شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
صمّم مباني في إيران وبغداد ونيويورك... سليل القاجار والشيخ خزعل، نظام عامري

صمّم مباني في إيران وبغداد ونيويورك... سليل القاجار والشيخ خزعل، نظام عامري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 11 أكتوبر 202205:50 م

لا يخلو مقهى وغاليري "شُنُف دِيدَار جاي" في قلب العاصمة طهران من الشباب. هو عبارة عن عمارة صغيرة على طراز غربي يجتمع في غرفها المتداخلة كثير من الطلاب وهواة الفن لينالوا شيئاً من القراءة والدردشة حول مستقبلهم والأكلات الغربية النباتية وغيرها.

ووسط هدوء يمنح الحاضرين فرصة التعرف على الفن التشكيلي والصور المعلقة هناك، قلّ من يعرف أن من قام بتصميم هذا المقهى المرح قبل 5 عقود، هو نظام عامري، الإيراني الوحيد ولربما العربي الوحيد الذي تعلم الهندسة المعمارية في مدرسة فرانك لويت رايت.

اسمه الكامل، نظام الدين الكعبي العامري، ولد عام 1926، أي بعد عام على الإطاحة بحكم والده الشيخ خزعل في الأهواز، والتي كانت ضمن الحكم الذاتي للإمارات التي كان يطلق عليها "الممالك المحروسة" في إيران، وقد دامت الإمارة العربية هناك 500 عام، وأطيح بها على أيدي الملك رضا شاه بعدما أسس الدولة الملكية الشاهنشاهية.

أما والدته فهي بتول فخر السلطنة، ابنة حسين قُلي خان نظام السلطنة، رئيس الوزراء في أواخر عهد القاجاريين، إحدى زوجات الشيخ خزعل، كما كان نظام الدين واخته التوأم نور الهدى، من آخر أبناء الشيخ الذين بلغ عددهم 15 ابناً و15 بنتاً.

من دراسة الفن إلى الهندسة المعمارية

بعد مقتل خزعل بأمر من رضاه شاه عام 1936، وذلك في محل إقامته الجبرية في منزل زوجته بتول في العاصمة طهران، تربى نظام الدين بكنف أمه في ظل حياة مليئة بمحطات متقلبة ومتعددة، حتى قررت الأسرة عام 1945 إيفاده إلى بريطانيا للدراسة هناك.

هو الإيراني الوحيد ولربما العربي الوحيد الذي تعلم الهندسة المعمارية في مدرسة فرانك لويت رايت... نظام الدين الكعبي العامري

مكث نظامُ لسنوات في لندن ليأخذ شهادة الدبلوم، ثم شدّ الرحال نحو الولايات المتحدة لدراسة الفن في جامعة كنت (kent) بولاية أوهايو، وأثناء دراسة مادة الإنسانية (Humanity)، شعر أنه يهوى شيئاً غير ذلك، "انتبهتُ إلى أن الهندسة المعمارية هي أم الفنون، فقررت أن أغير الفرع الدراسي"، هكذا يصف نظام الدين قراره، هو الذي بات يشتهر بـ"نظام عامري".

شَغف الالتحاق بركب المهندس فرانك لوید رایت (Frank Lloyd Wright)، الذي يُعتبر أشهر المعماريين في تاريخ أمريكا حتى اليوم، والذي تَعرّف نظام إليه عبر قراءة كتبه في مكتبة الجامعة، جعلتْه يكمل دراسته الأكاديمية في الهندسة المعمارية عاماً قبل موعدها المحدد، وبعد نيل الإجازة الأكاديمية في هذا الفرع، ذهب نحو رايت.

"أنا أؤمن بالتقوى المهنية ودرستُ علمها وأفكر طوال حياتي أن الإنسان المهني هو الذي يملك تقوى مهنية"

لم يكن الانضمام إلى مجموعة طلاب المعماري الأرقى في الولايات المتحدة وصاحب ألف تصميم معماري في القرن الـ20، بالأمر السهل، وفي اليوم المحدد الذي كان يجري الرجل الثمانيني مقابلاتٍ مع مئات الطلاب، كي يقبل ثلاثة منهم فقط، انتظر نظام نحو نصف يوم كي تتسنى له الفرصة بلقاء ملهمه الأول في فن العمارة.

ثم وحتى إن نجح في المقابلة، فكيف له أن يدّبر التكاليف الباهظة للالتحاق بمدرسة رايت، وهو شاب غريب لا يملك ما يكفيه من دفع الأجور؟

بعد جلسة مقابلة طويلة، اقتنع رائد العمارة بقبول نظام طالباً برغم عدم قدرته في تسديد الأجور.

"أنا الطالب الإيراني الوحيد لدى رايت، وقد تعلمت أعمال البناء والهياكل والمرافق في مدرسته، ذلك أن رايت كان يعتقد أن المعماري يجب أن يشرف على جميع مفاصل البنايات"، هكذا يوضح نظام العامري عن تلك الفترة.

متحف غاغينهايم وبرج برايس تاور

سرعان ما أظهر الشاب الأهوازي عبقريته كي يثبت جدارته واستحقاقه في هذه المنحة الكريمة، وبعد عامين من الدراسة لدى رايت، أصبح التلميذ المساند للأستاذ في تصاميمه، ومن بين مساهماته، كان حضوره الفاعل في تصميم برج برایس تاور (price tower) في ولاية أوكلاهوما، وهي ناطحة السحاب الوحيدة التي صممها رايت.


أما متحف سولومون غاغينهايم في مانهاتن بمدينة نيويورك، والذي يُعتبر واحداً من معالم القرن العشرين المعمارية الأكثر أهمية، فشارك نظام بتصميم المتحف، وهو بمثابة المقر الدائم لمجموعة مشهورة من الأعمال الانطباعية الحديثة ومرحلة الفن الحديث، والفن المعاصر.

وبعد مضي سنوات من الدراسة والتجربة والتصميم والبناء في الولايات المتحدة، قرر نظام العودة إلى إيران، فسلمه المعماري الأمريكي الكبير تمثیلَ مؤسسة رايت للتصميم في الشرق الأوسط، وإثر ذلك قام بتصميم الكثير من المباني في إيران، كما أنشأ مكتبه الخاص للهندسة المعمارية برفقة زملائه الإيرانيين.

90 تصميماً معمارياً في إيران

ينسب موقع موسوعة العمارة الإيرانية المعاصرة، تصميم نحو 90 مشروعاً للمهندس نظام وشركته، من بينها أعمال بارزة ما زالت خالدة في عموم أنحاء إيران، كمستشفى بارس، ومستشفى بَهمَن، وسوق "گُلشَن"، وقصر "مُرواريد" الملكي، وحديقة المدينة، ودار بَهمَن للسينما، ومكتبة في طهران، بالإضافة إلى مبنى جامعة إصفهان، وجامعة شيراز، ومكتبة شيراز، وفندق "الخيام" في مشهد، ومبنى محكمة مدينة رَشْت الواقعة شمالي إيران، ومحكمة كِرمانشاه غربي البلاد.

"قصر مُرواريد هو التحفة الفنية في مجموعة أعمال نظام عامري، يضمّ التقلبات والانعطافات المختلفة في البناء والتنوع في التصاميم الداخلية"، يقول الأكاديمي في مجال الهندسة سِيروس بَاور، ويضيف أن نظام كان ضمن أوائل الإيرانيين الذين درسوا الهندسة المعمارية خارج البلاد، وأنه يتبع مدرسة العمارة العضوية في تصاميمه.

ومن أعماله التي تصارع الزمن لتبرز جمالها في شوارع طهران، متحف النقود الإيراني، فكان يريد المهندس نظام أن يبني متجراً (Super Market) ومطعماً في شارع ميرداماد الشهير في طهران، ليواكب الحداثة مع بصمة من تراث البلاد، بيد أن الثورة الإسلامية حولت المبنى إلى متحف النقود.

وكان تصميمه لمبنى كلية "دَماوَند" للبنات في شمال طهران، وهي البناية التي تستلهم هيكلها من التراث الإيراني وتمزجه بالفن المعماري الحديث، تصميماً فريداً ما زال حاضراً يذكر الأكاديميين والناظرين عموماً بعمق براعة هذا الرجل الذي كرس حياته في سبيل فن العمارة.

في بغداد والأهواز ولندن

حل نظام على بغداد مهندساً معمارياً أيضاً، وكان ذلك بطلب من أستاذه رايت، ليباشر في تصميم ما طلب الملك فيصل، فأنشأ مباني بيت الأوبرا هناك، وشركة البريد، ومتحف بغداد وغيرها، ولكن الثورة وإعلان تأسيس الجمهورية في العراق حالت دون إكمال المشاريع عام 1958.

ينسب موقع موسوعة العمارة الإيرانية المعاصرة، تصميم نحو 90 مشروعاً للمهندس نظام وشركته، من بينها أعمال بارزة ما زالت خالدة في عموم إيران

أما في الأهواز والمدن الأخرى التي شهدت الحكم الذاتي للعرب على يد والده خزعل وعمّه مزعل وجده جابر وغيرهم، فلم ينس نظام الدين الكعبي العامري حصة أسلافه مما تعلمه، وبات هناك نجماً بارعاً يشار له بالبنان، فبرغم أنه لم يعش هناك إلا أنه صمم فندق الأهواز ومركز الأهواز الصحي، وموقع الحجر الصحي في عبادان، وقصر في مدينة الشوش، وموقع شركة غاز الأهواز، ومصنع بيبسي (Coca Cola) في الأهواز، بالإضافة إلى مجمّع سياحي في جزيرة صلبوخ (أو مينو) وهذا الأخير لم ير النور، وكل ذلك جاء بطلب من الدولة ضمن باقي الأعمال التي قام بها في عموم البلاد.

في عام 1978، أي قبل عام من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، عاد نظام إلى لندن برفقة زوجته البريطانية وولديه الاثنين، ولم يتوقف عن العمل هناك، بل بات يصمم للبريطانيين هذه المرة، ومن أعماله التي وصفتها مجلة Art Review بـ"جوهرة معمارية"، هو غاليري تشيلسي للفن (Chelsea art galleries).

وبعد عمل دؤوب في أمريكا وإيران والعراق وبريطانيا، رحل نظام في لندن عام 2016 عن عمر ناهز 90 عاماً، وقد رثته كلٌّ من جامعة طهران ووصفته بـ"المهندس المعماري المثقف"، ورابطة المهندسين المعماريين الإيرانيين، كما أقام له بعض أساتذة وطلاب الهندسة المعمارية، حفلاً تأبينياً وتعريفياً بحياته المهنية في العاصمة طهران.

"أنا أؤمن بالتقوى المهنية ودرست علمَها وأفكر طوال حياتي أن الإنسان المهني هو الذي يملك تقوى مهنية، وهو كان كذلك"؛ وصفٌ أدلى به المعمار الإيراني البارز جهانگير درويش، عن شخصية نظام عامري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image