شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
من قصر السلطان إلى مشروب شعبي... كيف أصبح

من قصر السلطان إلى مشروب شعبي... كيف أصبح "أتاي" رمزا للثقافة المغربية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 14 نوفمبر 202204:21 م

يقع الشّاي المغربيّ على البصر "لذيذاً"، من منظره، وهو مزخرفٌ برغوته الكثيفة، وروائح النعناع أو "الفليو" (النعناع الأوروبي) تتطاير مع الدخان المنبعث من داخل كؤوس "البَلّار" أو "العنبر". ترتشف من الكأس حلاوةً خاصّة، تنقلك إلى ثقافة مغربية خالصة، رسمتها الطقوس المحلية في تداول مشروب الشاي.

الالتفاف حول "البَرَّاد" (إبريق) لطالما كان فرصةً لاندلاع فتيل المرويات والنّكات والذكريات الخصبة في الجلسات العائلية ومجامع السمر؛ ولطالما كانت "الصّينيّة" (صحن) حاضرة في الأفراح والأتراح بشكل عام. فما قصة هذا المشروب "السحري" الذي صار أنيسا للمغاربة؟ وكيف ارتمى إلى ثقافتهم حتى أصبح العلامة المعبَّرة على مطبخهم؟

الشاي في المغرب "جذور بَرّاَنِيَّة"

لا تشير أيّ مصادر تاريخية إلى كون الشاي مشروباً مغربياً أصيلاً، بل تجمع أنّ أصول انتشار الشاي في المغرب "برّانيّة" (أجنبية)، تعود إلى القرن التاسع عشر. ولا يختلف الباحثون، بالتبعة، في أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عهد السلطان إسماعيل (1645–1727 م)، حين تلقى أبو النصر إسماعيل "أكياسًا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوربيين للسلطان العلوي". وذلك تمهيدا لإطلاق سراح الأسرى الأوربيين، مما يدل على ندرة "الأتاي" وقتها في البلاد المغربية، وفق ما يقوله عبد الحق المريني في كتابه "الشاي في الأدب المغربي".

هناك حكاية تاريخية أخرى، نجدها عند عبد الكبير الفاسي في كتاب "تذكرة المحسنين بوفيات الأعيان وحوادث السنين". هذه السرديّة مؤداها أنّ الشاي ارتمى إلى الثقافة والتداول المغربيين، عبر بوابة قصر السلطان فعلاً، لكنها تعتبر أنّ هذا الولوج كان لأسباب علاجيّة خالصة؛ بمعنى أن غاياته الأولى كانت للتّطبيب.

هكذا ظلّ الشاي مشروبا نخبويًّا ومَخزنيًّا. بيد أنّ المثير أنّ هذه السردية تقول ببقاء الشاي بين أسوار "دار المخزن" (القصر) لزهاء قرن من الزّمن، قبل أن ينفلت من طابعه المخزني، ويصبح خاضعاً للتداول خارج النطاق السلطاني العتيق.

في كتابهما "من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ"، الذي يعدّ أضخم عمل عن التأريخ للشّاي بالمغرب، يقدم المؤرخان عبد الأحد السبتي وعبد الرحمن الخصاصي، معلومات مدهشة تتعلق بكيف ساهم الشاي في تهدئة الأوضاع السياسية بين السلطة المركزية ورؤساء القبائل الخاضعة لذات السلطة.

من مشروب السلاطين تحول الشاي أو "أتاي" إلى رمز للمطبخ المغربي له طقوسه الخاصة  في التحضير والاحتساء. ما هي قصة المشروع الشعبي الأول في المغرب؟

يشير الباحثان إلى أنه في القرن التاسع عشر، قام السلطان الحسن الأول بتقديم الشاي والسكر والأواني الفضية كهدايا وهبات لرؤساء وزعماء القبائل الذين يرفضون الخضوع لسلطته أو يترددون في إعلان ولائهم. بيد أنّ المثير أن الكاتبين يوضحان كيف كانت سياسة الإغراء هذه عن طريق الشاي ولوازمه ناجعة وفعالة، لأنّ السلطان بسط نفوذه، عمليًّاً، على هذه القبائل دون حروب، وإنما اتكاءً على شاعريّة ذوق الشاي... فقط!

من زاوية أخرى، يشير عبد الحق المريني في كتابه "الشاي في الأدب المغربي" أنّ الشاي دخل إلى المغرب على يد التجار الإنجليز من جبل طارق، "ومنه انتشر في المناطق الصحراوية والسودان الغربي ووصل إلى تمبكتو".

هذا، في وقت تذهب فيه مصادر أخرى إلى أنّ الشّاي ولوازمه كان مجرد هدايا يستعملها السفراء الأوروبيون للتودّد للحاكم بالمغرب. لكن، في أواخر القرن الثامن العشر أصبح "أتاي" عادةً عند كبار التجار وزعماء القبائل وأثرياء البلد.

من الشّاي إلى أتاي...

تخلص "أتاي"، كما أصبح متعارفاً عليه في المغرب من محدودية تداوله إبان ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، وسيصبح متداولاً بين عامّة النّاس. غير أنه في بداية القرن العشرين احتلّ "مكانة متميّزة في وسط الأسرة المغربية، وأصبحت له طقوس وعادات، وظهرت في وسط الصنّاع حرفة جديدة أبدع أصحابها في صنع أدوات تحضير الشاي من صينيّة وبرّاد وإبريق وبابور (موقد). والتصق الشاي بحياة الشعب المغربي، وفرضت "جلساته" حضورها الدائم في وسط مختلف طبقاته. وقد تغنى بهذه الجلسات الشعراء والناظمون والزجالون"، وفق ما يبيّنه عبد الحق المريني في كتابه "الشاي في الأدب المغربي".

من ناحية أخرى، يرى هشام الأحرش، الباحث في المطبخ المغربي أنّ خروج "أتاي" إلى المجال العام تم في ارتباطه بتقاليده الجنينية بالنّطاق السّلطانيّ، أي أن خروج الشاي حافظ على شيء من الطقوس المخزنية في إعداده، نظراً لأن الذين حضروا لجلسات الشّاي في البلاط السلطاني تقرّبوا من الطريقة "المغربية" في صناعته. وهي طريقة لصيقة بدار المخزن وعادات إعداد الطعام وإعداد المائدة في هذا الفضاء "الغامض". نحن نتحدّث عن فضاء يحفظ هيبة الجالس وهيبة المدعُو، وشاعريّة المجال الذي تتم الدّعوة إليه، أي القصر السلطاني. ومن هنا، ربما، ارتبط الشاي بالكرم والنّخوة والعزة، لأنه في الأصل كان حكراً على مكان يحضر فيه الثّراء والبذخ.

اكتسى رداءً سوسيوثقافيا عند المغاربة. ولهذا أبدع هؤلاء في إضافة أشياء لم تكن من قبل، كإضافة أعشاب مثل النعناع وفليو والشيبة، نظراً لكون المغرب بلد فلاحي بالأساس

يضيفُ الأحرش في تصريح لرصيف22 أنّ الشاي لم يعد مشروباً غذائياً، بل اكتسى رداءً سوسيوثقافيا عند المغاربة. ولهذا أبدع هؤلاء في إضافة أشياء لم تكن من قبل، كإضافة أعشاب مثل النعناع وفليو والشيبة، نظراً لكون المغرب بلد فلاحي بالأساس. لقد ارتبط "أتاي" بحفلات إكرام الضيوف بالإطعام، وفي ثقافتنا نقول "تشاركنا الملح والطعام". والآن كل من دلفت بيته بالمغرب يقدّم لك أتاي.

وفق الباحث في المطبخ المغربي فإن الشاي يعكسُ التماسك، ولأن المغاربة شعبٌ يحبّ الشاي، ففي كل مناسبة يأخذ الزائر معه قوالب من السكر. يحدث ذلك في الجنازة والضيافة والعرس ومختلف أشكال الترح والفرح. يصبح السّكر علامة على التآخي والتلاحم؛ ولو ركزنا قليلاً ندرك أن السّكر يعتمد بشكل كبير، عند المغاربة، في إعداد أتاي بالضّرورة. وأكثر من هذا، فحين تحتاجُ عائلة ما قليلاً من السكر أو النعناع أو أي شيء آخر مرتبط بالشاي، فقد تلجأ بشكل طبيعي لمنازل الجيران، لهذا لا يمكن إنكار دور الأتاي المغربي في خلق الترابط والألفة.

خلق المغاربة طرقاً حصريّة لاستهلاك الشاي، كربطه بالخُبز الحافي، وكثير من أشكال الحلويات المغربية مثل كعب غزال والفَقَّاصْ والغْرِيْبَة. ولهذا اهتم المغاربة بالشاي أكثر من القهوة، لأن القهوة مُرّة وليست حلوة مثل الشّاي. والقهوة لا يمكن أن ترافقها بالطعام، أو ربما لم يتم تداول مزاوجة القهوة بالطعام كما ألفنا الشاي في ثقافتنا. انتشر الشاي حتى بات "أتاي المغربي" مشروباً عالميّا اليوم، يلعب دوراً هامّا في الدبلوماسيّة الثّقافية للبلد، وفي التّسويق للبلد، وفي تدويل المطبخ المغربي.

أنثروبولوجيا أتاي...

يعتبر مختار بوبا، أستاذ الدراسات الثقافية في جامعة دارتموث الأمريكية، أنّ قراءة الشاي المغربي وطقوسه أنثروبولوجيًّا تتيح لنا استنطاق ثلاثة دوائر أساسية. تكون الصينية، بهذا المعنى، هي الدّائرة الأولى؛ فهي مركز العمل والإنتاج. توضع الكؤوس بشكل دائري ويوضع البراد في الوسط. الكؤوس من عيار "العنبة"، "حياتي"، "الواخ"، و"البلار"، تبقى رهينة بالمناسبات والطّقوس الخاصّة جدّاً. وفي خضمّ هذه العملية يخصص كأس للتَّقْلاب (قلب الشاي في الكأس وإعادته إلى الإبريق)، إذ يتم تعبئة الكأس ثم صبه في البرّاد عدّة مرات. المراد من هذه العملية تهوية الأتاي وتكوين "رغوة" بيضاء تسمى "الرَّزَّة" عند المغاربة. وهذا الكأس لا يشرب منه أحد، وينعت بـ"لْمقْدم" في منطقة وادي درعة.

دخول الشاي إلى المغرب كان في عهد السلطان إسماعيل   حين تلقى أبو النصر إسماعيل أكياسًا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوربيين للسلطان العلوي

في تخوم الصحراء لا يوجد مقدم، فهذا الأخير خاص بصينية وادي درعة وجبال الأطلس. أمّا عن أنواع البراريد عند المغاربة، فهي بدورها متعددة ومتنوعة؛ فثمة براد "تاسميمت"، المصنوع من معدن رفيع، لكنه رهيف وسهل الذوبان إذا نُسيَ/تُرك لمدة طويلة فوق المجمر. كما أنّ هناك براد معدني متوسط القيمة، ثم توجد أباريق السّفر. الأخيرة يستعملها الرُّحَّل عادة، وهي ذات ألوان متعدّدة. بالأمازيغيّة تسمى تابريقت أو تالكناشت. وهي أباريق صلبة وتتحمل السّفر والترحال ولا تحتاج إلى عناية فائقة.

بخصوص الدائرة الثانية، التي يفصّل فيها بوبا في حديثه لرصيف22، فهي ما يسمّى بـ"الورشة" أو "مركز العمل"، وتعتبر هذه الدائرة "مركز القيادة لطقس الشاي، يديرها "مول الصينية" أو "مولات الصينية"، وهي قيمة اعتبارية تقدّم، مبدئياً، لمن يُعرف بإتقانه للشاي وتفاصيله. المسار  أهمّ، هنا، من المنتوج النّهائي، رغم أنّ هذا الأخير في النّهاية قمّة وقامة الطقس.

للوصول إلى مستوى "مول الصينية "مول أتاي" أو "التّيّاي"، أي الشخص الذي يعد الشاي، يقول الباحث الأنثروبولوجي إن المتعلم يمضي سنوات عديدة وهو (أو هي) يلاحظ ويتعلم أسرار الطقس ويحفظ خباياه ودقائقه. عليه أن يكون عارفا بنوع الشاي وجودته، وبـ"الورگة" (الورقة)، أي حبوب أتاي، وطريقة استجابتها؛ وكذلك أنواع المياه ودرجة الغليان المناسبة للتحضير. يلاحظ المتعلّم كذلك الحركات والسكنات التي يقوم بها مول الصينية، وكيف يحسب وقت الطقس ومراحل المسار. إضافة إلى نوع الجمر وحرارة المجمر أو "البوطكاز" (موقد الغاز) الآن، وكيف ومتى يقرر المعلم أن البراد "طَلَعَ" وهل تكفي "طَلْعَة" واحدة لفتح "الورگة" وضمان طعم جيّد ومذاق مناسب.

ما يسمّى بـ"الورشة" هو مركز القيادة لطقس الشاي، يديرها "مول الصينية" أو "مولات الصينية"، وهي قيمة اعتبارية تقدّم، مبدئياً، لمن يُعرف بإتقانه للشاي وتفاصيله

بعد طلوع البرّاد يضاف السكَّر ويترك البراد لمدة معينة كي يذوب السكر وتنفتح أوراق الشاي أكثر، في وادي درعة تسمى هذه العملية بـ"الحج" (خليه يحج) حتى تضمن أن الشاي ستكون له زرة أو رغوة بيضاء، مثل الحجاج عند عودتهم يلبسون عمائم بيضاء. والرزة هي رمز وعنوان الصفاء والسلام والنخوة والكبرياء. فهي عند الطوارق تاج، وعند المتصوفة قناع تواضع وثبات.

أما الدائرة الثالثة، فهي الحضور، أي اللمّة أو الجلسة، والتي تحتوي، وفق مختار بوبا، على حيز أكبر في هذا الفضاء الطقوسي. في هذه الدائرة تُمنحُ خصوصية جماعية تزيد من عمق المكان وتحدّد حركاته وتحافظ عليها طيلة مدّة الطّقس.

يرى بوبا أنّ دائرة الحضور أو الجماعة، يفترض فيهم أن يراعوا شروط الطقس، وأن يلتزموا بالجلوس طيلة مدة إنتاج "أتاي"، ثلاثة كؤوس بمعدل ثلاث دوائر شاي، تنتهي كل منها بمنح كل شخص كأسه. "مول الصينية" هو الذي يدير هذا الطقس، ويحدد مدته، بينما يحدد الحضور عمقه ومضمونه اعتماداً على تقاليد ذات رموز مبثوثة في كل لحظة من لحظات احتساء الشاي، ورسومه وحركاته. ولتحقيق هذا الحضور، يلتزم كل فرد بالمساهمة الإيجابية عن طريق الكلام أو الاستماع مع مراعاة شروطهما، التي يصونها الطقس نفسه ويثبتها، ويمنع عليه كلياً أن يغفو حتى انتهاء الطقس.

في الصحراء، يضيف مختار بوبا، أنّ الشّاي يبقى طقساً وموضوعاً في الوقت ذاته، فيكون الكلام حول الشاي أحياناً بوصف مراحل تحضيره وجودة حبوب الشاي ومتعة ارتشافه. فهي متعة لا تنتهي عند الشّرب، بل تبدأ منه في شكل يتكرّر ويقام جماعة. فلا يمكن إقامة هذا الطقس بشكل فردي. ومن شروط الطقس في كل الثقافات الجماعة. وحديث الشاي ليس كغيره، إذ يختلف عن حديث الاجتماع أو السوق أو أي مكان آخر، ذلك أنّ عمق الفضاء وهوية المكان تملي على المشاركين في الطقس التركيز والحضور الواعي والإيجابي لإنجاح مراحل الصيرورة الطقوسية والارتقاء باللّمّة إلى مستوى "لوناسة" (المؤانسة).

يراهن الحضور على الاستمتاع بلذة الشاي ولذة الكلمات التي تقال خلال فترة تحضيره. يصرّ "المجمع" في الصحراء على الإطراء على مول أو مولات أتاي بعد كل كأس "والله يلا تيّتي" (تّيي هو الفعل الصادر عن التهييئ وكل تفاصيله). ومن آثار الكأس الجيد أنه يحقق سعادة لا توصف لشاربه. "كيقاد لمجاج" (يعدّل المزاج)، أي أنّ أتاي يتحكم في المسافة بين العقل والفؤاد... إنه يُصلح الخاطر!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image