحد (تعال)، لا تخف أراحد".
و يظل محمد شكري يذكّر بتطابق السارد مع المؤلف بترديد اسم العلم "محمد" في أكثر من موضع من الكتاب ليدعم التلقيَ الخاصَّ بالسيرة الذاتية.
العلامة الأجناسية المتحركة
تعتبر العلامة الأجناسية من أهمّ النصوص المصاحبة التي تضطلع بأدوار رئيسية في عملية التلقي لأنها هي العلامة التي يهتدي بها القراء، ويباشر عملية القراءة لأول مرة. فعادة ما تحمل الكتب الأدبية علاماتٍ أجناسية واضحة تشي بانخراط تلك الأعمال في أجناس أدبية معينة، فنقرأها وفقاً لمخزوننا القرائي التراكمي السابق الذي أكسبنا معرفة السمات الدالة على انخراط نصٍّ ما في جنس أدبي معين.
يميل بعض الكتاب اليوم إلى تعمية النصّ بحجب العلامة الأجناسية المميزة لها، إما إمعاناً في إجهاد القراء، أو إقراراً منهم باستعصاء التجنيس. وإن كان جان ماري شيفر يرى أن الكاتب يكون في الغالب على دراية بالجنس الذي يكتب فيه أثناء عملية الكتابة نفسها، بينما يميل بعضٌ آخر إلى اجتراح ما يشبه العلامة الأجناسية لتعيين مؤلفاتهم؛ فنقرأ أحياناً على أغلفة بعض الكتب عبارات من نحو "نصوص" و"محكيات" و"شعريات" و"تخييل" وغيرها من المسميات التي تخلق حيرةً في تجنيس العمل، لأن تلك التعيينات لا توضّح بدقة تصنيفَه الأجناسي، إنما تتركه مجهولَ النّسب إلى حين.
بمتابعة طبعات ثلاثية محمد شكري نلاحظ بعض التذبذب في تجنيسها، من خلال العلامة الأجناسية المتحرّكة من ناحية، وغموض العلامة في حدّ ذاتها من ناحية ثانية. فقد لاحظنا أن العلامة الأجناسية المميزة تتبدّل أحياناً من طبعة إلى طبعة أخرى؛ فمرّة نكون إزاء علامة "رواية" ومرة إزاء علامة "سيرة ذاتية روائية"، فكتاب "الخبز الحافي" صدر تحت مسمّى "رواية"، لكن طبعاته الأخرى المشرقية حملت عبارة "سيرة ذاتية روائية"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى "الشطار"، أو "زمن الأخطاء"، و"وجوه".
هذا التذبذب في ثبت العلامة الأجناسية، من شأنه أن يهزّ من الميثاق القرائي الذي يعقده الكاتب مع القارئ الافتراضي، لأنه ميثاق "مُحيّر"، وعلامة أجناسية غير صارمة، بسبب تردّدها وتحرّكها. وقد تكون سبباً في تضليل القراء، لأن كلمة "رواية" على أغلفة كتب شكري السيرية تدفع بهم إلى التعامل معها وفق تلقي النصوص التخييلية، والتي تقف على طرف نقيض للنصوص المرجعية (السيرة الذاتية، المذكرات، التاريخ، اليوميات).
يصف شكري سيرته الذاتية بأنها "رسالة احتجاجية" و"محاولة لكتابة الكتابة"، فإلى جانب رسالتها الاجتماعية كانت في الآن ذاته رسالةَ احتجاجٍ فنّيٍّ لما هو متداول في الساحة الأدبية آنذاك. وأحدثت سيرة شكري انعطافاً، لا في كتابة السيرة الذاتية فقط، بل في كتابة الرواية العربية
وإن تجاوزنا موضوع التذبذب في تعيين النصوص، وجزمنا وفقاً للطبعات المغربية، التي كان يُشرف على صدورها محمد شكري بنفسه، وتعاملنا مع نصوصه تحت مسمّى "سيرة ذاتية روائية"، فإن هذه العبارة أيضاً تطرح إشكالياتٍ كبرى، لأنها علامة "مهجّنة" تربط الشيءَ بنقيضه. فكيف للسيرة الذاتية بما هي حكي حقيقي مرجعي يحتمل التكذيب والتصديق، أن تتعالق مع صفة الروائية بما يحمله مفهوم الروائية من معانٍ من ضمنها أنها ليست سوى حكياً خيالياً؟ وهل لهذه التوليفة الأجناسية من سندٍ نظريٍّ في أدبيات السيرة الذاتية؟
يعود أصل هذا المصطلح إلى طروحات الفرنسي جورج ماي في كتابه "السيرة الذاتية" عندما درس العلاقة الوطيدة التي تربط السيرة الذاتية بالرواية. فالسيرة الذاتية، حسب رأيه، تظلّ حاضرةً دائماً في جنس الرواية، "ولا يتغيّر إلاّ مقدار النسبة السيرذاتية فحسب". ويرسم الناقد الفرنسي سلّماً لونيّاً جامعاً بين الجنسين، فيضع في خانة اللون البنفسجي الرواياتِ التي يكون فيها حضورُ المؤلف حضوراً خافتاً وضعيفاً، كالروايات التاريخية والشعرية والروايات الأخلاقية. وأقحم "في الرقعة الثانية ذات اللون النيلي الرواياتِ الشخصيةَ أو السيريةَ التي مدارُها على تطوّر شخصية رئيسية، ولكن هذه الشخصية الرئيسية بعيدةٌ عن شخصية الكاتب بعداً يمنعنا من أن نعتبرها صورة منه".
أما خانة الرقعة الثالثة ذات اللون الأزرق فاحتلتها الرواياتُ السيرذاتية المكتوبة بضمير الغائب. لكن الفرق بينها وبين الروايات الشخصية أن الشخصية الرئيسية في هذا النوع تكون مطابقةً أو تكاد لشخصيةِ المؤلف. وخانة اللون الأخضر فقد خصّصها جورج ماي للرواية السيرذاتية المكتوبة بضمير المتكلم، ليخصّ الرقعة الخامسة ذات اللون الأصفر بما أسماه ّالسيرة الذاتية الروائية"، وقد ميّزها عن الرواية السيرذاتية بانتمائها إلى جنس السيرة الذاتية، لا إلى الرواية، رغم توفّرها على قسط كبير من الخيال. واحتلت السيرة الذاتية المكتوبة باسم مستعار الرقعةَ السادسةَ ذاتَ اللونِ البرتقالي.
هذا التقسيم الجديد للكتابة السيرذاتية من خلال علاقتها بالرواية كشف عن نوع هامّ من السيرة الذاتية لم يقع التفطّن إليه ودراسته، وهو "السيرة الذاتية الروائية"، والتي يراها جورج ماي منزلةً وسطى بين الرواية السيرذاتية والسيرة الذاتية، وهي العلامة الأجناسية التي خيّر محمد شكري استعمالَها في وصف ثلاثيته السيرية.
السيرة الذاتية الروائية... من يكتبها ولماذا؟
خلافاً للسيرة الذاتية وغيرها من الأنواع السردية المنخرطة في الكتابة عن الذات، مثل المذكرات واليوميات التي توصف بالأنواع الديمقراطية، لأن كتابتها متاحة للكلّ، تبدو السيرة الذاتية الروائية كتابةً خاصةً بالأدباء دون غيرهم، لأنهم لا يرضون عادةً باسترجاع الواقع كما هو، إنما يضفون على أعمالهم صبغةً فنّية تعمّق من أدبيّتها.
ومحمد شكري من هؤلاء المبدعين الذين عرفوا بالكتابة الإبداعية قبل خوضه لغمار الكتابة السيرية، فقد كان له رصيد من الأعمال القصصية والمحاولات الشعرية ومخطوط رواية عندما أقدم على كتابة الجزء الأول من سيرته الذاتية. لذلك فقد دخل عالمَ السيرة الذاتية من بوّابة الكتابة الإبداعية.
الكتابة عنده صنفان لا ثالث لهما: جيدة، ورديئة، كتبها رجل أم امرأة. ولا يؤمن بتذكير الكتابة ولا بتأنيثها
إقدام محمد شكري على كتابة سيرته الذاتية بطريقة روائية مردُّه إيمانُه بأن لا فائدة من استرجاع الوقائع التي عاشها بطريقة تسجيلية باردة، فالأدب عنده ليس انعكاساً كلّياً للواقع، وليس استعادةً ساذجةً له. ويؤكّد هذا الموقف في قوله: "إننا لا نكتب كيما نلتقط صورة واضحة كاملة طبق الأصل لهذا العالم حتى حين نكون مُطالبين بالكتابة عن سيرتنا الذاتية. الأصوات والمعاني، الحركات والأوضاع، التي نتلقاها في لحظة ما، معاشة أم مُتخيّلة، ليست هي نفسها حين نستعيدها فنّياً. لا تطابق هناك بين الشيء وإدراكه، محكوم علينا بالتجاوز".
نحسب أن هذا الرأي الذي وضعه محمد شكري يتجاوز مفهومَ السيرة الذاتية التي يكتبها الأدباءُ إلى مفهوم الأدب ككل. فالأدب في نظر شكري يُعتبَر تجاوزاً لليومي والواقعي، ومهما اتصفت غاياته وأهدافه بالنبل والسموّ، فإن تلك الأهداف والأغراض لا يمكن أن تحقق للكتابة أدبيتَها، لأن "هدف الأدب لا يقتصر على أن يكون وثيقة اجتماعية، إنه، أيضاً، وثيقة إبداعية في اللغة والتقنية والأسلوب".
السيرة الذاتية الروائية بوجودها، حسب التدرّج اللوني لجورج ماي، بين السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية، تنتزع أحقية المغامرة التخييلية بتحرّرها، ولو كان نسبياً، من الضوابط المرجعية التي تؤطّر الكتابة المرجعية، وتحدّ من علاقتها بالتخييل، وهو ما يجعل لكاتب السيرة الذاتية الروائية الحقَّ في توظيف ألعاب أسلوبية من شانها أن تحرّك تسلسل الأحداث المستعادة عبر الذاكرة، وإمكانية تحويرها بالتهويل أو الاختزال. بل عن محمد شكري يذهب إلى أبعد من ذلك ويعتبر الكاتب وهو يكتب لا يستعيد نفسَ الذكريات بتفاصيلها، لأن العالم الذي يتذكّره يعيش ضمن حركة التغيير ونفى أن يكون الفنّان مجرّد فراغ. وربط شكري هذا الرأي بمهمة الفن وهدفه الذي عرّفه بأنه "حافز ما لخلق تجربة إنسانية تسمو على مستوى التسجيل المحض".
وتبقى العلامة الأجناسية باعتبارها مصاحباً نصّياً متّكَأً ضعيفاً في عملية تقصي أجناسية النص الأدبي لمحمد شكري، لأن الحركة والتغير عنوان الضعف، والتردد عنوان حيرة. لذلك يظل الناقد في حاجة إلى البحث في نصوص مصاحبة أخرى وقرائن أخرى لمعرفة مدى انخراط الثلاثية (الخبز الحافي، الشطار، وجوه) في جنس السيرة الذاتية، لكنه لن يحتاج إلى أدلة أخرى لأحقّية أعمال محمد شكري في انتزاع مكانةٍ مضيئة في عالم الأدب. ذلك الأدب الصعب والعميق والذي يوهم بعكس ذلك في مخاتلةٍ مقصودة من مؤلفيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.