"أنا أقتل أي أفعى أراها تقترب من بيتي وأسرتي ومزرعتي. خوفي من تعرّض أبنائي للّدغ يدفعني إلى ذلك، فالأولوية هنا لسلامتنا على حساب أي كائن آخر"؛ بهذه الكلمات يتحدث المزارع الأربعيني أبو خالد الخرابشة، من محافظة إربد الأردنية، عن سلوكه حيال الأفاعي في بيئته، مضيفاً أنه لا يعرف كيفية تمييز الأفاعي السامة من غير السامة، لذلك لا يتوانى عن قتل أي منها.
بشكل مشابه، تبرر أم خالد الرشايدة، وهي سيدة أربعينية تسكن مع أبنائها الخمسة في محافظة عجلون، قتل الأفاعي غير السامة، إذ تصفه بأنه تقليد شعبي، وتذكر المثل القائل: "اللي تلدغه الحية بخاف من الدود"، وتضيف في حديثها إلى رصيف22: "لا تهم نوعية الأفعى، المهم ألا تقترب من المنزل والأولاد. نقتلها ونلقي بها بعيداً أو نعطيها للشباب الذين يحبون الاحتفاظ بالأفاعي في أوعية زجاجية أو خشبية للتباهي بها".
من هؤلاء الشبان العشريني صالح القضاة، وهو طالب جامعي من محافظة المفرق، ويرى هو وأصدقاؤه أن البحث عن الأفاعي وجمعها والاحتفاظ بها هواية ممتعة ومفيدة، ويتابع: "بهذه الهواية نخلّص الناس من وجود الأفاعي بالقرب منهم ونخفف عنهم الرعب من قتلها".
أنا أقتل أي أفعى أراها تقترب من بيتي وأسرتي ومزرعتي. خوفي من تعرّض أبنائي للّدغ يدفعني إلى ذلك.
ويبلغ عدد أنواع الأفاعي في الأردن نحو 37 نوعاً، منها سبعة أنواع شديدة السمّية وثلاثة أنواع قليلة السمّية، وأما ما تبقّى فهي غير سامة وهي الأكثر تعرضاً للقتل، وأبرز الأفاعي السامة في الأردن نوع "الخبيث الأسود" الذي ينتشر بكثرة في مناطق الشمال، وذلك حسب كتاب "أطلس الحيّات في الأردن"، للباحث إيهاب عيد.
وبشكل عام، تكثر حالات اللدغ الناتجة عن الأفاعي في فصل الصيف المحبّذ لانتشارها على نطاق أوسع من الفصول الأخرى، لكن خبراء أردنيين يحذرون من ارتفاع أعداد الأفاعي السامة جراء زيادة حالات القتل العشوائي لغير السامة منها، من دون وعي أو إدراك لأهميتها في التنوع الحيوي والاستقرار البيئي، مطالبين بتوفير الحماية لهذه الأفاعي.
خلل في التوازن البيئي
"الوضع مبكٍ"، يوضح خبير الأفاعي الأردني ياسين الصقور، لرصيف22، مشيراً إلى أن الاعتداءات المتكررة على الأفاعي والتباهي بقتل غير السامة منها، فاقت الحدود. "تصلني يومياً صور التقطها مواطنون يسألون فيها عن نوعية الأفعى التي قتلوها، وتتراوح حالات القتل اليومية ما بين 22 إلى 37 حالةً".
ووفقاً للصقور، وهو خمسيني متقاعد من الخدمة العسكرية، تبدأ رحلة الأفاعي غير السامة بعد أن تفيق من نومها ليلاً في جحورها بحثاً عن رزقها، متخفيةً عن أعين الناس خوفاً من أن تُقتل، وهي تساهم في حماية البشر من خطر الأفاعي السامة التي لا تملك جحراً تعيش فيه، فتلجأ إلى المكوث في أي مكان تراه مناسباً لتستريح بعد جولتها الطويلة وراء حاسة شمها القوية، فهي صياد ماهر يحدد فريسته وموعد القبض عليها.
وينبّه المتحدث، وهو من بلدة الكريمة في الأغوار الشمالية، إلى أن القتل الجائر لأي حيوان ضمن السلسلة الغذائية البرية يتسبب في إحداث خلل في التوازن البيئي، مما يؤدي إلى ازدياد أعداد أنواع معيّنة على حساب أخرى، فتبدأ بالتكاثر والانتشار غير الطبيعي، وهذا ما يحصل في الأردن عند قتل الأفاعي غير السامة التي تتغذى على تلك السامة وبعض الحيوانات الأخرى.
سخّرت حياتي مذ كان عمري 15 عاماً للحفاظ على التوازن البيئي والتنوع الحيوي خاصةً في ما يتعلق بالأفاعي التي أرى سلامتها مهنتي وهوايتي. بناءً على طلب من المواطنين، أذهب إلى منازلهم حتى أجمع الأفاعي غير السامة وألقيها في أماكن تُعرف بكثرة الأفاعي السامة والقوارض
أما أكثر الأفاعي غير السامة انتشاراً في الأردن وأكثرها تعرضاً للاعتداء، فهي وفق خبراء أفعى الحنش التي تُلقَّب بملك الثعابين، وهي تمتلك القدرة على افتراس الأفاعي السامة والقوارض الضارة، إلا أن لونها الأسود الفاقع وطولها الذي يصل إلى 3 أمتار يعرضها للقتل الجائر.
ونتيجةً لكل ما سبق، باتت حالات اللدغ من الأفاعي السامة في تزايد ملحوظ في الأردن كما يقول الصقور: "أنقذت 90 مصاباً بلدغة أفعى سامة في الشهور الخمسة الأولى من هذا العام، بتوفير الترياق المناسب لهم، وتعاملت مع قرابة مئتي حالة العام الماضي".
ويوضح الصقور أن 75% من حالات اللدغ الحاصلة في الأردن، تحدث جراء الاستهتار والجهل في التعامل مع الأفاعي السامة، وغالباً ما تكون اللدغات التحذيرية للأفعى غير كاملة التفريغ للسم، وهنا يُعدّ الترياق المتوفر لدى وزارة الصحة مناسباً جداً، لكن في حالات التفريغ الكامل يُفضَّل استخدام الترياق الصيني نظراً لفاعليته القوية، وفق رأيه.
مبادرات فردية
"سخّرت حياتي مذ كان عمري 15 عاماً للحفاظ على التوازن البيئي والتنوع الحيوي خاصةً في ما يتعلق بالأفاعي التي أرى سلامتها مهنتي وهوايتي"، يقول الصقور، ويتابع: "بناءً على طلب من المواطنين، أذهب إلى منازلهم حتى أجمع الأفاعي غير السامة وألقيها في أماكن تُعرف بكثرة الأفاعي السامة والقوارض، خاصةً في مناطق الأغوار".
التقليد السلبي الحالي والصورة النمطية السائدة في المخيلة العربية عن الأفاعي صنّفاها شراً لا يُقبل وجوده.
ويشير إلى أنه قبل عامين أسس مجموعةً أطلق عليها اسم "عشاق أفاعي وادي الأردن"، ودرّب أعضاءها على أساليب القبض على الأفاعي السامة، وكيفية التعامل مع البلاغات من المواطنين والتعاون مع الأمن العام والمستشفيات، ويعمل أعضاء المجموعة على توزيع الترياق المناسب في أقاليم الدولة الثلاثة (شمال/ وسط/ جنوب)، لسرعة التعامل مع حالات اللدغ، ويضيف الصقور مفاخراً: "من أعضاء المجموعة أبنائي التسعة الذين ورثوا عني حب الأفاعي ومهمة الحفاظ عليها، لضمان التنوع الحيوي وحماية الناس".
ويطالب الصقور من جميع الجهات المعنية أن تنفّذ مبادرات توعويةً وتثقيفيةً للمجتمع المحلي عن أهمية وجود الأفاعي غير السامة وكيفية التعامل مع السامة منها، "حتى لا نسمع عن إصابات أو حالات وفاة أكثر من الحاصل في الوقت الحالي".
دعوات للحماية وتكثيف المبادرات
يستهجن الخبير والباحث البيئي الدكتور أحمد شريدة، غياب دور الجهات الحكومية في التوعية المجتمعية بأساليب التعامل مع الأفاعي، للحد من القتل الجائر للأنواع غير السامة والتي تبلغ نسبتها في الأردن 90%، محذراً من تعاظم المشكلة لتصل إلى حد الخطر على حياة الإنسان.
ويذكر الشريدة، أن التقليد السلبي الحالي والصورة النمطية السائدة في المخيلة العربية عن الأفاعي صنّفاها شراً لا يُقبل وجوده، بعد تناسي المثل الشعبي القديم القائل: "عند العقرب لا تقرب، وعند الحية أفرش ونام"، وهو ما يدل على القيمة الكبيرة لها.
كما يدعو الشريدة، إلى ضرورة نشر ثقافة التعامل السليم مع الأفاعي غير السامة، لما لها من أهمية كبيرة في الاستقرار الحيوي والقضاء على الآفات المدمرة للبيئة، مثل فأر الحقل المخرّب للمزارع والحقول، من ثم حماية البشر.
القتل الجائر لأي حيوان ضمن السلسلة الغذائية البرية يتسبب في إحداث خلل في التوازن البيئي، مما يؤدي إلى ازدياد أعداد أنواع معيّنة على حساب أخرى، فتبدأ بالتكاثر والانتشار غير الطبيعي، وهذا ما يحصل في الأردن عند قتل الأفاعي غير السامة التي تتغذى على تلك السامة
من جانبه، يقول إيهاب عيد، وهو مؤلف "أطلس الحيّات في الأردن"، إن هذه المجموعة الحيوانية تتعرض لتهديدات عدة من تدمير للموائل والقتل والزحف العمراني وغيرها، والتي تُعزى بشكل رئيسي إلى الصراع التاريخي بينها وبين البشر، وما تكوّن من ثقافة سلبية تناقلتها الأجيال تجاه الحيّات، مما تسبب في ضعف فهمنا لهذه المجموعة والرغبة في قتلها أينما وُجدت، والبحث عنها بهدف التخلص منها، وقد يكون أكبر الدلائل عن النظرة السلبية نحو هذه الحيوانات، هو ما تناقلته الأمثال وبيوت الشعر والحكم، التي في معظمها جاءت سلبيةً تصف كل ما هو لئيم وحقود في الحيّة.
وأشار عيد إلى أن المبادرات الفردية لبعض الناشطين، سواء في حماية الأفاعي أو في توفير الترياق من الدول المجاورة وتزويد المراكز الصحية به، هي مبادرات غاية في الأهمية، وقد ساهمت في إنقاذ العديد من الأرواح، إلا أنها تستلزم أن تكون تحت إدارة ومسؤولية الجهات الحكومية ذات الصلة، وهي التي يتوجب أن تهتم بهذه الجوانب لحماية الناس والبيئة في آن معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...