شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كانوا على وشك الهزيمة إلى أن سمعوا صوت امرأة... علياء الكعبي

كانوا على وشك الهزيمة إلى أن سمعوا صوت امرأة... علياء الكعبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء

الجمعة 18 نوفمبر 202205:24 م

في مشهد درامي تدخل امرأة إلى مجلس رجالي يضج بالأقوال والأحاديث المتضاربة عن قرار مصيري يتعلق بحياة الكثيرين، فترفع برقعها (البوشيّة)، شاهرةً سيفها، لتدعو قومَها وتحسم القرار، فيأتي النصر في غضون ساعات.

هكذا خلد التاريخ اسم علياء بنت سلمان الكعبي، الحاكم المحلي لعرب الأهواز في القرن 18 الميلادي، وذلك أثناء المعركة التي خاضها الأهوازيون ضدّ عدوان الجيش البريطاني والعثماني آنذاك.

نصر تحسمه امرأة لقومها، فتبقى حاضرة في ذاكرتهم، إذ ينقل التاريخ الشفوي حكايتها النضالية جيلاً بعد جيل، كي لا يخلو تاريخ الأهواز في جنوب غربي إيران دون حضور سيدات صنعن الوطنَ بقراراتهن وأفعالهن.

شهدت الدولة الكعبية في الأهواز (1888-1684)، في فترة منتصف القرن الثامن عشر، ظهور واحد من أبرز حكامها، الشيخ سلمان بن سلطان الكعبي، الذي قاد قومه 33 عاماً حتى بات واحداً من أهمّ الحكام وأشجعهم على الضفة الشمالية من الخليج.

إذ أمام مدفعية البريطانيين وفوج المشاة وأسلحتهم الفتاكة على أبواب سور الدّورق، تبددت أحلام سلمان وشعبه، فأضحت مسافتهم بين الهزيمة ضئيلةً، إلى أن جاءهم النصر بصوت امرأة

وفي مصيره نحو اعتلاء الدولة الكعبية الواقعة في إقليم الأهواز ومركزها مدينة الدّوْرق أو الفلاحية، أو شادِكان كما تسمى اليوم في إيران، تمكن سلمان من إعمار الأراضي الزراعية وتنمية التجارة الدولية وإنشاء أسطوله البحري، وفرْض الضرائب على السفن الهندية والإماراتية والعمانية والبحرينية والسعودية والقطرية والكويتية، التي تدخل شطّ العرب، فلم تُخف الممالكُ العظمى المجاورة تخوفَها من سطوة الأهوازيين على المياه الدولية.

ثمة معارك خاضها الشيخ سلمان مع الدولة العثمانية والإيرانية وشركة الهند الشرقية البريطانية. يحدثنا التاريخ عن وقوع نحو 6 معارك من هذا القبيل، قد حسمها سلمان لصالح قومه أمام عدوان والي بغداد والبريطانيين وشاه إيران آنذاك كَريم خان زَند.

معركة أبو طوق

المعركة التي بقيت عالقة في أذهان الأهوازيين، هي التي كانت أكثر تراجيديا ودراما، إذ أمام مدفعية البريطانيين وفوج المشاة وأسلحتهم الفتاكة على أبواب سور الدّورق، تبددت أحلام سلمان وشعبه، فأضحت مسافتهم بين الهزيمة ضئيلةً، إلى أن جاءهم النصر بصوت امرأة.

يشرح المؤرخ الأهوازي علوان بن عبدالله الشويكي في كتاب "تاريخ بني كعب"، تلك المعركة باللهجة المحكية بعد نحو قرنين على وقوعها؛ بعد استيلاء الدولة الكعبية على الخليج، أتى البريطانيون بفوج مجهز يترأسهم مستر زبيد ومحمود كخية. وأغلب الظن أن الأخير هو واحد من قادة الجيش العثماني إذ كان والي بغداد مناصراً لجيش الشركة الهندية الشرقية في حربها ضد الأهوازيين، حسب قول الباحث عبد النبي القيّم.

وصل الجيش بعدته وعتاده عبر السفن من مياه الخليج حتى خور الدورق -الخور هو مصبُّ الماء في البحر-، وقد انهزم الأهوازيون على ضفاف النهر حتى عادوا إلى كوت الفلاحية. بدأ البريطانيون بالتخييم من حول سور المدينة، وصنعوا لهم مرتفعاً كي يضعوا المدافع فوقه.

بعد أن سيطر مستر زبيد على المنطقة، أمر بالقصف، فأطلقت المدفعيات نيرانها على من داخل السور من رجال ونساء وأطفال. ومما عقد أو أخّر عملية الدفاع عن النفس، أن من كانوا متواجدين تحت النيران لا يملكون أسلحة كتلك التي بأيدي المعتدين.

كان ما زال الشيخ سلمان وكبار القوم في المجلس يخططون لكيفية التصدي للعدوان، وتتسارع الأقوال، ويشتد النقاش مع تسارع طلقات المدفعية البريطانية حين جاءهم نداء علياء. كان يعرف الشيخ سلمان جيداً أن المعركة ليست متساوية من حيث العتاد والذخيرة، فيذكر كتاب "تاريخ بني كعب"، أن الأب ألقى اللوم على ابنته: "قام إليها أبوها الشيخ سلمان وقال ما صنعتِ؟ هل تريدين أن تهلكي قومي؟".

ربما يصح القول إن اعتبرنا علياء، القائدةَ الروحية لمعركة "أبو طوق"، حيث لم تترك ساحة القتال، ولم تعد إلى دارها إلا بعد تقسيم غنائم العدو

وينقل المؤرخ علوان الشويكي أن في تلك الأثناء دخلت علياء أو عَلية كما تُدعى في اللهجة المحكية، "رافعةً برقعها، متقلّدة سيفاً. فلمّا وصلت إليهم جذبت سيفاً من جفنه،  ودعت قومها فانتدبوا لها".

فتوهجت العزيمة برؤوس القوم، فإذا بها هبّة وطنية لم تهدأ سوى بهزيمة البريطانيين. وخلال المعركة حين مانع سلمانُ المقاتلين ودعاهم إلى التراجع مقابل الأسلحة الفتاكة في يد البريطانيين كي لا يفقدهم أمام أسلحة العدو، جاؤوا بالحبال، وحولوا عمائمهم وكوفياتهم إلى سُلّم ينحدرون منه شيئاً فشيئاً إلى خارج السور.

أرغم الأمر الواقع حاكمَ الأهواز على التخلي عن قراره الأول، خاصةً وأن الأنباء كانت تفيد بأن القوم قد أصيبوا بجروح جراء الانحدار من السور، إذ كان سوراً عظيماً يصعب العبور منه.

فُتحت البوابات وهاجم مئات الرجال المستشاطين غضباً لندعوة بنت الشيخ، موقعَ البريطانيين، وبدأ القتال الشديد بين الجانبين، حتى نجح الأهالي في الاستيلاء على تل المدفعية، ثم مخيم العدو. وهرب مستر زبيد ومحمود كخية بعربتهم بعد إعلان الانسحاب لأنصارهم.

لم ينته دور علياء هنا، بل بقيت تساند المحاربين بحضورها وأقوالها؛ "کانت علیة بنت الشیخ سلمان مع قومها متحزّمة بخمارها، شاهرة سیفها، وتندب قومها علی القتال"، حسب ما يذكر علوان الشويكي.

بعد دحر العدو، استمرت مطاردة قادة الغزاة حتى استولى  السكان على العربة، وقتلوا من فيها. وهنا يحدثنا التاريخ عن دور آخر لعلياء الكعبي في هذه المعركة التي كادت أن تنتهي بهزيمتهم لو لا مناشدتها البطولية.

كان مستر زبيد البريطاني، يرتدي طوقاً من الذهب المرصّع، وبعد مقتله حدثت مشادة كلامية واختلاف بين محاربَين اثنين على الغنيمة الحربية، فرأت علياء  ذلك واتخذت حلاً للأمر.

قالت لهم اصبروا! أنا أفصل بينكم، ولا تتشاجرا. فنزعت قردانة مرصّعة ثمينة كانت ترتديها، ووضعت القردانة على الأرض بناحية وطوق مستر زبيد بناحية، ثم رموا عيدانهم، فكلّ من وقع عوده علی جانبٍ، أخذه، ورجعوا مسرورین"، وفق كتاب تاريخ بني كعب.

لحقت الهزيمة بممثلية شركة الهند الشرقية في البصرة، بين 22 قتيلاً و50 جريحاٌ، كما حصد الأهوازيون غنائم كالمدفعية والسفن و18 صندوقاً لذخيرة الأسلحة وأموال كثيرة حسبما ينقل الباحث عبد النبي القيّم.

ربما يصح القول إن اعتبرنا علياء، القائدةَ الروحية لمعركة "أبو طوق" كما اشتهرت في ما بعد، حيث لم تترك ساحة القتال، ولم تعد إلى دارها إلا بعد تقسيم غنائم العدو.

علياء في ذاكرة الأهوازيين

لم ينس الأهالي ذلك الدور البطولي الذي شجع وضخ روح النصر في نفوس المحاربين، فيصفها الشاعر الشعبي ملا فاضل السكراني في قصيدته "أحبك يا فلاحيّتي" باللغة الدارجة: "أحب ثوّارچ الثارو وأحبها الهلهلت لفعال ثوّارچ" (أحبّ ثوّارَك الذين ثاروا، وأحب تلك التي أطلقت الزغاريد لبسالاتهم).

أما أستاذ جامعة طهران، الأديب عباس العباسي الطائي، فيشرح تفاصيل جميع ما ورد عن علياء في قصيدة تحت عنوان "علياء البطلة الأهوازية".

كما تتفاخر النساء الأهوازيات بعلياء ويعتبرن حكمتها وحنكتها في أداء ذلك الدور المهم، كحدث مشرف وعلامة فارغة، ومثالاً على نضال المرأة في هذه المنطقة في إنقاذ الوطن من الضياع والنسيان.    

تبقى هذه الحكاية التي ترصد لنا دوراً نسائياً بارزاً في حسم معركة كانت على حافة الهزيمة، مشهداً مليئاً من الحبكة الدرامية العربية يستحق تخليداً سينمائياً، كي تبقى شاهداً عن ما حدث في منتصف القرن 18 في الضفة الشمالية من الخليج.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard