"بُوحْمَارَة" تعني أبو الأتان. قد يبدو الاسم غريباً، إذ لا يعقل لمن يُكنّى به إلا أن يكون منبوذاً، أو مثار سخرية من طرف العامّة. لكن الرجل لُقّب به بعد هزيمته، هو الذي سيطر على أجزاء واسعة من المغرب مدّعياً أنه الأمير العلوي محمّد "الأعور"... وكاد أن يُسقط حكم السلاطين العلويين في بدايات القرن العشرين بعد معارك دامت نحو عقد من الزمن.
ابن البلاط العاق
تحفظ المناهج الدراسية للتاريخ من الرجل صورته وهو موضوع في قفص، ويوصف بأشنع الأوصاف. لكنّه كان أكثر من هذا التاريخ الرسمي. كان موظفاً كبيراً في الدولة، قبل أن يزعم أنه ابن السلطان "الأحقّ" بخلافته، ليثور على الملوك العلويين.
صورة "بوحمارة" في قفص بعد هزيمته
اسمه الجيلاني أو الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني. ولد في جبل زرهون في ضواحي مدينة فاس، واختُلف على تاريخ ميلاده بين من قدّره سنة 1865 أو سنة 1868.
اختارت أسرته نقله وهو طفل إلى مدينة فاس، لإتمام دراسته، وفيها تلقّى تربية راقية. فكان أحد الطلبة المهندسين الذين أوكل سلطان المغرب حينها مولاي الحسن مهمة تدريبه إلى أحد ضبّاط البعثة الفرنسية العسكرية في المغرب، ضمن مجهودات السلطان لتحديث الدولة.
وإلى جانب تكوينه العصري، تلقّى تعليماً تقليدياً شمل العلوم الشرعية، وعلوم التنجيم والتوقيت والحساب، وهي معارف ساهمت في تكوين شخصيته المتوقّدة الذكاء.
كاد الروكي بوحمارة أن يسقط حكم الملوك العلويين في المغرب بداية القرن العشرين. فمن هو المتمرد الذي زعم أنه أمير منبوذ؟
يقول الكاتب إبراهيم كريدية، في كتابه "ثورة بوحمارة"، إنه عمل كاتباً خاصاً لعبد الكريم بن محمد الشركي، خليفة السلطان المقيم في فاس. لكن كتّاب سيرته المغاربة يقولون إنه لم يكن نزيهاً في عمله، وزوّر خاتَم السلطان، فأودِع بسبب فعلته السجن لمدة عامين.
العمل في بلاط خليفة السلطان ساعد "بوحمارة" على الاطلاع بشكل عميق على شؤون تسيير القصور الملكية، وخبايا البلاط، وقصص الأمراء والضبّاط وكل المقربين منهم، والطقوس المخزنية وأسرارها. وأن يدرك سخط الأميرين مولاي عمر، ومولاي محمد من تولية أخيهما الأصغر مولاي عبد العزيز حكم المغرب بدلاً منهما، خاصةً في ظل الوضعية الصعبة التي اجتازها البلد حينها، وكانت كل من فرنسا وإسبانيا وقوى استعماريّة أخرى تنظر إلى المملكة "كرجل مريض" آخر في الغرب الإسلامي.
الرّياح مؤاتية للمغامرة
وحسب كريدية، فإنه بعد مغادرته السجن، ووفاة الوزير القوّي "باحماد" سنة 1900، والذي كان الوصيّ على السلطان الفتى مولاي عبد العزيز بعد وفاة والده المولى الحسن، دخل المغرب في قلاقل وسخط عارم على السلطان من الرعيّة الذين أبدوا غضباً كبيراً من سلوكه الشخصي، وسياسته الإصلاحية. طال التصدع البلاط الملكي بعد وفاة الوزير "باحماد" لتبدأ الأطماع من كل جانب. في الخارج تفاوضت القوى الاستعمارية على اقتسام "الكعكة"، أما في الداخل فقد ظهرت تمرّدات لقبائل وشخصيات كانوا يوصفون بـ"الروكي".
عاش المغرب في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين العديد من التمرّدات، لكن "بوحمارة" كاد أن يؤسس دولة جديدة بعد أن ادعى أنه أمير من السلاطين العلويين
يسرد مؤلف "ثورة بوحمارة"، أنه بعد مغادرته أسوار السجن سعى إلى الاستفادة من علاقاته الخاصة للحصول على منصب رفيع، فبادر للاتصال بصديقه المهدي المنبّهي الذي كان وزيراً، طمعاً في أن يجود عليه بوظيفة تكسبه حظوة ونفوذاً، لكنه لم يلاقِ قبولاً حسناً منه، فعزم يومها على تحقيق حلمه بأن يصبح أميراً وسلطاناً.
عن طريق الاستعانة بأصدقائه المقربين، اختار "بوحمارة" أن يجول شرق المغرب راكباً أتاناً صهباءَ، كانت سبب كنيته التي اشتهر بها، في صفة ناسك متعبّد يدعو إلى الله، وهو يضمر في نفسه أن يجد مرتعاً وتحالفات صالحة لإعلان تمرّده على السلطان.
دخل "بوحمارة" التراب الجزائري، وزار العديد من المدن في الجزائر، والتقى شيوخ الصوفية الدرقاويّة التي كان لها عدد من المريدين في المغرب، وأطلعهم حينها على نواياه، فوجدوا فيه ضالّتهم، ووعدوه بالمال والسلاح والخطط، وخصوصاً من شيوخ زاوية مستغانم التي ذكر المؤرخ السابق للمملكة المغربية عبد الهادي ابن منصور، في كتابه "تعقيبات حول السياسة الاستعمارية بشمال إفريقيا"، أنها كانت أكبر مراكز الاستخبارات الفرنسية المجنّدة لتقصّي الأحوال في المغرب، تمهيداً لاستعماره وغزوه من السلطات الفرنسية، وضمه إلى أراضيها الموسعة في شمال إفريقيا.
الجيلالي الزرهوني الملقب بـ"بوحمارة"
سنة 1901، عاد "بوحمارة" إلى الأراضي المغربية مدّعياً أنه صوفيّ، وتردد حينها على قبائل أنكاد وغيرها حتى مدينة طنجة على أتانه، وهو يدعو إلى المعروف، وينهى عن المنكر، ويستغلّ في كل مرة الفرصة ليهاجم البلاط وسياسة السلطان متهماً إياه بالخضوع للمستعمر الفرنسي، مصوّراً المولى عبد العزيز وأتباعه في صورة المرتدّين والمارقين، الذين يسخِّرُون الجيش المغربي "لخدمة الكفار وغير المسلمين"، بما أن قائده حينها كان فرنسياً.
اختار "بوحمارة" بذكاء استغلال الجانب الديني في دعوته، هو الذي أجاد فن الخطابة والإلقاء، لتأليب الناس على السلطان، وقد وجد لدى عامتهم آذاناً مصغية بالنظر إلى بغضهم وكرههم للمولى عبد العزيز، ورجال دولته. وركّز جولاته على الشمال الشرقي فقط ليقيس مدى قوة دعوته.
وانتقل في الخطوة الثانية إلى مدينة فاس رغبةً منه في استسقاء أخبار السلطان، عند معارفه من العاملين في دار المخزن والبلاط. ولما لمس منهم سخط الناس عليه، نقل دعوته إلى المناطق المحيطة بالمدينة، ليزيد من مؤيديه في مناطق بعيدة عن شرق المملكة.
البلاط المتنقِّل للأمير "المدَّعِي"
ادّعى "بوحمارة"، وهو يجول مناطق غَيَّاثَة وتَسُول والبَرَانس، أنه الأمير محمد نجل السلطان مولاي الحسن، الذي كان حينها مسجوناً بسبب رفضه لتولي أخيه الأصغر الحكم.
قلّة كانوا يعلمون بسجن الأمير، وهي المعلومة التي أفادت كثيراً المتمرّد الذي كان يملك أيضاً "خاتما أميرياً" أعطاه مصداقية أكبر ليخبر من يلتقيهم أنه يستتر باسم غير اسمه الحقيقي، خوفاً من شقيقه المولى عبد العزيز الذي استولى على مُلْكِه.
ألّب "بوحمارة"، وكان في بداية الأربعينيات من العمر، فئة كبيرة من عامة الناس الذين التقاهم في موسم الوليّ الصالح أبي عبد الله محمد بن الحسن الجاناتي، فبايعوه على نصرته والقتال في صفّه "لاسترداد حكمه المسلوب منه"، حسب زعمه، ووثّقوا مبايعتهم له بعهود حتى لا يتخلوا عن نصرته.
زاد عدد مناصري "بوحمارة" بانضمام قبائل أخرى أبرزها صنهاجة ومكناسة وبني ورياغل في منطقة الرّيف، الذين صدّقوا مزاعمه ورغبته في الإطاحة بالسلطان، ومحاربة المستعمر "الكافر"، آملين أن يصدّ عنهم تحرشات الإسبان الذين كانوا يمهّدون للاستيلاء على المنطقة.
وفي عام 1902 انطلق تمرّد "بوحمارة" الذي سيدخل التاريخ، فدخل مدينة تازة، التي أقام فيها يومين متبجّحاً بالقبائل المناصرة له. وبعد أن فاوض أهلُها، سلّموه المدينة خوفاً من بطشه بعدما يئسوا من وصول النجدة العسكرية من فاس. فاستولى على المدينة واتخذها عاصمة لملكه، وصار يخاطَب بـ"سيدنا"، وأمَرَ بالدعاء له باسم مولاي محمد بن مولاي الحسن، وأقام الحدود عن باقي ربوع المملكة المغربية.
ولأن المغرب كان يشهد حينها مجموعة من التمرّدات على الحكم المركزي في فاس، فإن البلاط لم يعِر اهتماماً لرسالة بعثها العامل حاكم مدينة تازة حينها عبد السلام الزمراني الذي دعا دار المخزن للتدخل الفوري، وإخماد تمرّد "بوحمارة" قبل أن يشتد عوده، لكن طلبه قوبل بالرفض، ظنّاً من السلطان وحاشيته أن مآلها سيكون كمآل باقي الثورات التي قامت، ولم تعمّر طويلاً.
أدّى تراخي دار المخزن والبلاط في التصدي لثورة "بوحمارة" من جهة، وقدرة الرجل على الإقناع والتفاوض من جهة أخرى، إلى زيادة نفوذه مستغلاً دعم حلفائه الخارجيين ليدخل بعدها في مجموعة من الحروب مع الجيش المغربي بين كرّ وفر. وكانت أولى معاركه انتصارات زادت من هالته في المنطقة الشرقية. إذ استمرّت ثورته طوال سبع سنوات ما بين 1902 و1909، ألحق خلالها هزائم بقادة كبار في الدولة منهم مولاي عبد السلام الأمراني، ابن عم السلطان الذي قاد جيشه إلى منطقة جبالة سعياً لإخماد تمرد الجيلاني بن عبد السلام، في "معركة وادي اللبن" سنة 1902 في كانون الأول/ ديسمبر، والأمير عبد الكبير شقيق السلطان الذي هُزم بمعيّة جيشه الضخم ليغنم "الروكي بوحمارة" السلاح والعتاد، ويزداد قوة.
واستغلّ في ذلك معرفة القبائل المناصرة له بأرض المعركة، ما نتج عنه عزل جيش السلطان وهزيمته.
بعد نجاحه في إقامة "مملكته" العابرة، التي صمدت لسبع سنوات، أقام "بوحمارة" عواصمه بمدن عدة كانت الأولى مدينة تازة، قبل أن ينقل مقر إقامته إلى مدينة وجدة، ومنها إلى مدينة سلوان.
طوال فترة تنقلاته، كان لـ"بوحمارة" مخزنه الخاص على غرار المخزن الشرعي في مدينة فاس، والذي تبنّى طقوس "الحَضْرَة السُّلطانية"، وكان له وزراء ومستشارون، مع إحداثه ديواناً للإنشاء، و"مِشْوَراً" لتنظيم أنشطته. كما اقتدى بباقي الملوك، وأحدث لنفسه طابعه الخاص الذي يختم به الظهائر التي يصدرها، أو الرسائل التي يصوغها.
نهاية "متمرّد براغماتي"
لكن ما أضعف "الروكي بوحمارة" هو "واقعيته" بالنسبة للبعض و"انتهازيته" بالنسبة للبعض الآخر في التعامل مع المستعمر الأجنبي الذي كان يحاول التوغل في المغرب. إذ عقد اتفاقيات تجارية مع كل من فرنسا وإسبانيا اللّتين كانتا تطمعان في تفكك الدولة المركزية، لاستعمار البلاد. كما أبرم مع الإسبان اتفاقيات لاستغلال مناجم مغربية مقابل رسوم ضريبية.
وحين تناهى إلى مسامع الناس خبر تعاونه مع السلطات الفرنسية والإسبانية، بعد أن دعمت القبائل "ثورته" لتأكيده على أنه يحارب السلطان المناصر للدول "الكافرة"، واستغلاله وازع الدين لإقناع أتباعه بدعمه وتأييده، انفضّ من حوله الكثير من "شيعته"، الذين انقلبوا ضده، وحاربوه بشدة وبينهم قبائل اقليعة، بزعامة الشريف سيدي محمد امزيان، وقبيلة بني ورياغل، التي تزعّمها عبد الكبير الخطابي الذي دبّر خطة حربية للإيقاع بالثائر، بعدما فتح الطريق في وجهه حتى توغّل في أرض بني ورياغل، وكبَّده شر هزيمة في معركة بوسلامة التي فرّ منها تاركاً جميع ذخائره والأسلحة والمؤن.
يروى أنه ُرمِي للأسود لتنهش لحمه، فيما تقول الرواية الرسمية أنه أعدم رميا بالرصاص. الروكي بوحمارة ادعى الإمارة والورع ليضمن تحالف قبليا واسعا شرق المغرب هدّد السلاطين في فاس
سار بعدها "بوحمارة" إلى فاس، وبدأ بالزحف على مدينة تازة في سنة 1908، ودعا مناصريه بين القبائل إلى مناصرته لإسقاط فاس، والإطاحة بمولاي عبد الحفيظ، مدّعياً دوماً أنه الأمير محمد، وأنه الأحق بالمُلك.
اشتعلت نار الفتنة في المناطق المجاورة لمدينة تازة بعد دعوة "بوحمارة"، ما دفع السلطان مولاي عبد الحفيظ الذي فطن إلى خطر دعوته على "العرش"، إلى حشد جيش لإنهاء تمرّده، والإيقاع به، وأسند قيادته لكبار ضبّاطه كمحجوب بن قاسم، وسعيد بن البغدادي، ومبارك بوخبزة، والقائد صالح الزمراني.
السلطان العلوي مولاي عبد الحفيظ
تطلّب النصر معارك عديدة أهمها معركة في ديار بني ورياغل، نتج عنها فوز جيش السلطان وملاحقة "بوحمارة" الثائر الذي فرّ وحيداً مع زوجاته وجواريه، إلى أن لحقته سريّة واعتقلته في منطقة تدعى مشهد بوعمارة في ديار قبيلة بني مسارة في جبالة.
ويحكي القائد الزمراني، الذي يروى أنه كان أول من ألقى القبض على الثائر في خريف 1909، أنه بعد محاصرته أطلق النار من مسدسه، وقتل أحد الجنود ما دفعهم إلى أن يلتفّوا حوله، ويضرموا النار حول مخبئه الذي فر منه هارباً قبل أن يجرَّد من الأسلحة التي كانت في حوزته.
أُسِرَ "بوحمارة" واقتيد على ظهر بغلة، وما إن وصل خبر اعتقاله إلى فاس، أمَر السلطان بإرسال جَمَلٍ عليه قفص يوضع داخله الثائر مقيّداً بالأغلال، وسلّموا قيادة الجمل الذي دخل فاس للقائد الزمراني، ليعلم الناس من اعتقله.
تجمهرت حشود كبيرة وهي ترمق "الرجل الأسطورة" معتقلاً، وخرج الناس من كل حدب وصوب إلى أن وصل الجمل الذي حمله إلى دار المخزن، وألقي به بين يدي السلطان.
أمر السلطان بوضعه في إحدى ساحات مدينة فاس، ويقول المؤرخ ابن زيدان السلجماسي أنه كان "وقحاً" في تصرّفه مع السلطان، قبل أن يضيف: "بُنِيَت له دكة في مشوَر باب البوجات، ووضع عليه قفصه، وشُهِرَ أياماً حتى رآه الحاضر والبادي، وأقيمت عليه الفرجات والأفراح في سائر البلاد".
تتضارب الروايات وقد راجت خصوصا في الصحافة الفرنسية حينها, حول إعدام "بوحمارة"، إلى درجة أن بعضها يقول إنه رُمي للأسود داخل القصر لتنهش لحمه وأنه تم تعذيب رجاله وبتر أعضائهم من خلاف على شاكلة حدّ "الحرابة". لكن الرواية السائدة تقول إنه أعدِم رمياً بالرصاص قبل أن تُحرق جثته، هو الذي كان يحلم بأن يصبح سيّد البلاط، وحاكم البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين