في مراهقتي، حين بدأت في قراءة الأدب ومشاهدة السينما والاستماع إلى أغاني فنانين مثل الشيخ إمام وخالد الهبر وأميمة الخليل ومارسيل خليفة، كان لدي تصور يشاركني فيه كثيرون من أصدقائي في تلك المرحلة، وهو أنّ المبدعين في مجالات الفنون كافة لديهم حياة غريبة وغامضة وطقوس خاصة بهم.
وكانت بيروت في تلك المرحلة بالنسبة إليّ هي باريس الوطن العربي من حيث الثقافة والفن والإبداع والحريات، وكنت متابعاً لبعض الجرائد اللبنانية، وأشاهد وأستمع إلى غالبية الأغاني والبرامج الثقافية التي كانت تبثُّها المحطات المرئية والمسموعة اللبنانية، ومن النادر جداً أنْ تفوتني مشاهدة برنامج "خليك بالبيت" الذي كان يقدّمه زاهي وهبي بشكل أسبوعي على تلفزيون المستقبل اللبناني، وكان شارع الحمرا في بيروت واحداً من أكثر الأماكن في العالم التي أرغب في زيارتها.
كنت مسحوراً بعوالم الروائيين والشعراء والسينمائيين والرسامين ومن شابههم، وأحلم بأن ألتقي بهم. وحين زرتُ دمشق وبيروت وجلست في مقاهي شارع الحمرا وشوارع أخرى التقيت بالعديد من هؤلاء المبدعين. ومع الوقت ومع تكرار لقائي بهم اكتشفتُ أنّ المبدع قد لا يكون جميلاً ورائعاً مثل منجزه الإبداعي، وأنّ بعض المبدعين قد يكونون سفلة وبلا أخلاق، وأنّ غموضهم ومزاجيتهم وغرابة بعض سلوكياتهم ليست حقيقة.
بالطبع، كلامي هذا لا ينفي وجود مبدعين على المستوى العربي والعالمي أخلاقيين ورائعين وحياتهم فيها شيء من الغرابة والغموض والمزاجية لدرجة أنّ بعضهم انتحر!
طقوس المبدعين
في مراهقتي، كنت أظن أنّ مَن يكتب الشعر والرواية والمسرح ويرسم ويؤلف الموسيقى ويغني الأغاني الملتزمة، يجب أنْ تكون لديه طقوس ومزاج خاص، فمثلاً حين يستيقظ صباحاً يشرب القهوة بدون سكر ويدخن إنْ كان مدخناً ويستمع إلى فيروز، بعدها يقرأ الجرائد أو كتاباً ما وهو يدخن ويشرب القهوة ويستمع إلى أغاني أجنبية هادئة...
وحين يلتقي بالآخرين، تدور أحاديثه حول هموم الإنسان ومشاكله وقلقه الوجودي، وهموم الفن والحداثة وما بعد الحداثة، وبالطبع هذا المبدع جاد ولا يضحك على أشياء سخيفة حتى لو كانت مضحكة.
وفي الليل، يضع موسيقى كلاسيكية لبيتهوفن أو باخ ثم يضيء غرفته المخصصة للكتابة إما بالشموع أو بإضاءة خافتة ويشعل سيجارة مع فنجان القهوة ويبدأ بالكتابة أو الرسم وما شابه.
بعض المبدعين يبالغون جداً خلال حديثهم عن طقوس وغرابة حياتهم ومزاجيتهم وأفكارهم التي سبَبُها شياطين وآلهة الإبداع حسب قولهم. يقولون إنهم يرون العالم بكل ما فيه من جمال وقبح بعينهم وروحهم وقلبهم ومساماتهم دفعة واحدة، ويمكنهم أن يشموا ويتذوقوا رائحة البؤس وطعم الأمل، ولديهم أجوبة معقدة وغير مفهومة على بعض الأسئلة البسيطة.
"حين بدأت بكتابة النصوص الأدبية ونشرها، وانطلاقاً من فكرتي عن حياة المبدعين المختلفة، كان لا بد لي مثلاً من أنْ أستبدل أغاني وائل كفوري ونجوى كرم بأغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام، وأيضاً شعر نزار قباني بشعر محمود درويش..."
فمثلاً لو سألت أحدهم ما هو الفصل الذي تحبه، والفصل الذي تكرهه ولماذا؟ قد يُجيب على الشكل الآتي: أحبُ الشتاء وأكره الصيف لأسباب لها علاقة باستحالة تلاقي الفرد مع ذاته الموغلة في النرجسية، وعدم قدرة الأدب الكولونيالي على أنْ يكون حيادياً تجاه بعض القضايا الإنسانية والأخلاقية.
وفي حال سألته هل تحب الليل أو النهار، ولماذا؟ قد يُجيب الليل، لأسباب لها علاقة بفكرة أنّ اللاوعي الغامض مُضاء بحالات كابوسية، وهذه الإضاءة مخادعة لأنها تعجز عن إنارة طريق الخلاص، لأنّ هذا الطريق أساساً مجرد وهْمٍ أنتجهُ العقل البشري للهروب من حالته الكابوسية.
قد يظن البعض أنني أبالغ بمثل هذه الأجوبة، ولكنني في الحقيقة التقيت خلال حياتي بثلاثة نماذج من المبدعين أدهشوني بحديثهم المبالَغ فيه عن طقوس حياتهم ومزاجيتهم الغريبة، وكانت إجاباتهم على أسئلة بسيطة مشابهة لما ذكرته أعلاه. وكنت في كل مرة أسمع أجوبة من هذا النوع أتذكر تلك الجملة في مسرحية زياد الرحباني التي تقول بما معناه: "ما بدنا نفهم قدو، بس بدنا نفهم عليه شو عم يقول".
الكتابة لأجل الكتابة
حين بدأت بكتابة النصوص الأدبية ونشرها كنت متوهماً أنّ ما أكتبه هو إضافة إبداعية للثقافة العربية، وكنت مؤمناً بمقولة "الكتابة لأجل الكتابة". وانطلاقاً من فكرتي عن حياة المبدعين المختلفة، كان لا بد لي مثلاً من أنْ أستبدل أغاني وائل كفوري ونجوى كرم بأغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام، وأيضاً شعر نزار قباني بشعر محمود درويش، والضحك والمزاح بالجدّية، إضافة إلى طرحي لبعض الأفكار المثيرة للجدل والنقاش، والإصرار على إقناع الآخر بصحة رأيي وغير ذلك الكثير.
كل ما كنت أفعله في تلك المرحلة كان بهدف لفت الانتباه وإثبات الوجود في الوسط الثقافي، وكي لا أتعرض للسخرية من النخبة المثقفة، والاتهام بقلة المعرفة في حال قلت إنني لا أعرف أغاني الشيخ إمام أو أشعار محمود درويش. بالمختصر، يمكنني القول إنني كنت أراهق فكرياً وثقافياً وإبداعياً.
"من النادر جداً أنْ أستمع لموسيقى أثناء الكتابة، والصوت الوحيد الذي قد أسمعه في ليل قريتي هو نباح كلب جارنا فيوض أو صوت قوي لمجموعة دجاجات تتعرض لهجوم من مفترس ما، يأتي بعده صوت عيار ناري"
بعد أنْ تجاوزت الـ27 من عمري، أصبحتُ أميل للاستماع أكثر من النقاش، وفي حال طرحت وجهة نظري حول موضوع ما ولم يقتنع بها الآخر لا أصر على إقناعه، إضافة إلى أنني صرتُ أشعر بالملل من الأحاديث والنقاشات حول بعض المواضيع التي يطرحها المثقفون اليساريون، وصار المزاح والحديث عن أمور بسيطة ومسلية ومضحكة هو ما أرغب فيه.
