شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كيف أكتب عن علاقتي المركّبة بأمّي من دون أن أظهر كابنة سيئة؟

كيف أكتب عن علاقتي المركّبة بأمّي من دون أن أظهر كابنة سيئة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 21 أبريل 202204:05 م

طلبت مني المعالِجة النفسية أن أكتب رسالةً إلى أمّي التي غلبها المرض، وفارقت الحياة في الصيف الماضي، فسرد المشاعر والذكريات والغوص في أحداث تركت أثراً على الحالة النفسية، هو من ضمن تقنيات العلاج النفسي المستخدَمة في حالات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).

إلّا أن الموضوع ليس بهذه السهولة... فالسرد ليس للمشاعر الجميلة والأحداث السعيدة فحسب، وذلك لأن الغوص في الذكريات يجب أن يكون عميقاً، ليشمل الجميل والقبيح.

كيف أكتب عن علاقتي المركّبة بأمّي من دون أن أظهر كابنة سيئة، غير مقدّرة لمشاعر العائلة، وغير آبهة بحرمة الموت؟!

بعد وفاتها بمدة، لاحظت أنني بدأت أشبهها أكثر، حتى في طريقة تقطيعي البصل، وفي تصرفاتي مع الناس، إلى درجة انني بدأت أراها عندما أنظر في المرآة، لذا أدركت أنني بحاجة إلى أن أكتب مشاعري كي أسيطر عليها قبل أن تتغلّب عليّ.

أذكر أنه عندما بدأ وزنها بالازدياد، لم نعِر الموضوع أي اهتمامٍ ولم نتفهم ما كانت تمرّ به من حالات نفسية معقّدة، بل نظرنا إليها بعين الشفقة، ومع الوقت أصبحنا نلومها على نهمها

لا أعلم لماذا بدأت أتذكر الضغط النفسي والاكتئاب والغضب الذي عاشته والدتي بغياب الدعم الحقيقي من العائلة الكبرى، مما أدّى إلى إفراطها في تناول الطعام، خاصةً السكّريات والدهون التي من المعروف أنها تداعب نظام المكافأة والمتعة.

أذكر أنه عندما بدأ وزنها بالازدياد، لم نعِر الموضوع أي اهتمامٍ ولم نتفهم ما كانت تمرّ به من حالات نفسية معقّدة، بل نظرنا إليها بعين الشفقة، ومع الوقت أصبحنا نلومها على نهمها.

كانت أمي مدرّسة لغة عربية، ينقسم وقتها ما بين المدرسة والبيت. أما شغل المنزل والطبخ والاهتمام بنا، فتقوم به وحدها من دون أي مساعدة من والدي الذي كان يغيب لأيام وينام خارج المنزل بحكم شغله.

تكمن الصلة الأساسية بين اضطرابات ما بعد الصدمة واضطرابات الأكل، في صعوبة تنظيم العواطف.

بالإضافة إلى منزلها وعائلتها، كان عليها الاهتمام بتلاميذها وتحضير الدروس والمسابقات.

اليوم بدأت أدرك حجم المسؤولية التي كانت تتحملها والوزر الثقيل الذي أتعبها جسدياً ونفسياً، بالإضافة إلى ابتعاد والدي وعدم تقديمه أي دعم معنوي أو نفسي لها. هذا كله أدّى إلى لجوئها إلى الطعام كتعويض عن الشعور بالسعادة.

كثير من المصابين بالاكتئاب يفقدون الطاقة والاهتمام بكل ما حولهم. ويمكن أن يشمل ذلك فقدان الاهتمام بالأكل. أمّا والدتي، فركّزت في اكتئابها على الطعام الذي كان لها ملجأً خلال سنوات من التضحية والتعب النفسي والجسدي.

اكتشفت أنني أنا أيضاً أبدأ بتناول الطعام لتجنب التفكير في كل ما يحزنني، خاصةً بعد وفاة والدتي، إذ ازدادت رغبتي في الأكل بشكل كبير حتى لو لم أكن جائعةً، فالمعروف أن الأكل العاطفي يكون استجابةً للجوع العاطفي، إذ ينتج عنه شعور بالامتلاء ويحسّن المزاج من خلال ارتباط الطعام الإيجابي مع الأوقات السعيدة.

ومنذ أن قررت أن أكتب عن علاقتي المعقّدة بأمّي، بدأت أفكّر في الأمهات في عالمنا العربي. كم من امرأة مرّت بظروف صعبة وعانت من اكتئاب، فراحت تبحث عن سعادتها في الطعام أو في شراء الثياب والأحذية؟ كم من طفل لم يدرك ما مرّت وتمرّ به أمّه من معاناة أوصلتها إلى إهمال جسدها وصحتها.

بطبيعة الحال، لا أستطيع أن أقارن حياتي وتجاربي بما مرّت به أمي، لأنني لم أعِش ظروفها، ولم أتعب مثلها. فأنا لدي الدعم العاطفي والمادي وأعيش حياتي بحرّية تامة... ولا حجّة لي لألجأ إلى الطعام مثلها. أدركت هذا الأمر بعد ساعات طويلة مع المعالجة النفسية، وتصالحت مع نفسي وجسدي، وأدركت أن ما تمرّ به بعض النساء في عالمنا العربي من ضغوط نفسية وحالات اكتئاب وإهمال، هي من أبرز مسببات الإفراط في تناول الطعام، وتالياً السمنة الزائدة. هذا بالإضافة إلى الشعور بالعزلة، عندما تشعر بأن زوجها تخلّى عنها عاطفياً. فعلى الرغم من وجود الأصدقاء والوظيفة التي تشغل وقتها، هي بحاجة إلى دعم معنوي وسند حقيقي من شريك حياتها.

أدركت أن ما تمرّ به بعض النساء في عالمنا العربي من ضغوط نفسية وحالات اكتئاب وإهمال، هي من أبرز مسببات الإفراط في تناول الطعام، وتالياً السمنة الزائدة

تكمن الصلة الأساسية بين اضطرابات ما بعد الصدمة واضطرابات الأكل، في صعوبة تنظيم العواطف. من هنا بدأت أشتغل على تنظيم مشاعري ووضع كل منها في مكانها السليم، كي أتمكّن من مواجهة الحياة بصدماتها ومشكلاتها بشكل صحيح. فبدل اللجوء إلى الطعام الذي يذكّرني بوالدتي وما مرّت به، أصبحت أشغل وقتي بالعادات الجيّدة، كالكتابة والمشي والاستماع إلى الموسيقى والرقص.

تعيش كثيرات من الأمهات العربيات في وحدة، تحت ركام هائل من الهموم والآلام، فالأم بحاجة إلى من يسمعها ويفهمها ويساندها كي لا تنهار في ظلّ مجتمعات قاسية وقوانين ظالمة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image