"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري
لا أدري كم من الساعات قضيتها في الزنزانة! كنت وحيداً مع أربعة جدران صماء. لم أكن أسمع حس إنسان. أعتقد أن أحداً لم يكن يشعر بوجودي أيضاً. "للجدران آذان"، هكذا يقول المثل المشهور. لكن جدران زنزانتي كانت صماء بكماء، كانت تلك الجدران تبتلع صرخاتي دون أن ينجدني أحد.
أحياناً كان يتناهى إلى سمعي اصطفاق الأبواب الحديدية مثل رعود هادرة. كان يتبع ذلك مطرٌ من السباب والشتائم يترافق بصرخات الألم. وبقدر ما كانت الشتائم مقذعة فاحشة، كانت الصرخات عميقة خالية من أيِّ أمل. ثم كانت جبال الصمت تلقي من جديد بظلالها على زنزانتي وروحي وكياني كلِّه.
كنت أريد التبول. وكمن لم يتبول في حياته أبداً استبد بي شعورٌ غامر بالرغبة في التبول. برودة الزنزانة زادت حاجتي إلى ذلك. كان الضغط على مثانتي كبيراً. فكادت تنفجر. صرت أضم نفسي إلى نفسي، وأشد على أصابع يدي وقدمي كمن يحبس البول في داخله.
تذكرت مقولة كان أبي رحمه الله يرددها: "يا بني! إن الله تعالى وضع من نورِ ذاته في الوجوه الجميلة. لذلك إن كان لك سؤال أو حاجة فاطلبها من ذوي الوجوه الحسنة. هؤلاء لن يخيبوا لك ظناً"
حين ألقى بي السجان ذو العضلات المفتولة مكفهر الوجه إلى قعر زنزانتي، كنت أحتاج إلى التبول. رجوته واستغثت به: "اسمح لي أرجوك. اسمح لي فقط بنصف دقيقة". كانت توسلاتي تلمع كالسراب بين شفتيّ وآذانه المسدودة.
أعدت عليه رجائي، لكن هذه المرة بصوت أعلى قليلاً وأكثر حرقة: "مشان الله يا أخي. كليتاي تؤلمانني. دعني أذهب إلى التواليت. بإمكانك أن تعدّ إلى العشرة وسأعود".
لكن جرو الذئاب ذاك لم يصغ إلي، بل بصق في وجهي، وأمطرني بسيل من فاحش القول، ثم مضى وهو يدندن بلحن أغنيةٍ أحبها.
تذكرت مقولة كان أبي رحمه الله يرددها: "يا بني! إن الله تعالى وضع من نور ذاته في الوجوه الجميلة. لذلك إن كان لك سؤال أو حاجة فاطلبها من ذوي الوجوه الحسنة. هؤلاء لن يخيبوا لك ظناً".
- صدقت يا أبي.
قلت بصوت مسموع وأنا أستعيد صورة وجه ذلك السجان الكريه القبيح. توقف الزمن. صار مثل حمار كسول عجوز غائص في وحل كثيف. كانت حالتي تزداد سوءاً كلما مضت ثانية من الزمن. كنت أتألم وأتأوه. نسيت كلَّ شيء ما عدا حاجتي إلى التبول.
رجعت بي ذاكرتي إلى أيام الطفولة حين كنا نتبول على قارعة الطرق وفي الأزقة. كنا نرخي بناطيلنا قليلاً ثم نبدأ بالتبول وقوفاً. وفي الصباح الباكر، وبعد أن نستيقظ، كنا نذهب قبل أن نغسل وجوهنا إلى الشارع لنقف في مواجهة جدار ونتبول. كم كنا نستمتع بالبخار الصاعد حينذاك، لم يكن لسعادتنا حدود ونحن نراقب سحب البخار. أما حينما كنا نتبول تحت زخات المطر فكانت تنتابنا ارتعاشات لذيذة لا توصف. تذكُّرُ لذةِ تلك الارتعاشات الطفولية أحزنني جداً ذلك المساء. ألا تباً لك أيها الزمن الحقير: أصبح مجرد التبول منتهى أملي الآن!
كدت أتبول في ثيابي. أصلاً كنت على وشك أن أفعلها لكن قلبي لم يطاوعني، لأن بنطالي كان هديةً من خطيبتي. كان جديداً وأرتديه لأول مرة. لا. لم أكن لأفعلها حتى لو قضيت نحبي ألماً. قاومت كثيراً على أملِ أن ينتهي ذلك الكابوس.
فوجئت بذلك السجان ذي الوجه الحسن يندفع نحوي مثل وحش ويلكمني على وجهي، يركلني بقدميه، يضربني في كل بقعة من جسمي. لم يفرق بين وجهي وصدري ورأسي
في منتصف الليل، وحين سمعت قرقعة باب زنزانتي، كنت ملتفاً على نفسي مثل أفعوان. كنت منكمشاً ضاغطاً على جسمي لأمنع نفسي من التبول اللاإرادي. هذه المرة كان سجاني مختلفاً عن ذلك السجان الأشبه بزبانية جهنم. كان وجهه جميلاً ولطيفاً، شعره ممشطاً، وثيابه نظيفة وأنيقة. دخل حتى من دون سوط. قلت في نفسي: "هاهو باب الفرج قد انفتح. هذا هو الرجل الذي كان المرحوم والدي يتحدث عنه. إنه لن يخيب رجائي وسيؤتيني سؤلي".
أسرعت بالوقوف وابتسمت في وجهه الجميل. ابتسم هو أيضاً. لا أدري! ربما تراءى لي ذلك. لكن ابتسامة طبيعية كانت تشرق من وجهه. وقبل أن يتفوه بأي كلمة، قلت له بضراعة: "اسمح لي بالتبول. أكاد أموت. رفيقك لم يأذن لي. أنا مريض أعاني ألمَ الكلى. هذه المرة....".
لا أتذكر ما تفوهت به بعد ذلك. فوجئت بذلك السجان ذي الوجه الحسن يندفع نحوي مثل وحشٍ ويلكمني على وجهي، يركلني بقدميه، يضربني في كل بقعة من جسمي. لم يفرق بين وجهي وصدري ورأسي. ترافق ضربُه لي بسبابٍ فاحش لي ولأخواتي وأمي وإلهي. لا أتذكر كم من الوقت طال ذلك العذاب، لكنني أتذكر جيداً أنه حين خرج وودعني، بصق في وجهي قائلاً: "أيها الفأر القذر".
سَرَتْ راحةٌ غريبة في نفسي بعد خروجه. لم تعد بي أي رغبة في التبول. شعرت كأن جبلاً انزاح عن كاهلي. استغربت الأمر! أبعْدَ كلِّ ذلك التعذيب والضرب أشعر بالراحة؟ وحين رفعت يديَّ إليَّ شعرت بهما رطبتين. قلت لنفسي: "لقد غرقت في دمائي إذاً". لكن ذلك لم يكن دمي. كنت قد تبولت على نفسي. في البنطال الذي أهدته لي حبيبتي. كان بولي يملأ أرض الزنزنة الباردة وكأن زقاً من اللبن تمزّق هناك.كان البخار يتصاعد من بولي راسماً في فضاء الزنزانة ذلك الوجه الحسن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...