حسناً، لم يعد هناك من أرقام وحسابات أراجعها كلما أردت أن أؤمّن لي ولأولادي حياةً جديرةً بالعيش، فيها الحد الأدنى من مقومات الأمان والسلام والهدوء. حياة يمكن أن ألجأ إليها لمدة زمنية طويلة نسبياً، خارج التدريس في الجامعة، وخارج شروط الإذلال اليومية التي ننسج منها أساطير رغبويةً بخلاصٍ آتٍ. حياة تكون هامشاً واسعاً للتفكّر في ما يمكن ألا يكون المستقبل عليه.
لفظتنا الدول، ولم نعد مجموعاً كافياً ومغرياً لها. لقد اكتفت بما لديها، بشكل أو بآخر، وباتت إمكاناتها محصورةً في من هم محتملون مسبقاً، أي أولئك البشر الفائقون، أصحاب الخبرات والسير الذاتية الطويلة والأرقام المتراصّة التي تعكس قدرتهم الفائقة على التذّكر. فالدول لا تفكّر فينا إلا كحسابات، مصرفية أو غيرها، وكنسب مرتفعة من الضرائب المستمرة، وكسِيَرٍ ذاتية متخمة. نحن مجرد أرقام إضافية تُسجَّل على اللوحة الأمامية، فتفصل بين ما يمكن أن نكون عليه وما نحن عليه فعلاً. نحن ذلك السيلان الذي مرّ ولم ننتبه، فلم نستطع تسجيله لنعيد توظيفه في سيرتنا.
لفظتنا الدول، ولم نعد مجموعاً كافياً ومغرياً لها. لقد اكتفت بما لديها، بشكل أو بآخر، وباتت إمكاناتها محصورةً في من هم محتملون مسبقاً، أي أولئك البشر الفائقون، أصحاب الخبرات والسير الذاتية الطويلة والأرقام المتراصّة التي تعكس قدرتهم الفائقة على التذّكر.
لا أذكر متى بدأ الأمر، أو بالأحرى لا أذكر كيف انتهى. لكن، ما أن فكرنا في تقديم طلب "الإكسبرس إنتري" الذي يختصر رغبتنا في الهجرة إلى مطلق ولاية كندية، حتى تحولتُ، وبقدرة خفية، وبجانب الفلسفة والسياسة، إلى عالِم رياضي يحمل الآلة الحاسبة ليحصي، جيئةً وذهاباً، عدد النقاط التي استطعنا تجميعها حتى اللحظة. بقيت على هذا المنوال أياماً وليالي. بقيت سجين إمكانية رفع هذا الحاصل من هنا أو من هناك. ما الذي يمكن أن أضيفه إلى شخصي، وأولادي، وزوجتي، وخبراتنا، ويمكن أن يجعل دائرة الهجرة راضيةً عنا بشكل من الأشكال؟ ما الذي ليس في شخوصنا أو إمكاناتنا، ويحجب عنّا شرف القبول الذي نفرح به كإنجاز في ليلة ما من المستقبل البعيد؟
فالدول لا تفكّر فينا إلا كحسابات، مصرفية أو غيرها، وكنسب مرتفعة من الضرائب المستمرة، وكسِيَرٍ ذاتية متخمة.
صدقاً، لم أستطع أن أنسى كيف تحولت الأيام إلى مجرد قسمة بين انتظار من هنا وإحصاء من هناك. علاقة مد وجزر طويلة الأمد، لم يعكّر صفوها الافتراضي إلا الحدث الأفغاني بادئ ذي بدء. يومها، أدركت أن منطق الأولويات لا يسري علينا، فنحن لا نستوفي شروطه. نحن خارج دائرة الخطر بالنسبة إلى العالم، ما دامت حكوماتهم قادرةً على تطويع الحاكمين في بلادنا، وقادرةً على إعادة إنتاج أعمار هيمنتهم، من أكبر "مقاوم" يتقاسم الطاولة مع أوقح "عميل".
هكذا انتهت مرحلة الاستبعاد الأولى لتبدأ المرحلة الثانية، بعد مدة، مع الحدث الأوكراني. بدأت الرحلة الثانية التي كانت تعيد تأكيد المؤكد، بشكل أكثر ألماً، فأعيد الدرس من البداية، ومن جديد. نحن مجرد أرقام على شاشات، وإن سجلت ارتفاعاً ملحوظاً في لحظات ما، سرعان ما سيأتي من هو أكثر أولويةً منّا. نحن اكتمال الصفحة من أسفل، ومجرد حشو يملأ الفراغ. نحن الذين شهدت بلادنا واحدةً من أخطر التفجيرات في القرنين الماضيين، لسنا في خطر داهم بالنسبة إليهم. من فجّرنا، ومن كان مسؤولاً، لا يهدد مستقبلنا، بل نستطيع التعايش معه بسلام ووئام. هكذا قررت الدول، وهكذا قرر المنطق بعدها.
بالطبع لا أحقد على الشعوب التي انتزعت منا أولوية البؤس والشقاء. أبداً، لا تنافس في المصيبة. يُفترض ألا يُفهم هذا الأمر من كلامي. جدياً، هم مجرد ضحايا، مثلنا، وربما أكثر منّا، لا أعرف. هم أيضاً ضحايا من يقررون مصيرهم في الخارج قبل الداخل. هم ونحن ضحايا ولنا عتب على هذا الكون، عتب ولوم نريد أن نسجلهما ونرددهما ولو بصوت خفيض.
بالطبع لا أحقد على الشعوب التي انتزعت منا أولوية البؤس والشقاء. أبداً، لا تنافس في المصيبة. يُفترض ألا يُفهم هذا الأمر من كلامي. جدياً، هم مجرد ضحايا، مثلنا، وربما أكثر منّا، لا أعرف. هم أيضاً ضحايا من يقررون مصيرهم في الخارج قبل الداخل
نحن الذين لم نرَ الراحة إلا بضعة أيام خارج الحسبان، قدرتنا على التوقع تميل مباشرةً إلى السوداوية. نحن الذين نعمل بجدّ وبكدّ لنعيش بعرق جبيننا قبل أن يتم تخييرنا بكيفية موتنا! فهل نموت على محطة، أم أمام مستشفى، أم في حرب لا نقررها ولا نكسب منها، كما خيّرنا المرشد؟ هكذا ببساطة نتحول من أرقام على شاشة إلى أرقام في مقبرة. وهكذا ببساطة تتقاسم كل القوى الأرضية، وتلك التي تصادر السماء، جثثنا. نحن مجرد أشياء مركونة، وأجسام متحركة في أحسن الأحوال، يفعل بنا من يريد أن يفعل، ويأخذنا كيفما يشاء وكما يحلو له.
نحن الذين شهدت بلادنا واحدةً من أخطر التفجيرات في القرنين الماضيين، لسنا في خطر داهم بالنسبة إليهم.
لا أعرف ما الذي يجب القيام به. ليس الآن. لا أقول هذا من باب التواضع. صدقاً، لم يعد في إمكاني صرف أي جهد حتى على التواضع. لا أعرف ما الذي يجب القيام به، وليس في تصوري ولا في مخيلتي. انتهى "البروفايل" الذي أنشأناه على الـ"express entry" قبل مدة، واختفى عن اللوحة من دون رغبة في إعادة تفعيله. انتهت مدته وعدنا أدراجنا إلى خارج اللوحة، إلى كائنات حيّة بلا أرقام في هذا الموقع. عدنا إلى الذي نجيد صناعته جيداً؛ فشل بلادنا وثقافتنا وتربيتنا التي تخوّلنا التمركز لا في أسفل الصفحة فحسب، بل، ربما، في ذلك المكان الطبيعي الوحيد الممكن حتى اللحظة، على قفاها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...