شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عمري ثلاثون عاماً من المشاجرات العائلية العنيفة

عمري ثلاثون عاماً من المشاجرات العائلية العنيفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 18 نوفمبر 202202:50 م

كيف جئتُ؟ من هو الله؟ من أين يرانا؟ كيف لا نراه؟ ماذا يعني؟ وغيرها من الأسئلة التي تشبه بحراً سبحت فيه مبكراً، كأي طفلة سألت أسرتها، لم أجد سوى الصمت، أو صوت تلفاز يرتفع فجأة، أو تغيير سريع للكلام. وذلك للهروب إلى موضوع آخر حتى ينصرف ذهني عن تلك الأسئلة، لكنها لم تغادر رأسي، بل زاد طنينها كذبابة تائهة في سماء هلامية. وزاد عليها إحساس إنني غير مرئية، لا أحد يراني في البيت وإلا كانوا اهتموا بأسئلتي. شعور معقد فلا أعلم إن كان وجودي مرغوباً فيه. أشعر بأنني مزعجة وسخيفة وأن لا أحد يحبني بالتأكيد. 

الذاكرة صندوق سحري، مختبئ في ركن بعيد في الدماغ، إن اقتربت منه فستجد ذكريات مرت عليها عقود، أما إن حاولت تذكر الأمس فلن تستطيع.
أتذكر هذا اليوم جيداً عندما كنت في العاشرة من عمري، ذهبتُ مع أمي لزيارة جدتي، لكن باختلاف التفاصيل، أحضرت أمي حقيبة كبيرة جمعت فيها كل ملابسي ولعبي. كانت ملامحها متجهمة. في الطريق، حامت الأسئلة برأسي وامتنعتُ عن سؤالها، فلن أجد رداً كالعادة. في بيت جدتي، وبعد العناق والقبلات والأحاديث الجانبية، دخلتُ الغرفة لألعب بإحدى الدمى. عندما خرجت، لم أجد أمي. عرفتُ من جدتي أن هناك ظروفاً تعوق وجودي في البيت. لم يهمني أي شيء سوى سؤال ظل عالقاً برأسي طوال سنوات عمري: لماذا تركتني أمي؟

كيف جئتُ؟ من هو الله؟ من أين يرانا؟ كيف لا نراه؟ ماذا يعني؟ وغيرها من الأسئلة التي تشبه بحراً سبحت فيه مبكراً، كأي طفلة سألت أسرتها، لم أجد سوى الصمت، أو صوت تلفاز يرتفع فجأة

سؤال بلا معنى

أحب جدتي وأعتبرها أمي الثانية منذ الصغر. كانت مصدري الأول لحب عالم الحكايات. غرزت في قلبي العالم الحالم بفطرته ونقائه. ظلت تطعمني بيديها حتى بعدما كبرت وأصبحت في الثانوية. لم تمل من تدليلي ولا الثرثرة معي بشكل دائم، كنت صديقتها المقربة ولست فقط حفيدتها. تحكي لي عن جاراتها وسكان الشارع وتاريخ العمارة والبيوت المجاورة، عن قصة حبها لجدي، وعن سفره لليمن، وكتابته رسائل الغرام لها من قلب الحرب، عن صداقته لأخيها، وتعرفه عليها في إحدى الزيارات، عن خطبتهما بعد ذلك رغم أنها تكبره بسنوات قليلة مع وجود فوارق تعليمية واجتماعية بينهما. ورغم ذلك، انتصر الحب الذي لا يعرف سوى الأرواح. "روحي حبت روحه". 
هكذا ببساطة يا جدتي؟ 
"نعم. كنا بتلك البساطة".
ورغم التعلق بجدتي حتى رحيلها عن الدنيا، ظل سؤال "لماذا تركتني أمي؟"، يحوم في دماغي، حتى بعدما عرفت السبب ظل يأتيني بلا معنى. تشكلت بداخلي مجموعة من المشاعر المختلطة بين عدم استحقاق الحب وعدم الأمان والخوف الكبير من التعلق ثانية. في كل زيارة لها، تعلقت بثيابها لتأخذني معها. لكن، الظروف لم تنته بعد. هكذا كانت تردد.

رغم التعلق بجدتي حتى رحيلها عن الدنيا، ظل سؤال "لماذا تركتني أمي؟"، يحوم في دماغي

"أنا سأصبر، سأتحمل، لن أفعل أي مشاكل، سأكون مؤدبة جداً لكن لا تتركيني". كنت أقول لها، ولكن لا فائدة. عندما انتهت الظروف، وجاءت لتأخذني، رفضت الذهاب معها. فقد تحولت جدتي إلى مصدر أمومة ثانٍ أستمد منه ما أفتقده بلا شروط، فلمَ أتركها؟

بيوت مبنية من رفض الآخر

عمري ثلاثون عاماً من المشاجرات العائلية العنيفة، والتي وَلَّدت لديّ أزمات نفسية لا تنتهي. دخلتُ بيوتاً كثيرة لا تعرف معنى قبول الآخر، بل تقاوم صفاته، وتحاول تغييرها، تقنع الصفر على الشمال أن له دوراً ولا بد أن يتحول إلى صفر على اليمين، فتكون النتيجة مقاومة هذا الصفر للتغيير هو الآخر، فيظل يهوى التهميش، وتبقى حياته عبارة عن سلسلة لا نهائية من السلبية والعدمية.

سلسلة من العقد النفسية قيدت رقبتي، وقلبت كل الأدوار في حياتي. جعلتني أرى الناس من منطلق احتياجات غير مشبعة، ومن ثم تلتبس عليّ كل العلاقات. أجذب الشخصيات السامة وأضطر لقبولها، متعلقة بهم، وغير قادرة على التخلي عنهم، وبعد سنوات من العذاب النفسي، أضحيتُ كائنَاً ليس بحي حتى قررت التمرد على المُتبقي مني، والتفكير في طرق للنجاة، أولها كان الاعتراف بالأخطاء لإصلاحها. رحلة طويلة قطعتها حتى اكتمل الوعي بما حدث، وفهمتُ نفسي وأسباب قراراتي، ولا زلتُ أتعلم كل يوم.

ينظرون جميعاً نحوي. أشعر بالارتباك والتوتر. يرتفع الأدرنالين في دماغي، فيركضون نحوي. أهرول لأختبئ منهم، حتى تظهر يد خفية، من وراء ستار مجهول، تتحسس عضوي فجأة

رغبة في الاختباء من أيادي العالم

كلما أغمض عيني أرى حشوداً من الناس في مكان غير معلوم بالنسبة لي. ينقبض قلبي، وتتسارع نبضاته. ينظرون جميعاً نحوي. أشعر بالارتباك والتوتر. يرتفع الأدرنالين في دماغي، فيركضون نحوي. أهرول لأختبئ منهم، حتى تظهر يد خفية، من وراء ستار مجهول، تتحسس عضوي فجأة. أحاول الصراخ، لكن هناك غصة تعوق خروج صوتي. تستمر اليد في المسح على جسدي، والضغط عليه بقسوة. بالكاد أتملص منها، لأهرب إلى مكان آخر، فتباغتني يد أخرى، وتكرر فعلة الأولى. أظل أتنقل من يد لأخرى في أماكن مختلفة. الشارع، سيارة الأجرة، الجامعة، العمل، وكلما أهم بالكلام يخرج الصوت من فمي فراغاً. يضيع مع ذرات الهواء، يتلاشى وكلي معه. يأتيني جسدي في الحلم، كطفلٍ وقع عليه ماء مغلي، بينما تتأرجح مشاعري بين الخزي والشفقة والرغبة في إخفائه عن العيون، ليبقى مختبئاً عن كل أيادي العالم.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard