"أمسك بيدي الآن مكبّر صوت افتراضي، وأصرخ بكل ما تسمح لي به رئتاي المليئتان بدخان التبغ السيئ النوع والصيت، وبأعلى صوت ممكن: إلى كل من أعرفه وسأعرفه ولن أعرفه، يا أصدقائي في أوروبا، وتحديداً في السويد، هذه رسالة من شخص لا تعرفونه، إنسان بسيط كُتب عليه حتى هذه اللحظة أن يعيش في هذه المنطقة من العالم، يقول لكم لا تعودوا إلى هذه المنطقة البائسة، لا تعودوا إلى الشرق الأوسط، ولا تسعوا إلى دمار مستقبل أولادكم كما حاولوا من قبل تدميركم تحت شعارات مصلحة الأطفال يعرفها الأهل. منح القدر أو الحظ أطفالكم فرصةً لرسم مستقبلهم بأيديهم فلا تسرقوها".
كتبت هذه السطور في رسالة خاصة إلى أحد صديقين يعيشان في بلاد السويد الباردة البعيدة قبل أن أحذفها واحتفظ بها في ذاكرة مليئة بمشاهد القسوة والحزن والتعب المنتشرة في شوارع المدن التي كٌتب علينا أن نعيش في حاراتها في زمن ما عاد مفهوماً.
يا أصدقائي في أوروبا، وتحديداً في السويد، هذه رسالة من شخص لا تعرفونه، إنسان بسيط كُتب عليه حتى هذه اللحظة أن يعيش في هذه المنطقة من العالم، يقول لكم لا تعودوا إلى هذه المنطقة البائسة
وسألت نفسي: ألا يستحق كل الناس الحصول على نصيحة صادقة من قلب طيب؟ لماذا تخص صديق العمر بنصيحة قد تُفيد أحداً آخر؟
ولا بدّ أنكم تتساءلون: لماذا هذه النصيحة أصلاً؟ ولماذا هذا الغضب الساطع الخارج من حبال صوتية أتعبها الصراخ من دون انتظار رجع الصدى؟ وقبل أن أجيب عليّ الإشارة إلى أن هذا المقال قاسٍ ولا يحابي أحداً، ولن ينوح ويسوح ولن يدغدغ مشاعر أحد، لا الدينية ولا القومية.
سأقول لكم باختصار، إن صديقاً لي سكنه القلق منذ أخبار "معارك السوسيال" في السويد، ثم ازداد هذا القلق مع نتائج الانتخابات الأخيرة، وسرعان ما قال صديقي إنه ينتظر الحصول على جواز السفر، وبدأ يفكر جدياً في مغادرة هذه البلاد التي ستشكل حكماً خطراً على مستقبل عائلته.
لا بدّ أنكم تتساءلون: لماذا هذه النصيحة أصلاً؟ ولماذا هذا الغضب الساطع الخارج من حبال صوتية أتعبها الصراخ من دون انتظار رجع الصدى؟
سألته ساخراً: هل يحكم بشار الأسد السويد ولا نعلم؟ أم أن السويد مستعمرة تتبع لإحدى دولنا العظيمة صاحبة الفتوحات والفتوحات المضادة التاريخية من دون نقطة دم واحدة؟ هل خرج من بين ظهراني أهل السويد الكرام أحفاد حبيب العادلي (وزير الداخلية المصري السابق)، وعلي مملوك (رئيس جهاز الأمن القومي لدى النظام السوري، واعذروني عن ذكر بقية الأسماء، فمن كثرة الأجهزة الأمنية في العالم العربي من الصعب حفظ أسماء أعلامها)، وألغوا القانون وباتت السويد غابةً كما هي بلادنا اليوم؟
لم يضحك صديقي، بل لم يبتسم، وأجاب بجدية: "أنا خائف على مستقبل ابنتي، وهذا واجبي يا يامن". نظرت إليه مطولاً ولم أجب بدوري. حاولت التفكير بمنطقه هو ومنطق العادات والتقاليد التي ينقلها الإنسان من بيئته الأم إلى بيئات أخرى مختلفة كلياً.
كسر صديقي الصمت ليروي لي أن "إحدى السيدات السوريات في السويد كانت أمام مدرسة ابنتها، وجثت على ركبتيها تنفض الغبار عن يدي الطفلة، وسرعان ما ركضت معلمتها واتهمت الأم بضرب الطفلة"؛ صمت قليلاً ثم قال بغضب: "لقد فتحوا لها ملفاً لدى السوسيال... هل تعلم معنى هذا؟". لم أجب، لكنني أقسم لكم بأنني لا أعلم ما معنى أن يُفتح ملف لأحد ما في السوسيال! ولا أقلل بالطبع من خطورة الأمر، إن وُجدت، ولا أقول إن السويد بلد كما "المدينة الفاضلة"، ولا تجاوزات فيه، لكنني -وهذا ما أجبت صديقي به- أعلم أن هناك ربما قانوناً ما سيساعدك على خوض معركة فُرضت عليك لسبب أو لآخر بما في ذلك الأسباب العنصرية.
وأستطيع هنا أن أكمل الإجابة التي انقطعت بانقطاع الاتصال حينها لأسباب تقنية، والسؤال هنا موجه إلى جميع السوريين في أوروبا، لا إلى صديقي فحسب: هل تعني هذه الأخبار الواردة والمعارك المفروضة على الناس لسبب أو لآخر أن يقرر شخص ما فرّ من جحيم الحرب والفقر وغيرهما من الصفات "العظيمة" التي تذخر بها بلادنا، أن يعود إليها أو إلى بلاد أخرى بالمواصفات نفسها تقريباً وبنفسٍ مطمئنة؟
لا أقلل من الصعوبات الجمّة التي يعاني منها العرب في أوروبا، بما في ذلك صعوبة الاندماج وتقبّل الآخر والعنصرية وغيرها من المشكلات، لكنني سمعت وشاهدت عبر السنوات العشر الماضية مئات النماذج الناجحة التي اندمجت في مجتمعاتها الجديدة
بالطبع أنا لا أقلل من الصعوبات الجمّة التي يعاني منها العرب في أوروبا، بما في ذلك صعوبة الاندماج وتقبّل الآخر والعنصرية وغيرها من المشكلات، لكنني سمعت وشاهدت عبر السنوات العشر الماضية مئات النماذج الناجحة التي اندمجت في مجتمعاتها الجديدة، ونجحت فيها، وخلقت فرصها بيدها من دون أن تفقد هويتها أو تخسر أفكارها وشخصيتها، والتي بلا شكّ عانت الكثير للوصول إلى ما وصلت إليه.
يُعرّف المؤرخ السوري، منذر الحايك، الاندماج بأنه "لا يعني الذوبان والانصهار والتخلي عن الهوية أو الثقافة وإنما هو التناغم وحسن التعامل وفهم الحقوق والواجبات والتعامل على أساسها"، وتالياً يمكن لنا أن نفهم من خلال هذا التعريف ما الذي يمكن فعله لحماية "الهوية الذاتية" للسوريين والعرب في أوروبا من دون الدخول في دوامات الخوف والقلق من مستقبل الأولاد.
وأعرف أيضاً أن الكثير من العرب الذين وصلوا إلى أوروبا، وأقاموا فيها، لا تعنيهم مسألة الديمقراطية والحريات، بل إن شريحةً منهم تسخر من هذه الحريات وتطالب بإقامة دولة الخلافة في القارة العجوز، لذا تبدو فكرة العودة لهم ضروريةً للحفاظ على "مستقبل البنات"، وهذه الجملة الأخيرة بالمناسبة هي إحدى أهم محركات العودة إلى أوطان لفظت أبناءها وبصقتهم!
أعرف أيضاً أن الكثير من العرب الذين وصلوا إلى أوروبا، وأقاموا فيها، لا تعنيهم مسألة الديمقراطية والحريات، بل إن شريحةً منهم تسخر من هذه الحريات وتطالب بإقامة دولة الخلافة في القارة العجوز
ومن هنا أسأل: "هل مستقبل البنات مضمون في بلادنا العربية التي تمتلك نسبة تحرش وجرائم (شرف) وقتل للنساء أعلى من غيرها؟ هل يمكن لأي شخص ألا يخاف على بناته في شوارعنا حقاً، ونحن نسمع يومياً عن جرائم جديدة (عدا طبعاً عن التي لم نسمع بها لنقص التغطية الإعلامية أو لأسباب أخرى)؟ ما الفرق إذاً؟
وإلى أين العودة؟ إلى بلاد تبلغ نسبة الفقر فيها نسباً مئويةً ملعونةً، أم إلى أنظمة تفشل في بناء جسر واحد فقط بناءً على دراسة جدوى؟ إلى حكومات فشلت على مدى عقود في بناء خطة إستراتيجية واحدة لقطاع واحد؟
من هنا أسأل: "هل مستقبل البنات مضمون في بلادنا العربية التي تمتلك نسبة تحرش وجرائم (شرف) وقتل للنساء أعلى من غيرها؟"
ستعودون، أعرف، إلى بلاد "الماضي فيها لا يمضي"، كما قال سليمان فرزلي. بلاد تعيش فيها شريحة من الناس ترى الصمت من المقدّسات، ولا يجوز خرقه، وتعيش على أمجاد ما قبل ألف عام.
بالطبع أنتم أحرار في العودة كما كان من حقكم الرحيل يوماً إلى بلاد أفضل، اقتصادياً وعلمياً وسياسياً وحقوقياً، لكنكم لستم أحراراً في مستقبل أولادكم الذين يستحقون حياةً أفضل من تلك التي عشناها في بلادنا تحت سلطة الأب والعائلة والمدرسة و"أبانا" الذي في المخابرات والقادة الخالدين. لستم أحراراً في مستقبل أولادكم العلمي!
وإن كنتم خائفين من "السوسيال"، فاستعدوا له جيداً وعاملوا أطفالكم باحترام لا بتملّك، وتعرفوا على قوانين البلاد واحترموها؛ هذه أسلحة بسيطة تساعدكم على خوض أي معركة مهما كبرت، وأهل السويد أدرى بشعابها!
هل تستوي جامعة البعث بجامعة ستوكهولم؟ هل تستوي إنسانياً في بلادنا وتستوي إنسانياً وأنت هناك؟ هل يستوي مستقبل طفلك وأنت هنا... وأنت هناك؟!
أجيبوا أنفسكم بصدق: هل تستوي مدارس "أم المؤمنين" و"عبد الرحمن الزهراوي" و"محمد جميل سلطان"، بمدرسة واحدة في أوروبا؟ هل تستوي جامعة البعث بجامعة ستوكهولم؟ هل تستوي إنسانياً في بلادنا وتستوي إنسانياً وأنت هناك؟ هل يستوي مستقبل طفلك وأنت هنا... وأنت هناك؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...