وراء بطاقة الـ(ID) والصورة والعبسة وآثار الأصابع، تقبع عوالم لغة وسياقات اجتماعية وثقافية وبيئية، إلى آخره، إلى آخره. الهويات عوالم واسعة، وسؤال الهوية كان قد أدرج بين مباحث دراسات التعددية اللغوية في العقود الأخيرة في بلاد ككندا والسويد وأستراليا، تدفقت إليها مع السنين أفواج بشر مهاجرين.
قال الباحثون إن التعددية اللغوية ليست عقبة وإنما هي مصدر ثمين وطريق مُمَهِّد لمتعلم لغة أخرى، واللغات تتشابك وتتشابه وتتقاطع طرق قواعدها وكيف تبنى وكيف تندرج سياقاتها. ويقولون أيضاً إن الهوية الثقافية تتعدد وتضاف إلى الجعبة كما تتعدد وتضاف اللغة الثانية أو الثالثة. الهوية بحسبهم قد تصير، كما اللغة، هويتين ولغتين تتجاوران وتتآخيان وتتصادقان.
الفكرة شهية للنقد، فهي محبوسة في النظرية، وواقع الحال في بلد كالسويد، والنقاشات التي تجري على الصعد الأكاديمية والسياسية والثقافية والإعلامية، تصب في ماء آخر وفكرة أخرى، إذ ما زال المجتمع في عملية هضم عسيرة لموجة الهجرة الأخيرة وسياسة الهجرة والإدماج مُتَّفَق على فشلها من جلّ السياسيين، وهذا موضوع آخر.
الحقيقة التي تضيء هنا هي أن النسبة الأكبر ممَّن وفدوا إلى السويد كان لهم الاندماج والترسخ والذوبان في النسيج المجتمعي، لكن من جهة أخرى شكلت أعداد ليست بقليلة مجتمعات موازية وَجدت أماكنها في ضواحي المدن الكبرى كاستوكهولم ويوتوبوري (غوثنبرغ) ومالمو.
سيجري الزمن وتشكل تلك التجمعات مجتمعات هجينة تتصادم فيها ثقافات البلدان الأم مع الثقافة السويدية. هناك، تتعايش حرارة شعوب الشرق وإفريقيا وأمريكا الجنوبية في العادات اليومية والمأكل والموسيقى والملبس والأعياد مع برودة الطقس وبرودة الحياة الاجتماعية لدى السويديين. هناك في الضواحي يمكن سماع مفردات من العربية والكردية والتركية والصومالية والإسبانية مثل "يلا يلا" و"انشالله" و"çok وguss" و"خوای گەورە"، داخل لغة سويدية مكسرة تُعرف بـ"لغة رينكبي"، نسبة إلى ضاحية رينكبي في استوكهولم.
كانت مقدمة لا بد منها لفهم عوالم رواية يوناس حسن خميري، أحد أبناء المهاجرين، "عين حمراء"، الصادرة عام 2003، والتي تدور في المناخ ذاته وتحكي عن المشاكل ذاتها، مشاكل الجيل الثاني من مهاجري السويد. الحكاية بسيطة وذات خط درامي متصاعد وصارت لاحقاً مرجعاً لفيلم ظهر بعد صدور الرواية يحمل الاسم ذاته.
داخل رأس حليم المراهق الصغير المولود لأبوين عربيين نُرمى، وفيه تدور رواية "عين حمراء". وحليم فتى غاضب يكتب في دفتر مذكراته عن غضبه وصراعه المزعوم مع الدولة السويدية. لن يخضع حليم لخطة الإدماج التي تتبعها السويد ولن ينسى مَن هو. هو السلطان، سلطان الأفكار مثل الفارابي وابن سينا والخوارزمي، أولئك الذين حدّثته عنهم داليندا، المرأة العربية، فهي مرجع نظري لأفكاره، وهو مفكر وثوري عربي، رغم أنه لا يعرف العربية، ولا يشبه أي مفكر سويدي "أحمق". ولحليم عالمه الصغير، المدرسة والبيت وعالم في رأسه يسكنه مجتمع عربي عادل وحميم متخيل.
لحليم عالمه الصغير، المدرسة والبيت وعالم في رأسه يسكنه مجتمع عربي عادل وحميم متخيل... هو مفكر وثوري عربي، رغم أنه لا يعرف العربية، ولا يشبه أي مفكر سويدي "أحمق"
في المدرسة وعن المدرسة، يتفلسف حليم في وصف سلوك ومظهر الطلاب، ويصنفهم منطلقاً من سؤاله حول مَن هو السويدي ومَن هو المهاجر، ويلاحظ كيف تتحكّم سلطة اللغة وسلطة المال وسلطة الانتماء إلى الأكثرية في البلاد، والتي يملكها الطلاب السويديون، بالعلاقات مع الطلاب ذوي الأصول المهاجرة وبالتحالفات المعقودة بين المجموعتين.
في البيت، يعيش حليم مع أبيه ومع ذكريات أمه المتوفاة. سيخذل الأب ولده، ويقرر الانتقال من الضاحية إلى وسط المدينة. هناك يمكن لحليم أن يبني مستقبله بحسب الأب. لكن حليم ينتمي إلى هناك، إلى الناس القادمين من كل أصقاع الأرض، إلى ذاك الخليط البشري العابق بمختلف الروائح والأمزجة والأهواء. هناك غطاؤه وملجؤه وشبكة أمانه، هناك عالم يُشبع النهم فيه، في البحث عن هوية، ويصنع له بديلاً واقعياً معقولاً عن العالم المثالي المشتهى.
نور الدين، صديق الأب وممثل مسرحي جال مسارح العالم، لكنه لم ينجح في إيجاد مكان وفرصة تناسب مقدرته كممثل محترف، سيكون بالنسبة إلى حليم دليلاً على محاولة السويديين التقليل من كفاءة الأشخاص المهاجرين، وسيقود وجوده الخط الدرامي المتصاعد في الرواية إلى الذروة، ذروة الغضب، إذ يكاد حليم أن يقتل ممثلاً لعب أحد الأدوار التي تَقدَّم نور الدين للعبها.
السويدية لغة الكاتب السويدي، من أب تونسي وأم سويدية، يوناس حسن خميري، لكنه يتقصد استخدام لغة سويدية مكسرة ومليئة بأخطاء لغوية في عمله، فيعمد حتى في العنوان على تأخير الصفة على الموصوف ليأتي العنوان ركيكاً وفجاً وغير مريح للأذن السويدية
السويدية لغة خميري الأم، لكنه يتقصد استخدام لغة سويدية مكسرة ومليئة بأخطاء لغوية في عمله، فيعمد حتى في العنوان على تأخير الصفة على الموصوف ليأتي العنوان ركيكاً وفجاً وغير مريح للأذن السويدية. يجعل خميري من اللغة سلاحاً ودرعاً للفتى المراهق، بها يهاجم ويحطم ما ترسخ من قواعدها انتقاماً وعدلاً يرجوه لفئة مهمشة ومعزولة، وبها يلوذ طالباً دفء الناس الناطقين بها هناك في الضواحي. داخل دفتر مذكرات حليم تتدفق تلك اللغة طرية وطازجة كأنها مقطوفة للتو من أفواه الناس في تينستا وبوتشيركا ورينكبي.
"عين حمراء" رواية عن الهوية، عن جيل المهاجرين الثاني، عن العنصرية، عن السلطة، عن المراهقة، عن وهم بناء عالم موازٍ وقيم عليا مشتهاة أو متخيلة بدلاً من تلك التي نتمرغ بها قاصدين أو مرغمين.
يوناس حسن خميري، كاتب سويدي من أب تونسي وأم سويدية. له أربع روايات وست مسرحيات والعديد من القصص والمقالات. باعت روايته الأولى "عين حمراء" أكثر من مئتي ألف نسخة وتصدرت سوق المبيعات عام 2004 في السويد وترجمت إلى العديد من اللغات. نال العديد من الجوائز منها جائزة الرواية من الراديو السويدي وجائزة أوغست للأدب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...