أخذتني البهجة. جهّزت نفسي، تأمّلت خزانتي، تهيّأت وتهيّبت للقاء قلمٍ رافقني كمقرّر في سنتي الأولى من دراستي الأدب العربي في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم كجليسٍ في الأنام كما يُقال. ثمَّ كمقرَّر في سنتي الأخيرة أيضاً. حضرتُ قبل نصف ساعة. حجزت مقعدي في الصف الأوّل، وحظيت بقرب الصوت وحقيقة الوجود، وحضَرَتْ.
حضرَت الكاتبة اللبنانية هدى بركات إلى الجامعة الأمريكية في بيروت مساء الخميس للقاءٍ خاص مع طلّاب مادّة العربية 201، المادّة الواجبة على كل طلاب الجامعة كلازمة تخرّج.
قالت في لقائها إنّ الكتابة لعبة مرايا وعلمتُ فعلًا أنّني وقفت أمام مرآةٍ لحظةَ وقوفي أمامها. وقفتُ بكلّ ما فيَّ من شظايا هويّات، كعربيّة ونسويّة، كحلبيّة وبيروتيّة، كطالبة وباحثة، كنصف ناشطة ونصف لاجئة. ورأيت كل شظيّة تبرق بتفرّدها، دون إخمادها لأخرى. قد سطّرت هدى بركات جراحَنا متعدّدة الأوجه في روايات يمكن قراءتها بأية عيونٍ رَبَت فينا.
وقفتُ بكلّ ما فيَّ من شظايا هويّات، كعربيّة ونسويّة، كحلبيّة وبيروتيّة، كطالبة وباحثة، كنصف ناشطة ونصف لاجئة، ورأيت كل شظيّة تبرق بتفرّدها، دون إخمادها لأخرى
فالعين التي تقرأ في هدى بركات هي عين التجربة المعيشة، عين الإنسان القرين لشخصيات الرواية، أكثر منها عين القارئ/ة المثقّف/ة التي قد تقف على الكثير من الأعمال الروائية الأخرى. لكن ماذا يعني أن يقدَّم جرحك إليك بعيون خارجية؟ أو لنكن أكثر دقة، ماذا يعني أن يقدَّم جرحك إليك بعيون غريبةٍ عنك؟ إلّا أنّ الغرابة في الحقيقة ليست في الذات التي دوّنت جراحنا؛ الغرابة في أُلفة جراحنا بعضها ببعض، وكأنّنا وجهٌ واحد بجراح متناثرة.
أخذتني اللهفة حتى طرحتُ سؤالاً غير ذي كلفة، وكأنني أسأل أساتذتي في الجامعة. ندمتُ فورَ تلفُّظي بصراحة. أحسست أنّي أضعت فرصتي بسؤالي الأدبيّ النظريّ عن مذهب بعض الكتّاب في البحث والتقصّي، عن شكل النّفوس والمدن قبل السرد والنّشر، حتى قاطعتني الأديبة، واستفاضت في تبيان الفرق بين الواقع والوقائع. وشرحت لنا مذاهب الكُتّاب واهتماماتهم واهتماماتها. بيّنت لنا قوّة الواقع، ووضّحت لنا قوّةَ سردِه وإمكانيّة عصفِهِ بذات القارئ ودوره في إيقاد الوعي. ثمَّ شرحت لنا عن الوقائع وكيف لها أن تُؤطِّر التجربة وتسردها سرداً مشتِّتاً عن تجربة الذات.
"ما بفكّر إنّي امرأة عربية بتكتب، مش هيدي حدودي"
وتعلّمت أنّنا بالأدب بتنا نكتب التاريخ، وكأنّنا بالأدب نصيغ نسخة خاصة من التاريخ، نسخةً تُنصف الإنسان بإدراكه وإدراك تجربته على الأقل. فالوعي الذي يجب أن نرسم إليه، وعيٌ لا يقتصر على التدوين العلمي. فبإدراكنا النفس الإنسانية استدركنا من مرارة التجارب الأخيرة أنّ الوعي الذي لا يستوعب النفس وتقلّباتها، وعيٌ لا يُعوَّل عليه.
وفي حين يقول المثل الشائع إنّك لا تستطيع أن تعبر النهر ذاته مرّتين، أخذتني هدى بركات إلى أنهارٍ كثيرة كنتُ عبرتُها من قبل، غير مرّة. فقد قرأت النّصوص، لا سيما "بريد الليل"، بعيون سوريّة مُهجّرة، بعيون من ركبوا البحر من عائلتي، ومَن مَشَوا الغابات من أصدقائي. قرأتُ فيها بردَ الجدران، وسمعتُ فيها صدى البيوت المهجورة ومساكن الكامبات. شممتُ في السطور رائحة البارود وبرد السرير الفارغ. قرأت النصوص بوحشتي، بوحشة شظايا الهويّات المتعاركة فيَّ. غربتي وجدت أُلّافها، ووحشتي تلفّني وألتفّ على نفسي، ونلتفُّ حول هدى بركات. وتألف غرباتنا بعضها ببعض، حتى بتنا، كلّ من في القاعة، أكتافاً باردة تتّكئ على صفحاتٍ وبضعِ جملٍ علّها تهتدي كلّ نفسٍ لضالّتها.
أخذتني هدى بركات إلى أنهارٍ كثيرة كنت عبرتها من قبل غير مرّة. فقد قرأت النّصوص، لا سيما "بريد الليل"، بعيون سوريّة مُهجّرة، بعيون من ركبوا البحر من عائلتي، ومَن مَشَوا الغابات من أصدقائي
وسألناها عن صوت المرأة فينا وفيها. أجابتنا ببساطة: "ما بفكّر انّي امرأة عربية بتكتب، مش هيدي حدودي". وفعلًا، فمهما عزّت القضية، كالنسويّة مثلاً، قد تكون حدّاً ضيِّقاً إذا سمحنا لها رسم عوالمنا أو الاستحواذ على هويّاتنا.
ما تفعله هدى بركات هو أنّها تشكّل قضاياها وحدودها بنفسها، خارج القوالب الجاهزة، أكانت قوالب أيديولوجيّةً أو جغرافيّة أو حتى لغويّة. ففي عملٍ كـ"بريد الليل"، خرجت هدى بركات عن الزمان والمكان، خرجت عمّا سمّاه حسني زينة "جغرافيا الوهم". خرجت عن سرديّة الوسط وكتبت بصوت الهامش. أدبُ هدى بركات يُعنى بالإنسان وحده. هو أدب تحريريّ أكثر منه تحرّريّ. أدب هدى بركات تمكينيّ للإنسان وللغة التي وُصمَت بالعجز والعنف والترهيب. فبالنسبة لها، كما للكاتب أن يبني عوالمه بحيويّة وحريّة مطلقة خارج إيّ إطار قد ينتقص من أثره، لا بد للغة الكتابة أن تكون أيضاً بهذه الديناميّة وهذه الحركيّة لتلازم الأدب في مشواره في اللامحدود ومؤانسته في الخروج عن المألوف.
لطالما شعرت بلحظات ألمي، بأنّ أنيني أبعد منّي، بأنّ صوتي قابعٌ في قاع ما في صدري. لكنني كنت قريبة من صوتي في قربي من هدى بركات، وكأنّها تدلّنا على آثارنا وتُعرّفنا على وجوهنا الأخرى.
أدب هدى بركات الكتابيّ والحواريّ يعتق الأصواتَ الحبيسة في صدورنا، والمهمّشة في مدننا، والمنفية في ملاجئنا. الأهمّ برأيي أنّ ذاك اللقاء كسر الحواجز التي كبرت عليها، كسر التنظيم الذي يحول بيني وبين الفكرة غير المشوبة بالنقل والتأويل. ذاك اللقاء نسفَ الرّهبة التي لعقود قصمَت وعيَنا وكمّت عقولنا. ذاك اللقاء رفعنا لنظيرنا الأعلى وجمعنا به. ولأنّ كلّ غريب للغريب نسيب، فقد جمعتنا غرباتنا بهدى بركات حتى جمعت الأديبةُ غرباتِنا، وجرّدتها أمامنا أو جرّدتنا أمام ذواتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...