أنا كاتب بدون طقوس
لدي عمل مسرحي ونصوص أدبية ومقالات منشورة في العديد من الجرائد والمواقع الإلكترونية، ولديّ سيناريوهات لمسلسلين وفيلمين قصيرين رفضتهما شركات الإنتاج وغير ذلك.
في الصباح، لا أشرب القهوة ولا أستمع إلى أغاني فيروز ولا أدخن مع أنني مُدخن. وللأمانة التاريخية أنا لا أحب القهوة لأنها تؤلم معدتي ولا أشربها إلا كل شهرين أو ثلاثة مع سكر، ومشروبي المفضل هو المتّة.
لحظة استيقاظي، أشرب كوباً من الماء وأتناول بعض الفاكهة أو بضع حبات تمر وزبيب ثم أقوم بممارسة الرياضة، بعدها أستحم وأتناول الإفطار ثم أدخن أول سيجارة وأدخل بعدها إلى الحمام مباشرة. هذه الطقوس الصباحية لا يوجد فيها أي شيء خاص ومميز وهي موجودة لدى كثيرين من الأشخاص.
حين ألتقي بالأصدقاء، أميل غالباً للحديث عن أشياء مسلية ومضحكة وتبادل بعض المعرفة والخبرات الحياتية معهم، وأشكو لهم تعبي ويشكون لي تعبهم، وأحياناً نتحدث عن كتاب أو فيلم سينما وما شابه، ولكن من شبه المستحيل أن نتحدث عن مواضيع مثل: أنتجت الحرب السورية مفاهيم وأخلاقيات جديدة على الأصعدة كافة لذلك يجب على النخبة المثقفة تحليل وجدولة هذه المفاهيم والأخلاقيات بشكل واضح ونشرها بين الناس كي لا ينزلق المجتمع في منحدرات الغوغائية ويسقط في الفوضى غير الخلاقة.
أما بالنسبة إلى محبتي لليل والنهار وفصول السنة والأغاني وغير ذلك، فهذا الأمر غير ثابت ومتغير، فمثلاً، في هذا الصيف ذهبت مشاوير كثيرة إلى البحر مع الأصدقاء وسهرت حتى الصباح ورقصت على أنغام الأغاني الشعبية والهابطة، إضافة إلى أنّ حالتي النفسية كانت جيدة في أغلب الأيام لذا من الطبيعي أنْ أحب فصل الصيف والليل أكثر من النهار ومِنَ الشتاء الماضي. ولكن هذا لا يعني أنّني قد أحب فصل الصيف في السنة القادمة. بالنسبة إليّ، لا توجد فصول جميلة ولا شهور رائعة ولا أوقات مميزة إلا في داخلي وحسب حالتي النفسية.
أما بالنسبة إلى الكتابة، فأنا أكتب غالباً بعد منتصف الليل في غرفة نومي على لابتوب صغير وأنا أشرب المتة أو كأساً من العرق أحياناً والكثير من السجائر، وحين تنقطع الكهرباء أضيء غرفتي بواسطة نيون صغير مصمم ليعمل على بطارية سيارة، ومن النادر جداً أنْ أستمع لموسيقى أثناء الكتابة، والصوت الوحيد الذي قد أسمعه في ليل قريتي هو نباح كلب جارنا فيوض أو صوت قوي لمجموعة دجاجات تتعرض لهجوم من مفترس ما، يأتي بعده صوت عيار ناري، يجعلني أفكر هل استطاع صاحب الدجاجات قتل المفترس أم لا؟
منذ سنوات، ومقولة "الكتابة من أجل الكتابة" وما شابهها من المقولات لم تعد تعني لي شيئاً، فأنا أكتب لأنّ الكتابة تمتعني جداً، وأكتب من أجل الحصول على الثناء والمديح من قبل القُرّاء، وأيضاً من أجل الحصول على المال، وأحياناً أكتب بهدف إغواء أنثى ما تعجبني، وحين أكتب عن الأصدقاء يكون هدفي أنْ أقول كم أنا سعيد ومحظوظ بهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه