أستيقظ للشروع في روتيني الصباحي: أحضّر أطباق الفطور، وأنسى الخبز، ثم أنطلق لجلبه من مطبخنا، ولا أجده، فأسارع إلى شرائه من "السوبر ماركت" الكبير الذي لا يبعد عنا كثيراً، ولكني لا أجد على رفوفه، لا خبزاً، ولا "سمون"
(الخبز الفرنسي). أبحث في البقالات الأخرى دون فائدة. يقول لي العجوز الذي شاهدني منزعجاً من عدم وجود الخبز: هينة.
ألا يوجد خبز لنفطر؟
الخبز مقطوع. الطحين والبنزين مقطوعان، على آخر هالزمن!
أفف... ماذا نفعل؟
في فرنسا، أو بريطانيا، لم أعد أذكر بالتحديد، نفد الخبز، فقام الشعب على السلطة، وأطاح بها
أممم...
يسمونه "العيش" في مصر.
وهذه ليست "عيشةً".
معلوم يا بني.
عدت إلى المنزل، وأنا أفكر في كلامه عن الشعب الذي أطاح بسلطته، بينما أعيد فطوري الشهي إلى ثلاجتي المقطوعة من التيار الكهربائي. أفكر في كيفية صمودنا في وجه مستنقع البؤس الذي نعيشه، وكيفية عدم غرقنا وطفوّنا على السطح دائماً. لم يسعني إلا تسخين الأرزّ المتبقي في الثلاجة، وإضافة بعض اللبن إليه، ليكون طبقي على مائدة الفطور. لم أنزعج من هذا الطبق، فغيري لم يجد حتى الأرزّ في براده، إن وُجد البراد من الأساس.
قولوا لي: ما هو ذنبي؟
إذا أردنا خوض معركة الحقوق، فهذه متاهة ستنتهي بشتمي، وشتمُكَ/ كِ على "الساعة التي خُلقنا فيها"
بين العامين 2013 و2014، وُضعت فكرة السفر في رأسي الصغير، وبين أحلامي الكبيرة. ما ذنبي يا أمي، لأقضي نصف حياتي، إلى الآن، باحثاً عن المكان الذي قلتِ لي إننا سنكون سعداء فيه. عندما نضجت أكثر، وأدركت أحوال بلادي، علمت أنك لم تقصدي السعادة. فالسعادة لا تتعلق بالأماكن، بل قصدتِ الأمان، والطمأنينة اللذين لم نشهدهما معاً، كثيراً. اللا استقرار الذي أعيشه، لا يدعني أحلم، وأفكر في مستقبلي، فلاستقراري، واستقرار أوضاعي المعيشية والمادية، الأولوية، لأنني لن أصل إلى هذا المستقبل إذا لم أؤمن عشاء اليوم! أنا ربما لا يحق لي الحديث عن الأوضاع المعيشية الصعبة، فغيري، وليس بعيداً عني، يعيش ما هو أسوء بعشرات أضعاف المرات.
إذا أردنا خوض معركة الحقوق، فهذه متاهة ستنتهي بشتمي، وشتمُكَ/ كِ على "الساعة التي خُلقنا فيها"... ولكن لنبدأ؛ الكهرباء حق، وتُعد الاختراع الأهم في تاريخ البشرية. أيجوز أن نُحرم منها ما دام ما لدينا كله، يعمل على هذه الطاقة؟ أيجوز أن يتعفن الطعام الذي "يبصق الدماء" أهلي، لوضعه على طاولة السفرة، كل يوم؟ لن أتحدث عن الكهرباء، بل عن المياه، مثلاً. أيجوز أن نفكر، ولو للحظة، في كيف سنروي ظمأنا في الساعات التالية؟ أيجوز أن نشتري الخضار والفاكهة، مرويةً بمياه المجارير؟ أيجوز أن نعيش بلا مسكن؟ أيجوز أن نمرض من البكتيريا، ونعيش أيامنا مليئين/ ات بالقاذورات، لأن مياه الاستحمام والغسيل مقطوعة؟ أيجوز أن نُذَلّ، ونقف ساعاتٍ طويلة، تحت وطأة مناخ بلادنا، في طوابير الأفران، كي نحصل على ربطة خبز واحدة كل ثلاثة أيام؟ أو أن يكون الغاز هو حلم المواطنين/ات كلهم/ ن؟ أو الدواء المفقود مثلاً؟ ماذا عن الانفجارات غير المنتهية التي تُحرقنا أحياءً؟ وعن نزلات البرد المستمرة، مع استمرار فصل الشتاء، لأننا لا نملك المال الكافي لشراء المازوت، إن وُجد؟ هذا كله يجوز في بلادي. هذا كله موجود في بلادي العربية. أشعر أنني كالمسمار في هذه الأقطار العربية، أُدق وأُضغط نحو الأسفل، ولا أعرف متى سنصل إلى الجهة الأخرى من الخشبة، لنرى النور منها، علها نهاية عذاباتنا ومآسينا. ولا أعرف كيف لهذا المسمار أن يمتد طولاً، ليستوعب هذا الدق على رأسه كله، ولا يصل إلى النقطة التي لا يمكن أن يغوصوا معها فينا أكثر!
أشعر أنني كالمسمار في هذه الأقطار العربية، أُدق وأُضغط نحو الأسفل، ولا أعرف متى سنصل إلى الجهة الأخرى من الخشبة، لنرى النور منها، علها نهاية عذاباتنا ومآسينا
لنعد إلى فكرة الاستقرار. حسب ماسلو، وهرمه الشهير، يأتي في القاعدة الثانية بعد المأكل والمشرب، الأمان والاستقرار. بلادي في حرب؛ ففي فلسطين أنا مُحتلٌ منذ عام 1948، واستشهد في بلدي الجزائر كثيرون، حتى سُميت بلاد المليون ونصف المليون شهيد. بلادي شهدت الكثير من المجازر، وباتت الدماء هي المياه التي تُروى بها أرضي. ألهذا السبب لم نشهد السلام يوماً؟ بلادي حوض "المؤامرات"، وإن وُضعت "المؤامرة" في حوضي، فستلتهمني شر التهام، كأنها قرش، وأنا السمكة التي تفتقر إلى الأوكسجين في مائها، وتسعى جاهدةً كي تقفز عبر "حدود حوضها"، لتَلجأ، أو تُهجّر إلى أحواضٍ أُخرى. وكي لا أصل إلى مرحلة التهجير واللجوء، يجب عليّ أن أكون في قمة الهرم، وهذا ممكن. يجب أن تكون لدي القدرة على العطاء والتقديم، فأقدّم لمجتمعي، ولعائلتي، ولمحيطي، أي شيء؛ الفن، والحب، واللباقة مثلاً. يمكننا أن نقدم ما نحب، كالرياضة، أو النجارة مثلاً. طوبى لمن وصل إلى القمة، وطوبى لمن يُحب، ويحتوي غيره.
يُولد الأطفال في بلادي بسذاجة، ولا يُلام الجاهل طبعاً، بل المسؤول عن هذا الجهل. لا أريد أن أتحدث عن التعليم والثقافة في بلادي، فهما شبه معدمَين، ودليلي هو ما يحدث الآن من ممارساتٍ على أرضي الغالية. مع كل ولادة جديدة، تفرح العائلة، وتبارك لنفسها. مع كل ولادة جديدة تنسى العائلة همومها بضع ساعات، أو أيام، ولكنها تتناسى معها الألم الذي سيعيشه هذا الجسد الصغير. وإن سألتهم، يقولون عبارات لا معنى لها، كهذه: "الله كبير"، و"الله ما بينسى حدا". على الرغم من أنهم منسيون، هم واحتياجاتهم الأساسية، لكن "كل ولد بتجي رزقته معه". وإذا تجرأت على سؤالهم كيف سيعيشون، سيقولون: "بيتكيف. بيعيش بهيك أحوال مو مشكلة. ليكنا نحنا عايشين، وما أحلانا". لطالما استوقفتني هذه الجملة، وخاصةً مفردة التكيف، لأبحث عنها، ومعناها: "التكيف هو مصطلحٌ بيولوجي، هدفه البقاء على قيد الحياة مهما كانت التكلفة". وخلال بحثي، أجد ما يجب أن نسعى إليه، ونؤمّنه: "التوافق هو المصطلح الذي يجب أن نسعى إليه، فهو سلوك يوازن بين الشخص، والمجتمع، والبيئة المحيطة به، للوصول إلى الرضا النفسي".
نحن، كبشر، عشنا من دون الكهرباء، لذا عند انقطاع التيار الكهربائي نشتُم، ونكمل حياتنا، وهنا توافقنا مع الظرف الذي نمر فيه، مع العلم أن العيش بتوافق، يتخطى مرحلة العيش بتكيّف. أي أني مع، أو من دون الكهرباء، سأنجو، وأستمرّ. لكن مع هطول القذائف، والعبوات الناسفة، كالأمطار، وبلا رحمة، على رؤوس الناس، واحتمائنا تحت أي سقف، فنحن هنا نتكيّف. وعند ركضنا، وهربِنا من هنا إلى هناك، وسماع صرخات أمهاتنا قلقات على أبنائهن وبناتهن، ففي هذا المشهد نحن نتكيّف أيضاً. وعندما نقف في الطابور ساعاتٍ وساعات، نحن نتكيّف مع الظروف. وعند انقطاع المياه، والسلع المحدودة جداً في الأسواق، وعندما نضع المنشفة المبتلة، وعبوة المياه إلى جانبنا، طوال الوقت، خوفاً من الاختناق بالغاز الكيميائي، ولمّا ندور على المشافي لبيع كليتنا، أو عندما تصبح الخيمة هي ملجأنا الوحيد، ووطننا الآمن، وعندما تكون مخصصاتنا من الدولة، أقل من حاجاتنا بفارق غير مقبول، فنحن في هذه الظروف كلها نتكيّف. نحن لا نتوافق. نحن نسعى إلى البقاء على قيد الحياة فحسب، وطبعاً جميعنا نعلم أن هذا ليس من نسج خيالي، وليته كان كذلك. إنه الحقيقة البحتة. لذا دعونا نفعل ما لم يفعله العجوز، حين كان شاباً قوياً في منتصف عمره، كي لا يعيد التاريخ نفسه، كل جيل.
كي لا أصل إلى مرحلة التهجير واللجوء، يجب أن تكون لدي القدرة على العطاء والتقديم، فأقدّم لمجتمعي، ولعائلتي، ولمحيطي، أي شيء؛ الفن، والحب، واللباقة مثلاً
كان اندهاشي مجتمعاً مع الخوف من قوة الأسلحة البيولوجية والذرية، وفتكها، ولم يكن لدي أي شك في قدرتها على تدميري، ومسح وجودي الفيزيائي. ولكن هذه الاعتقادات كلها تحجّمت بعد إدراكي السلاح الأخطر: قتل الأحلام، واصطياد مستقبلي ومستقبلكَ/ كِ، وتدمير جوهرنا من الداخل، وتمزيق رسالة وجودنا. أمي زرعت اللا استقرار في داخلي كي لا أُقتل حياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...