تقف نالين (29 عاماً)، في صالة الانتظار في عيادة طبيب أمراض عصبية في القامشلي، وهي تراقب مَن حولها، خوفاً من أن يتعرف إليها أحد. تقول لرصيف22، بعد أن تأكدت من أن هويتها الكاملة لن تظهر: "قررت زيارة الطبيب، فأنا أعاني من قلّة النوم، وأشعر أحياناً بأنني أتوهم الكثير من القضايا التي لم تحصل، وأتحدث مع نفسي، وأخاف من نظرة المجتمع إليّ إن عرف أحدهم بزيارتي لعيادة طبيب نفسي".
في الآونة الأخيرة، تجاوز عدد المصابين باضطرابات نفسية على مستوى سوريا كلها، الـ12%، في ظل تداعيات الحرب وفقدان الأقارب والأعزاء والوضع الاقتصادي، في حين تغيب الإحصائيات الرسمية في القامشلي لعدد المصابين أو الذين يعانون من مشكلات نفسية/ عصبية، ولكمية الأدوية التي تباع فيها ونوعيتها.
تقول ناشطة في جمعيات ومراكز دعم نفسي في القامشلي، لرصيف22، إنهم "يستقبلون يومياً أعداداً كبيرةً من المحتاجين للدعم النفسي، خاصةً السيدات، ويُلاحَظ أن القاسم المشترك بين أمراضهم هو الفقر، والخوف من المستقبل المجهول، والعنوسة، بالإضافة إلى الذين هُجّروا من قراهم، نتيجةً للمعارك ضد داعش، وفقدوا منازلهم، وأفراد أسرهم في تلك الحرب".
الحرب وآثارها
"لا أزال أذكر مشاهد الحرب، والدماء، وأحلم بها في الليل. بعد انتهاء المعارك عدنا إلى قريتنا، وبحثت عن منزلي لكن لم أجد سوى بعض الركام، وأوضاعنا المادية لا تسمح لنا بإعادة بنائه ولا فرشه. نعيش في منزل أحد أقاربي الذي هاجر إلى أوروبا، وبعض أقاربي وجيراني يعيشون في بيوتٍ مهجورة في أطراف القامشلي. لكل منا حكايته الخاصة، ولا يوجد من لم يفقد عزيزاً في هذه الحرب"؛ تقول خديجة، التي تسكن قرى جنوب القامشلي.
تجاوز عدد المصابين باضطرابات نفسية على مستوى سوريا كلها، الـ12%، في ظل تداعيات الحرب والوضع الاقتصادي
تدعم المنظمات الدولية المراكز المنتشرة في مخيمات اللاجئين ومدينتي الحسكة والقامشلي. تضيف الناشطة التي فضلت عدم ذكر اسمها: "نصف لهم أدويةً مهدئةً، ونستمع إلى مشكلاتهم، ونحاول إرشادهم إلى بعض الطرق التي تخفف من وطأة الضغط النفسي، مثل الرياضة، وتمارين التنفس العميقة، والاسترخاء صباحاً ومساءً، والحديث إلى الآخرين وغيرها".
وتشير إلى أن أكثر الحالات التي تتردد على المراكز، تعاني من "الضغط النفسي الشديد وهي في حاجة إلى التدخل خلال 48 ساعةً على الأكثر، واضطرابات الضغط النفسي الحاد، وهي في حاجة إلى المتابعة والتدخل والعلاج لمدة أكثر من شهر، ثم الأخطر وهي حالات اضطراب الشدة بعد الصدمة، وهذه تأخذ وقتاً طويلاً للعلاج".
العيب والعنف
بالإضافة إلى كل تلك الحالات، فإن العنف المنزلي يُشكل جزءاً كبيراً من عمل تلك المنظمات، إذ تقول الناشطة التي فضلت عدم ذكر اسمها: "تزورنا كثيرات من النساء اللواتي يعانين من أمراض نفسية نتيجة العنف المنزلي ضدهن، لذلك نُخضعهن لدورات تُسمى دراسة الحالة، ونمنحهن الثقة والراحة النفسية وبعض الحبوب المهدئة، وغالباً ما يكون الفقر هو السبب المباشر للعنف ضدهن".
توجه رصيف22، إلى إحدى مراكز دراسة الحالة. في البداية أحجمن جميعهن عن الحديث، لكن مع تشجيع المشرفة، بدأت خالدة (اسم مستعار) بالحديث: "زوجي يعمل بائع أدوات منزلية مستعملة. لا أطلب منه شيئاً، وأوصيت الأولاد بذلك أيضاً، لكنه دائم الشكوى والتذمر ودوماً أكون أنا الضحية. جسدي لم يعد يحتمل الضرب، ووالداي لا يسمحان لي بالطلاق. تراودني الكوابيس يومياً، ولولا هذه المراكز والدورات لأصبحت مجنونةً. قلت لزوجي إنها معاينات طبية مجانية لأمراض النساء، كي يرضى بأن أتسجل فيها".
في القامشلي طبيبان نفسيان فقط، يشعر الكثيرون "بالعيب"، من زيارة أحدهما. منهم رضوان السيد (38عاماً)، الذي يقول لرصيف22: "فقدت ولدي البكر في هذه الحرب، وهاجر إخوته. أعاني من صداع فظيع في رأسي. مولد الكهرباء بجانب بيتي لم أعد أعرف إن كان يعمل أم لا، فصوت الضجيج وذكريات ولدي، والفقر الذي أعيشه أمور جعلتني أتخيل المواضيع وأحاكيها".
بعد إلحاح زوجته وإصرارها، قرر رضوان التوجه إلى عيادة الطبيب، فـ"الناس لدينا يُعيّرون من يزور طبيباً نفسياً. يقولون عنه إنه مجنون، و"الي فيني بيكفيني"، لذا فضّلت بدايةً استشارة طبيب هضمية، ثم عصبية، على زيارة طبيب نفسي. وصفوا لي بعض الأدوية المهدئة، والرياضة والخروج إلى الطبيعة".
الاكتئاب طريق الانتحار
عقد معدّ التقرير جلسةً مركزةً مع مجموعة من الأطباء الذين أكدوا أن "الضغط النفسي المزمن هو استنزاف عاطفي يؤدي لاحقاً إلى الإصابة بالاكتئاب، ويؤثر سلباً على النوم السليم ويؤدي إلى الأرق، وتالياً إضعاف المناعة واستعداد الجسم لاستقبال الأمراض والفيروسات، خاصةً أن الأعراض الرئيسية للاكتئاب تتواجد بكثافة في أوساط المراهقين والشباب كغياب الاهتمام بهم وبقضاياهم، وانخفاض الطاقة والتعب الدائم والخمول".
جسدي لم يعد يحتمل الضرب، ووالداي لا يسمحان لي بالطلاق. تراودني الكوابيس يومياً، ولولا مراكز الدعم النفسي لأصبحت مجنونةً. قلت لزوجي إنها معاينات طبية مجانية لأمراض النساء، كي يرضى بأن أتسجل فيها
كذلك، تحدث الأطباء عن عوامل أخرى، مثل "اضطرابات النوم والشهية ونقص التركيز والنسيان الدائم، ونقص تقدير الذات، والتشاؤم والأفكار السوداوية"، وحذّروا من "تضخم فكرة الاكتئاب التي تؤدي إلى الوصول إلى الانتحار سواء بالتمنّي أو المحاولة، خاصةً أن المنطقة شهدت العديد من حالات الانتحار أو المحاولات الفاشلة"، مؤكدين على أن "الأدوية المهدئة وحدها لا تكفي، إذ لا بد من تضافر جهود الأسرة والطبيب والمرشد النفسي، والعامل الأخطر هو الأصدقاء والوسط الذي يعيش فيه المكتئب، فضلاً عن ضرورة تقدير الذات والاهتمام بمشكلات الشخص ومتطلباته".
صرف عشوائي للأدوية
تُشكل مبيعات الأدوية المهدئة لحالات الأرق والاكتئاب، والذهان، والاضطرابات النفسية، والتي يتوجب أن يصفها الطبيب حصراً، نسبةً مرتفعةً من المبيعات اليومية في القامشلي، خاصةً في صيدليات الأرياف والمناطق الشعبية، وغالبية الأدوية تُباع بطريقتين؛ عبر وصفة نظامية من طبيب مختص أو مراكز نفسية ولا يجوز استعمالها لأكثر من 3 أسابيع كحد أقصى وفقاً للصيدلاني باور، أو من دون وصفة وهذه مشكلة أكبر من المشكلات النفسية ذاتها.
تقول نُهى (29 عاماً)، وتعمل في قسم الإرشاد والدعم النفسي لدى إحدى المنظمات الدولية: "نفتح ملفاً خاصاً لكل شخص نقوم باستقباله، ندوّن فيه معلوماته الشخصية وحالته ونتابعها، مع ما يطرأ عليها من تغيرات، ونمنحهم الأدوية المناسبة لحالاتهم"، وتروي لرصيف22، أن إحدى المراجِعات، قالت لها إن "جارتها تعاني من التوتر الشديد لأتفه الحالات، وتشعر بالضغوط من دون سبب، وزوجها يمنعها من مراجعة الطبيب أو المراكز الطبية، لكنها اشترت من الدواء نفسه الذي أستعمله، من صيدلية في حيّها من دون وصفة نظامية، علماً أنه دواء يُمنع بيعه من دون وصفة".
تُشكل مبيعات الأدوية المهدئة لحالات الأرق والاكتئاب، والذهان، والاضطرابات النفسية، نسبةً مرتفعةً من المبيعات اليومية
يتحدث الصيدلاني عمر، عن القوانين الناظمة لبيع الأدوية النفسية، ويقول لرصيف22: "تمنع اللوائح والقوانين الطبية بيع الأدوية النفسية إلا بوصفة نظامية صادرة عن طبيب، وعلى الصيدلاني تدوين مبيعاته من تلك الأدوية على سجل خاص مرفق بالوصفة، والطريقة النظامية هي شراء الصيدلاني للدواء من المستودعات عبر مندوبيها، وفق سجلات تخضع للرقابة، لكن المشكلة أن بعض المستودعات تبيع الأدوية لبعض الصيادلة من دون تلك الإجراءات".
وتوجه رصيف22، للبحث أكثر في هذا الشأن، فزرنا 7 صيدليات موزعة في أكثر من منطقة في المدينة وريفها، وطلبنا شراء أدوية أعصاب لا يُسمح ببيعها من دون وصفة طبية، لتكون النتيجة أن 4 من أصل 7 صيدليات زرناها وافقت على صرف الدواء.
ويقول شتو (اسم مستعار)، وهو موزع أدوية، إن "قسماً من الصيدليات وخاصةً في العشوائيات والمناطق الشعبية، تستطيع أن تأخذ منه الأدوية النفسية من دون تدوينها في الفواتير النظامية بين المستودع والصيدلية، وازداد الطلب على هذه الأدوية خلال الأعوام الأخيرة، خاصةً في المناطق والأحياء الفقيرة خلال الحرب بسبب الضغط النفسي والقلق"، مشيراً إلى أن "الأدوية النفسية يجب أن توصف من قبل الأطباء وفقاً لصيغة معيّنة من الوزارة أو من هيئة الصحة، لكن غالبية الأطباء لا يعملون بذلك".
علاج أطباء الهضم
يقول أكثر من صيدلاني استطلعنا آراءهم، إن "عدداً لا يستهان به من الوصفات تأتي من أطباء غير نفسيين، بل من مختلف التخصصات خاصةً العصبية، والهضمية، والداخلية، بالإضافة إلى بعض الأدوية المهدئة والمنومة التي تُباع بنسبة كبيرة، وهو ما يُعدّ مؤشراً قوياً على ارتفاع نسبة من يعانون من مشكلات نفسية متنوعة".
كذلك، يؤكد عدد من أطباء الهضمية والأعصاب في القامشلي، على ارتفاع الأمراض ذات المنشأ النفسي، كأوجاع المعدة، والشرود، والنسيان، والعصبية، والتوتر الدائم، والاضطرابات الهضمية التي ليس لها أي منشأ عضوي، وفي أثناء التشخيص السريري يتبين أن سببها نفسي، ويقول أحد الأطباء: "في أثناء سؤال المراجِع عما يشعر به، أترك له مساحةً جيدةً للتعبير والحديث، ومن خلال سرده لقصته يتبين أن سببها نفسي، فأقوم بربط تاريخ ظهور الأعراض مع حدث أو شعور معيّن، وغالباً ما يقودنا هذا الأمر إلى نتيجة واحدة مفادها بأن سبب مرضه، نفسي".
يروي الأطباء أن أبرز الحالات المرضية التي تزورهم، تكون ذات منشأ نفسي كالتوتر والتفكير الزائدين، ويتبين في أثناء الدردشة مع المرضى أنهم يعانون من سوء الوضع الاقتصادي والفقر، أو العجز عن تأمين مستلزمات الأسرة خاصةً متطلبات طلبة المدارس، بالإضافة إلى القولون العصبي الذي بات مرضاً شائعاً بنسبة كبيرة وهو مرتبط بالتوتر والقلق وزيادة الهموم والضغط النفسي".
زرنا 7 صيدليات موزعة في أكثر من منطقة في القامشلي وريفها، وطلبنا شراء أدوية أعصاب لا يُسمح ببيعها من دون وصفة طبية، لتكون النتيجة أن 4 من أصل 7 صيدليات وافقت على صرف الدواء
وحول آلية العلاج، يقول الأطباء: "نصف لهم مهدئات نفسيةً، مثل مضادات الاكتئاب، ولا يعلم قسم من المرضى في الغالب عن مرضهم النفسي، أو يرفضون الاعتراف به، فنضطر إلى منحهم أسباباً مخففةً، لأن الغالبية تشعر بالعيب والعار الاجتماعي من الأمراض ذات المنشأ النفسي".
تخيّل المرض
أشهر الأمراض المنتشرة، يُعرف باسم "الهاجس"، ويتحدث عنه طبيب أعصاب من القامشلي، لرصيف22، قائلاً: "تتسبب التراكمات النفسية والفقر والحرب، في خلق قناعة لدى المريض بأنه مصاب بمرض خطير، وبأن الأطباء عاجزون عن شفائه، ويبدأ بخلق أوهام جسدية ويدخل في حالة قناعة تامة بأنها حقيقية، لكنها في الواقع ليست كذلك".
في هذا السياق، تقول المرشدة النفسية نسرين عبيد (29 عاماً): "من يعانون من أعراض أو أمراض نفسية، وأحياناً الأصحاء أيضاً، يلجؤون إلى مثل هذه الطرق للهرب من ضغوط الحياة والمسؤوليات المركبة التي يتوجب أن يجدوا لها حلولاً، فيرغبون في المزيد من الاهتمام، وإسقاط أسباب فشلهم في مواجهة مشكلات الحياة، خاصةً في أثناء الحروب والأزمات، وصعوبة مواجهة ضغوط الحياة، بإصابتهم بالمرض".
وتضيف لرصيف22: "يجب وصف أدوية مهدئة من دون إخبار المريض بأنها نفسية، وإعطاؤهم الدعم النفسي لهم ومراعاتهم وعدم التصادم معهم".
ونتيجةً لزيادة حالات الأمراض النفسية، قدّرت أوساط طبية في القامشلي، أن محافظة الحسكة "تحتاج إلى ما لا يقلّ عن 50 طبيباً نفسياً متخصصاً، للتمكن من مواجهة هذه الحالات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com