لا يعلم المريض في القامشلي، أيّ مصير ينتظره، فالوصفة الطبية شيء، والدواء الموجود شيء آخر، وغالباً ما يكون المريض ضحيةً لاستبدال الصيدلاني للأدوية الموصوفة من قبل الطبيب المختص، بأدوية أخرى ذات تركيبة مختلفة، سواء كانت محلية الصنع أو مستوردةً نظامياً، أو عن طريق التهريب، مع تشبثه بسردية فقدان الدواء الأصلي نتيجة الحرب في سوريا، وأن البديل أفضل وأكثر فاعليةً.
دواء مفقود
"يا سبحان الله، الأدوية الرخيصة مفقودة ولا بديل لها، والغالية منها متوفرة أو يوجد لها بديل بسعر أعلى، والصيدلاني غير مهتم أساساً بأمر توفيرها"، تقول سهى إبراهيم (33 عاماً)، لرصيف22، وهي موظفة حكومية، وتضيف: ""أعطاني الصيدلاني دواءً بسعر مرتفع جداً، وقال إنه البديل عن النوع الموجود في الوصفة. أقسمَ على أنها التركيبة نفسها، لكن فقط يتغير الاسم والشركة، لتبدأ بعد يومين مشكلات جديدة في آلام المفاصل، وبعد مراجعتي الطبيب المشرف على علاجي، رفض قطعياً هذا البديل، وقال: لا علاقة له بالدواء الذي وصفته".
قررت سهى العودة إلى الصيدلية مرةً أخرى، ليحصل تلاسن بين الطرفين. تروي: "رفع الصيدلاني صوته في وجهي قائلاً: أنتم عامة الناس لا تفهمون في الدواء، وحين قلت له إن الطبيب هو الذي رفضه، أجاب: وحتّى الطبيب لا يفهم، الله معك". خرجت سهى مندهشةً من فظاظة الصيدلاني، ودفاعه عن فساده من دون خوف".
من جهته، يقول مروان العلي (29 عاماً)، بعد اصطحابه والدته إلى طبيب قلبٍ، قادماً من ريف القامشلي: "جلت بين ثلاث صيدليات عارضاً على الصيدلاني في كل منها الوصفة الطبية، وكان جوابهم أن هذا الدواء غير موجود"، ويصف مروان دهشته وحيرته أمام حديث الصيدلاني الرابع الذي حين عرض عليه الوصفة، "ضحك كثيراً حين أخبرته بأن الدواء مفقود في الصيدليات الثلاث الأخرى، إذ إن المدوَّن على الوصفة كان تشخيص المرض وليس اسم الدواء".
رفع الصيدلاني صوته في وجهي قائلاً: أنتم عامة الناس لا تفهمون في الدواء، وحين قلت له إن الطبيب هو الذي رفضه، أجاب: وحتّى الطبيب لا يفهم، الله معك
بحسب مروان، "لسبب ما أخطأ الطبيب المشرف في الكتابة، بين الدواء والتشخيص، لأكتشف لاحقاً أن الموجودين في تلك الصيدليات ليسوا سوى مستأجرين لشهادات صيادلة مهاجرين، ونتيجةً لجهلهم في قراءة اللغة الأجنبية وعدم معرفتهم بالدواء، ادّعوا عدم توفره".
شهادات للأجرة
وشهد القطاع الطبي زيادةً كبيرةً في موجة الهجرة، ويلجأ الصيادلة تحديداً إلى تأجير شهاداتهم الطبية إلى شخص آخر في غالبية الأحيان لم يتجاوز في تحصيله العلمي المرحلة الابتدائية، و"يُقنع" لجان التفتيش أو المتابعة الخاصة في مختلف الجهات، ويتم التغاضي عن هذه الكارثة. وهو ما أكده الصيدلاني علي، لرصيف22، مشيراً إلى أن صيادلة القامشلي وأريافها خاصةً، "يؤجرون الشهادة بمبالغ متفاوتة تبعاً لموقع الصيدلية وقربها من عيادات الأطباء، أو من الريف والمدينة، لكن لا يقل سعر تأجير الشهادة عن 200 دولار".
ويضيف الصيدلاني الذي رفض الكشف عن اسمه الكامل: "المشكلة أن هؤلاء لا يفهون اللغة الإنكليزية، لذا تُبدَّل الوصفات إما لجهل ‘البائع’ في الصيدلية وعدم استيعابه لاسم الدواء العلمي، أو لتبديل أدوية الوصفة الطبية بما يتوفر لديه من أدوية من دون الاهتمام بتركيبة الدواء، وتأثير أعراضه الجانبية على المريض"، ولفت إلى أن "بعض الصيادلة المزاولين لمهنتهم لا يبتعدون عن هذا الوضع الخطير، فالمهم هو بيع الدواء بغض النظر عن أيّ مشكلات أخرى، خاصةً أن شركات دواء جديدةً دخلت عالم صناعة الأدوية، ومنها من استُبدل اسمها نتيجة العقوبات المفروضة على سوريا".
أدوية مهرّبة
ومن خلال جولة صغيرة على تجمعات الأطباء وأماكن وجود الصيدليات، تدور أحاديث المرضى حول ارتفاع أسعار الدواء وضعف قيمته العلاجية، أو صرف أدوية مهربة لا علاقة لها بتلك االموصوفة من قبل الطبيب، من دون سؤال المريض عن وضعه الصحي والمضاعفات التي ربما يتعرض لها، خاصةً من يعانون من الأمراض المزمنة.
شهد القطاع الطبي زيادةً كبيرةً في موجة الهجرة، ويلجأ الصيادلة تحديداً إلى تأجير شهاداتهم الطبية إلى شخص آخر لا علاقة له بالصيدلة
يصف المريض رياض السيد (62 عاماً)، لرصيف22، ما حصل معه، وهو يقف أمام إحدى الصيدليات لشراء الدواء مجدداً، قائلاً: "شعرت بالدوخة وبرجفان في القلب، وإعياء شديد، ما دفعني إلى مراجعة طبيب الأمراض العصبية مرةً أخرى، فاكتشف أن الدواء غير ملائم للمرض والوصفة، والأكثر سوءاً أن صلاحيته منتهية، وتسبب بأعراض جانبية شديدة كادت أن تتسبب بأزمة عصبية"، مضيفاً: "غلاء فاحش في أسعار الأدوية، وزيادةً على ذلك هي غير مؤمنة وأحياناً منتهية الصلاحية. لم يدُر في خلدي أن أتأكد من التاريخ، فعادةً هذا أمر لا يفعله المريض".
التواطؤ المتبادل
وتضم المنطقة الكردية أكثر من معبر يفصلها عن مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية، والمعبر الذي أقامته الفرقة الرابعة التابعة للنظام السوري، والذي مع إقليم كردستان العراق، عدا عن التهريب عبر الحدود.
ويقول الصيدلاني عامر عبد الإله، لرصيف22، وهو مقيم في القامشلي: "الأدوية المهربة منتشرة في القامشلي بكثافة، بل يمكن القول إن نسبتها أكثر من 30% من حجم الأدوية الأخرى، وعدا عن الجهل بتركيبتها الدوائية أو مصدرها ومدى صلاحيتها للاستعمال، فإنها لا تصلح للعلاج في غالبية الأحيان، كحبوب الصداع، وآلام المفاصل، والكريب، والقطرات العينية... إلخ، وتحمل تلك الأدوية أسماءً قريبةً من الاسم الحقيقي مع اختلاف حرف، أو مع تبديل بين حرفين، والمشكلة الأكبر أن قسماً من الأطباء يتفقون مع الصيدلاني على صرف أيّ دواء بديل، وفق نسب أرباح للطرفين".
تواصل رصيف22، مع مصدر في هيئة الصحة في الإدارة الذاتية، فقال إن "من يشجع توافر الأدوية المهربة في أسواق القامشلي وما حولها، هم في الدرجة الأولى الصيادلة والأطباء، إذ يصفون الأدوية الأجنبية المهربة، كبديل من المنتج المحلي، وللأسف لا يوجد تشريع يقاضي مروّجي تلك الأدوية وبائعيها".
التلاعب بالأدوية لا يقتصر على الصيدليات، بل إن المشافي أيضاً تلتحق بدائرة الفساد، خاصةً مع تكرار جملة عدم توافر الدواء المحلي، ووجود دواء أجنبي، وإلزام المريض بشراء الدواء من صيدلية المشفى حصراً، وتحكّمهم بالسعر
ويتحدث عبد الإله عن المشكلات العديدة التي يسببها تبديل الأدوية بأخرى غير متطابقة في التركيب الكيماوي وعناصره العلاجية المختلفة، ويقول: "مرضى القلب والضغط والسكري، لا يجوز أن توصف لهم أدوية معيّنة؛ كونها تتداخل مع الأدوية التي يتناولها هؤلاء المرضى"، مضيفاً: "الدواء يُوصف من قبل الطبيب بعد المعالجة السريرية وكشف الأمراض المزمنة، وعلى إثر ذلك يتم وصف الدواء المناسب الذي لا يتسبب بالمضاعفات الجانبية، ومهمة الصيدلاني محصورة في صرف الوصفة كما هي، في حين أن قسماً من الصيادلة يلجؤون إلى التبديل بين الأدوية ويبيعون أخرى مهرّبةً لغلاء ثمنها، من دون سؤال المريض عن أمراضه الأخرى، وهو ما يتسبب بالأذى لهم".
الأذى هذا تتحدث عنه إخلاص يوسف (66 عاماً)، لرصيف22، وهي التي نُقلت على عجل إلى عيادة الطبيب المشرف على صحتها، وتقول: "أعاني من ارتفاع في الضغط، والسكري، وعندي ضعف في عضلة القلب، وصف لي طبيب القلب دواءً محدداً، لكن الصيدلاني صرف الدواء كما يرغب"، وإخلاص سيدة غير متعلمة لا تجيد القراءة والكتابة، زارت الطبيب بمفردها، تروي أن أعراض الدوخة بدأت بعد تناولها الدواء على مدار يوم كامل، مع تسارعٍ كبير في ضربات القلب، وجفاف في الفم والحلق، فأرسلت رسالةً صوتيةً إلى ابنها الذي نقلها سريعاً إلى عيادة الطبيب، ليخبرها الأخير بأن الدواء مهرَّب ولم يصفه الطبيب إنما صرفه الصيدلاني، وحمّلها جزءاً من المسؤولية لعدم مراجعتها إياه للتأكد من الدواء المصروف.
احتكار صيدليات المشافي
ويبدو أن التلاعب بالأدوية لا يقتصر على الصيدليات الخاصة فحسب، بل إن المشافي أيضاً تلتحق بدائرة الفساد لتكون من ضمنها، خاصةً مع تكرار جملة عدم توافر الدواء المحلي، ووجود دواء أجنبي، وإلزام المريض بشراء الدواء من صيدلية المشفى حصراً، وتحكّمهم بالسعر.
نشرت الإدارة الذاتية، مقاطع فيديو تشير إلى حرق كميات من الأدوية المهرّبة، والمنتهية الصلاحية، لكن من دون الكشف عن طرق وصولها إلى المدن
في هذا السياق، تقول شريهان (27 عاماً)، التي أجرت عملية ولادة قيصرية في أحد مشافي القامشلي: "ألزموا زوجي بشراء الأدوية والمعقّمات، وبقية الأدوية المخصصة لعلاجي من صيدلية المشفى حصراً، ليكتشف أن أسعار الأدوية في المشفى تفوق بـ30% أسعارها في الصيدليات الخاصة، ويكفي القول إن الإبرة بيعت بـ10 أضعاف سعرها في مستودع الأدوية، عدا عن غياب الفاتورة النظامية المفصّلة بأسماء الأدوية وأسعارها". وغالباً ما يتم وصف أدوية في الوصفات الطبية من دون صرفها، مع تدوينها في الفاتورة النهائية.
من جهته، أدخل حسين فخري (66 عاماً)، حفيده إلى المشفى نتيجة طلب الطبيب، فـ"أصر طبيب الأطفال على مبيت حفيدي في المشفى، نتيجةً لارتفاع حرارته والإسهال الشديد والإعياء بعد تعرضه لأشعة الشمس، وفي اليوم الثاني طلب محاسب المشفى رقماً فلكياً مقارنةً بحجم الخدمات وأيام المبيت"، وحين طالب حسين بفاتورة نظامية مفصلة باسم الأدوية المصروفة تم تصحيح الفاتورة: "دُوّن في الوصفة دواء خاص بارتفاع ضغط الدم. استغربت كثيراً، فما علاقة ضربة الشمس لطفل لم يتجاوز الـ10 أعوام، بارتفاع ضغط الدم، ويبدو أن أدويةً كثيرةً دُوِّنت في الوصفة والفاتورة من دون صرفها، والخطأ قد يحصل في بضعة آلاف ليرة على أبعد تقدير، وليس بأكثر من 50 ألفاً في سعر الأدوية كما حصل معي".
ويوجد في القامشلي ثلاثة مشافٍ شبه مجانية تابعة للإدارة الذاتية و10 خاصة، ضمن مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وواحدة حكومية خاضعة لسيطرة الحكومة السورية، لكن في المجمل فإن أسعار الأدوية مرتفعة جداً، إذ يقول خالد وهو محاسب في مستودع أدوية في ريف الحسكة: "باختصار، تحولت المهنة إلى تجارة، والشاطر من يزيد من أرباحه، لدينا أدوية مهربة، لا أعلم من أين جاءت. نشتري الدواء بسعر معقول، ونبيعه للصيدليات بسعر أعلى بكثير، وهم أيضاً يزيدون من السعر بشكل جنوني، والضحية دوماً هو المواطن. ما أعلمه أن سعر الإبرة لدينا لا يتجاوز 35 ليرةً، فكيف تُباع في بعض الأماكن بقرابة 250 ليرة؟".
وسبق أن نشرت الإدارة الذاتية، مقاطع فيديو تشير إلى حرق كميات من الأدوية المهرّبة، والمنتهية الصلاحية، لكن من دون الكشف عن طرق وصولها إلى المدن، وما إذا جرت التحقيقات وتم اعتقال المتسببين فيها أم لا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...