"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري
ارتديتُ بنطالي الذي اشتريتُه خصيصاً لتلك المناسبة، وخرجتُ على عجل. لم أنتبه إلى أن السحاب بقي مفتوحاً. لم أنتبه أيضاً إلى أن كل زر في القميص المشجر كان في العروة الخطأ. العجلة في تهيئة نفسي ورثتني فوضى الأزرار حتى صارت عادة متبعة. لكن هل كان يهمني ذلك؟ لا بالطبع. أنا شاعر، وتاج الشاعر شَعرُه الأشعث. هكذا أكرر كل مرة لأمي. بيني وبين المشط عداوة قديمة. عداوة تمتد إلى ذلك اليوم الذي قرأت فيه أن الناس سواسية كأسنان المشط. الآن لو رأى شعري مشطاً لما عرفه. سيعتبره مسطرةً بأسنان ناعمة كثيرة.
لا سحاب بنطالي المفتوح ولا أزرار قميصي التائهة كانت تهمني. المهم كان وصولي في الوقت المناسب إلى المركز الثقافي حيث سأحيي أمسيتي الشعرية الأكبر في حياتي.
كنت قد رتبت قصائدي التي سألقيها متسلسلة. قرأتها بإيقاعات مختلفة وأنا أقف أمام المرآة المربعة الباهتة. دققت كثيراً في نبرة الصوت عند نهاية كل قصيدة. حاولت جاهداً أن تكون نبرة خاصة يشعر معها الجمهور بانتهاء القصيدة فيصفق طويلاً. تخيلت التصفيق الحاد عقب جمل شعرية معينة فتدربت عليها جيداً.
حين أنزلني التاكسي عند باب المركز الثقافي وجدت حركة دائبة للناس.
- حركة غير طبيعية.
قال السائق وهو يتناول الأجرة.
قلت لنفسي وأنا أغلق باب التاكسي: إنه جمهور الشعر. المجد للقصيدة.
- في الحقيقة يا أستاذ... تيس... ظننتُ أنه يكرر ما تعود أن يلقبني به: "ت. س. إليوت". كان المدير يعتبرني إليوت الثاني بسبب ما أكتبه من مطولات شعرية يسمّيها هو ملاحم إليوتية... قصة ساخرة للكاتب جان دوست
تأبطت شعري وصعدت الدرجات السبع التي توصل إلى ردهة المركز الثقافي. ضحكتُ من لقب أسبغه على نفسي: تأبط شعراً! منَّيتُ نفسي وأنا أتوجه إلى غرفة مدير المركز باصطياد أجمل فتاة من بين الحضور. "فتاة بسيطة بالتأكيد، ويسهل الإيقاع بها ببضع جمل شعرية"؛ قلت لنفسي مرة أخرى.
قبل أن أصل إلى غرفة المدير، واصلت الحلم بالإيقاع الشهواني ذاته: سأركز نظراتي عليها مع كل جملة غزل وسأقرأ الأبيات بكل رقة حتى تشعر أنني أخاطبها هي بالذات.
لم يكن المدير في غرفته. نظرت إلى الساعة فإذا بها الخامسة وخمس دقائق.
يا ويلي. لقد مضت خمسُ دقائق على الموعد. الجمهور ينتظرني. تمتمتُ بصوت مسموع كعادتي حين أرتبك، وأسرعت إلى الصالة.
الصالة خالية.
اللعنة!
أين اختفى الجمهور؟ أين جمهوري أنا الشاعر الذي دانت له القوافي، واهتزت له المقاعد، وتألّمتْ الأكفُّ وهي تصفق له طرباً؟
حِرتُ في أمري. أأبقى أنتظر أنا الجمهور؟ لا، هذا لا يليق بشاعرٍ كبير مثلي. سأخرج للبحث عن جمهوري الـ... هذا. ربما تاه عني! سأعيد جمهوري الضالّ إلى حظيرة الشعر. والمدير؟ سأشجّ رأسه بمطرقة القصيدة إن رأيتُه.
وبينما أنا أتقلب على جمر الحيرة رأيت المدير يدخل لاهثاً. حين رآني وفي يدي أوراق الشعر ابتسمَ ابتسامةً بلهاء، وقال:
في الحقيقة يا أستاذ... تيس...
لم أدعه يكمل جملته بل قلت بتوتر: ليس الآن وقتُ الألقاب يا أستاذ. قل لي بحقّ إبليس ما الذي يحدث؟ أين جمهوري الكريم؟
ظننت أنه يكرر ما تعود أن يلقبني به: "ت. س. إليوت". كان المدير يعتبرني إليوت الثاني بسبب ما أكتبه من مطولات شعرية يسميها هو ملاحم إليوتية. في الحقيقة كنت معجباً بقصائد ت. إس. إليوت، وحفظتُ بعضها بنصّها الإنكليزي، وخاصة قصيدة الأرض اليباب.
- لا أقصد الشاعر ت. س. إليوت يا أستاذ.
قال المدير بارتباك. سألت:
- ماذا تقصد إذن؟
- التيس، التيس. التيس يا أستاذ.
- التيس؟ وما علاقتي وعلاقة أمسيتي الشعرية بالتيوس؟
ومددت يدي عفوياً إلى لحيتي.
أمسك مدير المركز الثقافي بذراعي وهو يقول متلعثماً:
لم يبق أمامي إلا أن أرمي أوراقي جانباً، وأصفق بحرارة لتلك القصيدة التي ألقاها التيس المقدس من مؤخرته... جان دوست في مجاز الخطّ الثالث
في الحقيقة اكتشفوا اليوم تيساً في البلدة. يقول صاحب التيس إن له ضرعاً يدر حليباً يشفي الأمراض. لا أدري كيف ولماذا انتشر هذا الكلام اليوم بالذات. لكن صدقني جمهورك الوفي كان هنا قبل ساعة. غصت القاعة به. ليتني أعرف من هو ابن الملعونة الذي صاح فيهم: "هناك تيس حلوب في الحارة الفلانية. التيس المعجزة. تيس بخصيتين ضخمتين وضرع هائل. حليبه يشفي كل العلل". خلال دقيقة واحدة فرغت المقاعد من الحضور. بقيت لوحدي مصدوماً. ثم قلت لأذهب وأعاين الخبر. هذا كل ما في الأمر. جمهورك عند التيس.
كدت أسقط على الأرض من الصدمة. تيس؟ يا جمهوري التيس؟ لست ابن أبي إن لم أطمركم ببعر قصيدة خرقاء.
مرت ثوانٍ قليلة أجتر فيها غيظي سمعت بعدها جلبة هائلة. فجأة رأيت الناس يدخلون المركز الثقافي أفواجاً. كانوا يلاحقون التيس المقدس. رأيته. كان تيساً أبيض اللون بلطختين سوداوين على ظهره ولحية تتدلى كقافية متمردة أسفل ذقنه. رأيته يهرب من الجمهور وهو يطرق الأرض بأظلافه الستالينية ويتوجه إلى المسرح والناس خلفه. صرنا نسمع طرطقة أظلافه على خشبة المسرح كقصيدة على وزن بحر الخبب: فعلن فعلن فعلن فعلُ. أخيراً توقف بجانب المنصة وصار يحدق إلى الجمهور الذي وقف ذاهلاً ينتظر ما سيفعله التيس في اللحظة التالية.
خيم صمت ثقيل على القاعة. بعد لحظة قصيرة تتابعت أصوات ذات إيقاع واحد. قرقعة أنيسة الوقع على الأسماع.
نظرنا في اتجاه المسرح المضاء جيداً فرأينا على الخشبة بعراً أسود كثيراً يتدحرج. كان بعراً جافاً. وكان لقرقعته وهو يسقط من مؤخرة التيس موسيقى شعر ت. س. إليوت في قصيدة الرجال الجُوف.
لم يبق أمامي إلا أن أرمي أوراقي جانباً، وأصفق بحرارة لتلك القصيدة التي ألقاها التيس المقدس من مؤخرته. كانت أروع قصيدة أسمعها في حياتي. ناب التيس عني في تلك الأمسية وأعفاني من مشقة الصعود إلى المنصة. كررت التصفيق فصفق الجمهور ورائي حتى اهتزت أركان المسرح بينما استمر التيس يلقي من مؤخرته بعراً كثيراً وهو يهز رأسه إلى الأسفل والأعلى كما لو أنه يحيي الجمهور السعيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين