شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كأن الزمن يتوقف في إيران... عن فيلم

كأن الزمن يتوقف في إيران... عن فيلم "ثورتي المسروقة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الثلاثاء 15 نوفمبر 202204:22 م

عام 2009، بدأت المخرجة الإيرانية ناهد برسون في البحث عن الناشطات اللواتي ألقي القبض عليهن في تظاهرات عام 1979 في إيران، لأنها كانت مناهضة لإقامة دولة إسلامية، وتعرضن في سجون الخميني للاعتقال والتعذيب والاغتصاب. فاستطاعت برسون أن تصل إلى بعض المسجونات، مثل بارفانيه، ونازليـه، وسودابيه، ومنيريه، وأزار، هذه أسماؤهن التي من الممكن أن تشبه أسماء كثيرة لم يسعفهن ضوء كاميرا كي يلتقط معاناتهن. يعشن في النرويج، والسويد، وأميركا، وألمانيا، وبريطانيا. التقتهن ثم جمعتهن، وصنعت الفيلم التسجيلي الوثائقي الذي حمل عنوان "ثورتي المسروقة" عام 2014، وتم تناول موضوعه سابقاً وأعيد الحديث عنه بشكل يتسق مع مجريات ما يحدث في إيران حالياً.

"كنت أقاوم كل أساليب التعذيب، وأعود إلى الغرفة ألتصق برفيقاتي وأنام جالسة، إلا في يوم اقتدت معصوبة العينين، وتم اغتصابي"

  العودة لهذا الفيلم في هذا الوقت مرتبطة بالجملة التي قالتها المخرجة أثناء لقاء عابر معها في أحد المهرجانات السينمائية: "كان يجب أن أوثق حتى لا ننسى، لأن النظام الذي ارتكب هذه الفظائع لا يزال موجوداً"، فالتوثيق كان يحضر في الفيلم مع خلفية لصوت المخرجة. تعلق على صور كثيرة ختمت فيها فيلمها كما البداية، لتؤكد أن ثمة ثورة موجودة في بلدها لكنها مغيبة، وكأنها تقول إن الثورة الإيرانية المدنية ستعود ولو بعد حين. والمفارقة أن أغلب الصور التوثيقية لعدة سنوات متصلة ومنفصلة كانت لشخصيات نسائية وكأنها تحاكي الحاضر. وهذا مدعاة للفت الانتباه إلى هذا الفيلم الذي استخدمت فيه المخرجة محاكاة بين شخصياتها وبين السجان والسجون، في عرض أقرب إلى المسرح، إذ جعلتهن يتماهين مع ذاكرتهن حد الوجع والصرخات والدموع التي -كمشاهدين - من المحتمل أن تذرفوها معهن.

 الفيلم يحكي قصة خمس نساء والمخرجة سادستهن، وتجربتهن المريرة في السجون الإيرانية إبان الثورة الإيرانية التي أطاحت شاه إيران، والتي "سرقها الخميني" بحسب وصف السيدات اللاتي أصبحن بليبراليتهن ملاحقات أمنياً لأنهن يروجن لضرورة عودة مسار الثورة وأساسها الديمقراطية التي وصفها الخميني بأنها "مصطلح غربي فاجتنبوه".

عام 2009، بدأت المخرجة الإيرانية ناهد برسون في البحث عن الناشطات اللواتي ألقي القبض عليهن في تظاهرات عام 1979 في إيران، لأنها كانت مناهضة لإقامة دولة إسلامية، وتعرضن في سجون الخميني للاعتقال والتعذيب والاغتصاب

بين المشهد الأول - المملوء بالصور الوثائقية المفعمة بالحلم والأمل في الثورة الإيرانية، وكيف سرقت هذه الثورة، وتحولت إيران إلى بلد يقضي على كل شخص يعارضه - وبين مشهد النهاية - الذي كان أيضاً عبارة عن صور وثائقية تؤكد من خلالها المخرجة وبصوتها أن الثورة ما زالت مستمرة - يبدأ التعرف على شخصيات بطلات الفيلم. ويتم إدراك أن عملية البحث عنهن من قبل المخرجة ما هو سوى نوع من البحث عن أجوبة عالقة في ذهنها وكأنها أرادت العلاج الجماعي، فهي كانت بحاجة إليه كي تتخلص من ذنب أخيها الذي اعتقل بدلاً عنها وتم إعدامه.

ما يجمع بين الأسيرات الخمس السابقات ليس سجن الخميني فقط، بل توقيت الإفراج عنهن بعد اعتقال تراوح بين 10 و 15 عاماً، فهو لم يأت بسبب عفو رئاسي أو ما شابه، بل لأن لجنة التحقيق الدولية حينها قررت زيارة السجون الإيرانية بعد إصرار الخميني على عدم وجود معتقلي رأي، فتخلص وقتها قدر ما استطاع ضمن إعدامات جماعية لأغلبية المعتقلين. وفتح السجون لمن تبقى منهم، فكانت للنسوة الخمس الحظ في الفرار حسب ما روين في القصة. وكان التحدي المشترك بينهن وبين عائلاتهن عندما التقت عيونهن لأول مرة خارج أسوار السجن والغرفة التي كانت تجمعهن مع ما فوق الـ 150 معتقلة بأنهن لم يمسهن الجنون، فكان المنفى وجهتهن للحفاظ على ما تبقى من عقول في أجساد انتهكت واغتصبت وعذبت.

العودة لهذا الفيلم في هذا الوقت مرتبطة بالجملة التي قالتها المخرجة أثناء لقاء عابر معها في أحد المهرجانات السينمائية: "كان يجب أن أوثق حتى لا ننسى، لأن النظام الذي ارتكب هذه الفظائع لا يزال موجوداً"

بعد 30 عاماَ من فرارهن في فترة السبعينات، قررت مخرجة الفيلم أن تبحث عنهن، فلديها معهن قصة. هي التي استطاعت أن تهرب مع ابنتها الرضيعة إلى السويد قبل أن يعتقلها نظام الخميني. واعتقل شقيقها بدلاً عنها، وأعدمه أيضاً وهو لم يتجاوز الـ 17 من عمره، فحملت ناهد ذنب أخيها ودمه في رقبتها، ولم تجف دموعها يوماً. وشعرت بأن خلاصها يكمن في أن تعيش تجربة المعتقل مع من عاشه فعلاً، وأن تشعر بكل شيء كي تحاول أن تلمس شيئاً من معاناة شقيقها رستم قبل اعدامه.

تتشابه القصص إذا ما كانت طريقة التعذيب واحدة، هذه كانت إجابة المخرجة، فعند النظر إليهن حين يجلسن في هدوء في منازلهن يمارسن الرسم والنحت والتأمل، كل واحدة في منفى مختلف، لكن عيونهن تائهة، وكأنها تتحدى ذكرى اغتصابهن. فإحداهن أكدت: "كنت أقاوم كل أساليب التعذيب، وأعود إلى الغرفة ألتصق برفيقاتي وأنام جالسة، إلا في يوم اقتدت معصوبة العينين، وتم اغتصابي". هذه تحديداً لديها قصة أيضاً أنها جاءت وابنتها إلى المعتقل، فعاشت طفلتها معها، وشاهدت بأم عينيها تعذيب أمها: "في يوم كانت طفلتي تلعب بدميتها وتضربها بشكل عنيف وتقول صارخة: اعترفي أنت خائنة خائنة".

تتشابه القصص إذا ما كانت طريقة التعذيب واحدة

ولأخرى قصة من نوع آخر، فهي تحب الرسم والنحت، وحاولت صنع أدواتها في المعتقل من لا شيء، من شعرها ومن الخشب ومن أشياء أخرى. كانت تظل ترسم وتخبئ ما ترسمه. والثالثة ترسم أيضاً، لكنها استغنت عن ذلك فترة وجودها في المعتقل، وفور خروجها لزمها الأمر ستة أشهر كي تبتاع أول ريشة ألوان. وقالت: "بدأت أهزأ من سجاني بألواني". وهي نفسها المرأة التي تعاني عرجاً في ساقها من شدة الضرب.

بعد لقاء كل شخصية منهن على حدة، تقرر ناهد أن تجمعهن في بيتها بالسويد، وتلبي النسوة الخمس مع غياب امرأة سادسة تعيش في أميركا، استبعدتها ناهد لأنها شعرت بأنها خنعت لتعاليم الخميني. هذا المشهد من الممكن أن يخل بتوازن الفيلم المبني على الدفاع عن الحريات، دون الإقصاء.

قصص أليمة تحت سقف واحد وبعد 30 عاماً من حريتهن. لكن، هذه المرة يعدن إلى الماضي بآلامه، مثل قصة ما يسمى بالقبور المفتوحة أو التابوت. تقول إحداهن التي جربت هذا النوع: "يتم عصب عيوننا، وربط أيادينا وأرجلنا، ورمينا في حفرة بالكاد تتسع لحجم أجسامنا، ولا يجوز أن نتحرك، فنحن أموات، هكذا يخبرنا (ساجي) وهو اسم معذبهم الأكثر قسوة". وتضيف: "كل يوم يأتي يوهمنا أننا في البرزخ وعلينا التوبة".

ما يجمع بين الأسيرات الخمس السابقات ليس سجن الخميني فقط، بل توقيت الإفراج عنهن بعد اعتقال تراوح بين 10 و 15 عاماً، فهو لم يأت بسبب عفو رئاسي أو ما شابه، بل لأن لجنة التحقيق الدولية حينها قررت زيارة السجون الإيرانية بعد إصرار الخميني على عدم وجود معتقلي رأي

ومع كل هذه القصص التي تروى، وأغان فارسية تصدح، وكؤوس تضرب بعضها ببعض، ودموع كثيرة وضحكات أقل، أكد جميعهن أن ثمة خطأ ارتكب: "لم نكن منظمات كفاية كي نقود إلى النهاية".

 في المقابل، يتكرر مشهدان طوال رحلة الذكريات هذه. المشهد الأول أن إحداهن استطاعت أن تحتفظ بالعصابة التي كانت تغطي عينيها بها رغماً عنها قبل أي نوع من التعذيب، إذ ارتدتها كل امرأة منهن ولبست العباءة، وتصورت. والمشهد الثاني خاص بمجسم من الصلصال صنعته إحداهن، يجسد شكل المعتقل والغرفة التي كان ينام فيها أكثر من 100 امرأة، ومواضع النوم، والمناوبة.

يأتي بعد ذلك دور المخرجة في المشاهد النهائية من الفيلم، وتدخل فيها قصة ذكورية هذه المرة مع كل هؤلاء النساء، قصة شقيقها رستم الذي هو السبب في حياتها وعدم تعرضها للتعذيب، والذي أُعدم بعد ستة أشهر فقط على اعتقاله. تقول إحداهن: "أتذكر صوت الإعدام، فقد كان يحدث مرتين بالأسبوع. كنت وزوجة شقيقي المعتقلة أيضاً نستمع إلى هذا الصوت خصوصاً أنه تم إبلاغنا أن شقيقي سيعدم". وأضافت: "ليلتها، أحصينا 86 طلقة وعرفنا أن أخي قتلته إحدى هذه الطلقات". 

وكأن الزمن يتوقف في إيران، فثورة 2022 الحالية، هي أيضاً مسكوت عنها

ظل سؤال ناهد معلقاً، مع مغادرة النساء كل منهن إلى منفاها، وبعد فترة تتلقى ناهد اتصالاً من إحداهن تؤكد لها أنها وجدت رفيقاً لشقيقها في المعتقل، فتذهب إليه لتسمع آخر كلمات رستم، إذ أكد هذا الرفيق أن رستم أعدم ليس كبديل لها، بل لانخراطه في المعارضة، وأنه صمد أمام التعذيب رغماً عن عمره الصغير ولم يفش الأسرار، وأن إعدامه كان محتوماً وإن كانت قد سلمت نفسها. وكما البداية، ينتهي الفيلم بصور وثائقية، لكنها عن الثورة الإيرانية التي حدثت في عام 2009، ولم تلق أي انتباه حسب تعبير صوت المخرجة.

وكأن الزمن يتوقف في إيران، فثورة 2022 الحالية، هي أيضاً مسكوت عنها. ومع ازدياد عدد المعتقلين، وبعد مشاهدة هذه الشهادات الحية في الفيلم، من الصعب فصل ما تم سماعه وما أنواع التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون حالياً لأنهم فقط وقفوا في وجه نظام يتلذذ بالقمع وأساليب التعذيب والإعدامات الميدانية لكل من يقول: حرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard