في مقهى كربيس الشهير وسط مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، يجلس خالد سليمان بصحبة أصدقائه. يُنوّع في أساليبه بخلط أوراق الشدة، ويتفنن في توزيعها وسط ضجيج المقهى، وأغانيه الكلاسيكية القديمة. يُنهي اللعب. يصمت قليلاً، ثُم يبدأ بالحديث عن قلقه الدائم، "الزواج". من دون أي مقدمات، يقول: "حياتي عبارة عن هرب يومي من السؤال المتكرر: لماذا لم تتزوج حتى الآن؟".
مع الوقت، صار السؤال وتكراره يُقلقانه ويُزعجانه. عمر خالد 35 عاماً، ولم يتبقَ أمام الناس هنا شيء سوى معرفتهم لماذا لم يتزوج بعد؟ هم، أي الناس، برأيه، "لا يعرفون أن هذا السؤال لا يُسأل في بلاد الغرب، لأن المجتمعات المتقدمة ترى أن هذه أمور خاصة، ولا يحق لأحد معرفتها، ولكن في مجتمعنا يُطرح بكل بساطة مع ابتسامة مستفزة".
صار السؤال وتكراره يُقلقانه ويُزعجانه. عمر خالد 35 عاماً، ولم يتبقَ أمام الناس هنا شيء سوى معرفتهم لماذا لم يتزوج بعد؟
لا يُفارق خالد نرجيلته طوال فترة مكوثه في المقهى. يتحدث وهو يأخذ ما يستطيع صدره تحمله من دُخان، ليبدو وكأنه يُنفّس ما في داخله من احتقان، نتيجة ضغوط المجتمع. يقول: "بات هذا المقهى ملاذي ومهربي من واقعي الصعب، فكيف لي أن أتزوج، وأنا غير قادر على تأمين معيشتي؟ هل 150 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 40 دولاراً، قادرة على تغطية نفقات أسرة مكوّنة من شخصين؟". يعمل خالد في محل لبيع العطورات والإكسسوار، وبدوام صباحي فحسب، بعد الاستغناء عنه في محل سابق لبيع الحلويات، بحجة عدم قدرة صاحب المحل على دفع أجور العاملين لديه، لتناقص عدد الزبائن حسب زعمه. ما يجنيه يؤمّن له مأكله، أي الحد الأدنى من القدرة على الاستمرار، وحيداً طبعاً. إلى جانبه، يجلس شريك أوقاته في المقهى، وصديقه المقرّب، عزيز صبري. ينتظر الأخير أن ينهي خالد كلامه. هو كصديقه يُعاني من عزوبته. يقضي أوقاته هارباً من الأسئلة إلى نرجيلته، وطاولة في زاوية مقهى تحوّل إلى مساحة لنسيان عبء الحياة في بلاد لا تصحو من كابوسها المُمتد.
يقول عزيز: "لم أعد ألوم متطلبات الفتيات المستحيلة، وهن ينتظرن فارس الأحلام فحسب، فأنا ألوم كنيستي التي أتردد إليها منذ صغري. فوعود القائمين على تسيير أمور رعيتهم وأبنائهم، وأنا واحد من هذه الرعية، كلها ذهبت أدراج الرياح، منذ أكثر من 15 عاماً وأنا أسمعهم يقولون سنؤمّن لكم فرص عمل، وعيشةً كريمةً، ولا شيء سوى المحتوى الخاوي والفارغ والشعارات الرنانة والتشبث بأرض الآباء والأجداد. هل الأجداد سيقومون من قبورهم ويعطونني رواتب مرتفعة؟".
لا يلوم عزيز الفتيات على طلباتهن المستحيلة، وهن ينتظرن فارس الأحلام فحسب، هو يلوم الكنيسة التي يتردد إليها منذ صغره. فوعود القائمين على تسيير أمور رعيتهم وأبنائهم، كلها ذهبت أدراج الرياح
يُضيف وعلامات الغضب تتسلّل إلى محياه: "لو جمعوا تبرعاتي التي أعطيتها للكنائس، في كل قداس إلهي يوم الأحد، وأعادوها إلي، لم أكن بحاجة إلى أحد الآن". يُنهي جملته ويعود إلى نرجيلته ورفاق أوراق الشدة. يبدو مرتاحاً هناك.
خطاب الكنيسة المسيحية في تلك المنطقة، يسمونه بالتعامل مع الواقع، هذا ما يؤكده أحد أبناء المجلس الملّي الذي يدير الطائفة المسيحية في القامشلي، رفض الكشف عن اسمه: "نحن نعيش ظروفاً استثنائيةً، ومخلفات الصراع الدائر في سوريا ألقت بظلالها علينا أيضاً، فكيف لنا أن ندعم مشروعاً ضخماً يُكلّفنا آلاف الدولارات الآن، ونحن ننزف هجرةً بأعداد كبيرة؟ لمن نفتح هذه المشاريع؟ لماذا لا نُعيد تدوير هذه الأموال بدعم الفقراء والمحتاجين، ولو بمبالغ صغيرة؟ ليس كل الذين بقوا هنا لديهم من يسندهم من الخارج، وهذا صلب عملنا الآن".
والمجلس الملّي هو المسؤول عن المؤسسات الكنسية التي تضم شرائح وأعمار مختلفة من الفئة الشابة، ومن مهامه كما يقول المسؤولون عن إدارته، خلق فرص عمل، وإيجاد منازل للسكن للشباب المقبلين على الزواج، والعمل على إيصال مساعدات مادية مباشرة للعائلات المحتاجة.
صراع العثور على المنزل طارد رابي يوسف، لسنوات طويلة، وهو يحاول تلبية شرط حبيبته، ومطلب أهلها باستقلاليتها في منزل، بعيداً عن أمه وأبيه، فهي لن تتزوج "لخدمتهم"
صراع العثور على المنزل طارد رابي يوسف، 32 عاماً، لسنوات طويلة، وهو يحاول تلبية شرط حبيبته، ومطلب أهلها باستقلاليتها في منزل وحدها، بعيداً عن أمه وأبيه، فهي لن تتزوج "لخدمتهم"، حسب قولهم. يقول، وهو في المقهى الذي يلجأ إليه لقليلٍ من الفرح: "الكنيسة تتحجج بالهجرة. حسناً لماذا لا يعطونني واحداً من هذه المنازل الفارغة التي هاجر أصحابها من دون رجعة، وأنا مستعد لتوقيع عقد رسمي بيني وبين أي طرف يُلزمني بإخلاء المنزل فور عودتهم؟ كيف لي الآن شراء منزل؟ أو كيف لي أن أستأجر منزلاً أيضاً؟ فأجرة أي منزل هنا وصلت تقريباً إلى مئة ألف ليرة سورية على الأقل، 27 دولاراً تقريباً، وأنا موظف حكومي أتقاضى شهرياً 75 ألف ليرة، أي ما يٍقارب 20 دولاراً".
أدى ارتفاع الأسعار الجنوني، والغلاء المعيشي الفاحش، إلى عزوف الكثير من الشباب عن فكرة الزواج من جهة، وانعدام الطبقة المتوسطة في المجتمع أدى إلى طمع بعض الفتيات بعريس "دسم" من الطبقة الغنية، من جهة أخرى، وهذا ما تؤكده مايا عبد الله، 23 عاماً، وتقول: "لم أنتظر حتى الآن لأعيش عيشة الفقر والحرمان، يكفيني ما أعيشه هنا من نقص في حاجاتي، وأنا مع أمي وأبي اللذين يُصارعان لتغطية نفقات عائلتنا، فأنا أريد الانتقال إلى حياة أفضل، لمَ لا؟".
تقطع مايا حديثها بابتسامة خجولة، لتُردد الجملة الشهيرة: "ألف شب بيتمناني، صبية حلوة وخريجة معهد موسيقى وقلبي طيوب". وهي شعرت بالغيرة نوعاً ما من صديقتها التي تزوجت شاباً من الطبقة الغنية وألبسها ذهباً يوم زفافها بقيمة أربعة ملايين ليرة سورية، أي قرابة 1،100 دولار. "لست متطلبةً مثلها، فأنا أريد ذهباً بقيمة مليون ليرة فقط، وبيتاً باسمي، لأضمن فيه مستقبلي، فهل هذا صعب أيضاً؟".
لا يُفارق خالد نرجيلته طوال فترة مكوثه في المقهى. يتحدث وهو يأخذ ما يستطيع صدره تحمله من دُخان، ليبدو وكأنه يُنفّس ما في داخله من احتقان. يقول: "بات هذا المقهى ملاذي ومهربي من سؤال متى سأتزوج"
تقول الدكتورة ابتسام موصللي، الأخصائية والمرشدة النفسية: "بحكم متابعتي للكثير من هذه الحالات، فالأمور تختلف في المدينة عن الريف، فأبناء المدينة لديهم القراءة الأبعد للوضع الذي نعيشه، ويفكرون في كلفة الزواج بدايةً، وحتى كلفة المعيشة الشهرية، ومقدار الوارد الشهري لإعاشة هذه الأسرة، ولا ننسى الوضع الأمني الذي أصبح شبحاً يهدد ويعرقل التفكير في الزواج، ولا يمكن للشاب أن يضمنوا حماية أسرهم بالكامل، وإخراجها تحت التهديد أو النزوح القسري. أما في الريف فهناك غض نظر عن الكثير من هذه العقبات".
بالنسبة إلى محمود السالم، 26 عاماً، فإن "الخدمة العسكرية شبح حقيقي يُلاحق الشباب. لا نعرف متى تنتهي، ولا ما هي المهنة التي يجب أن يعمل فيها الشاب بعد التسريح، حين يُصبح عمره 30 عاماً على أقل تقدير، هذا في حال عودته إلى الحياة أصلاً"، يقول: "قررتُ أن أُزيل فكرة الزواج بالكامل من عقلي. أصبح تفكيري مُوجهاً نحو السفر والخروج بعيداً عن هذه البلاد. هناك فقط يحق لك أن تشعر بالأمان، والاستقرار، ولمَ لا، الزواج بالتأكيد".
للمقهى حكايات كثيرة في تلك المدينة. ليست حكايات خالد ورفاقه إلا واحدة من قصص كثيرة، لأناس يهربون من كُل شيء، إلى ذلك المكان الذي على بساطته، يفتح قلبه للكثير من الشكوى، والضحك.
وليس الشبان وحدهم من تخلّوا عن فكرة الزواج. تقول راما (اسم مستعار)، 27 عاماً وهي من سكان القامشلي: "من قال إن الشبان وحدهم من عزفوا عن الزواج؟ أنا أيضاً لم أعد أفكر فيه نهائياً، لسببين اثنين: الأول، أن أحد الانفجارات التي هزت المدينة كان ضحيته والد خطيبي، بعده انقلبت حياة الأسرة رأساً على عقب. انهارت العائلة، وقررت الوالدة اصطحاب أولادها والسفر خارج البلاد، وهنا انتهت علاقتي مع خطيبي، وكانت الصدمة قويةً جداً".
تُضيف: "أما السبب الثاني، فهو عدم تقبّلي لأي موقف محرج أتعرض له أنا والشاب الذي أفكر في الارتباط به. خضعتُ لعملية جراحية لإزالة كتلة من الصدر، وأنا صريحة في ذلك مع أي شاب أفكّر في الارتباط به، ولكن نظرة الشاب إلي تختلف بعد معرفته هذه الحالة، وأنا الآن لم أعد أتقبل أي نظرة من تلك القبيل، لا بل صرفتُ النظر عن الزواج بالكامل. لم أعد أُغرّ بالكلام المنمّق الذي يختفي حال الارتباط".
في هذه المنطقة من سوريا، مشاهدة السيارات الفخمة والمطاعم الممتلئة بالعائلات والعشاق، توحي للوهلة الأولى بأن القامشلي مدينة الترف والمال. في مقهى كربيس، يجتمع الواقع على طاولة خالد ورفاقه. شبّان يُدركون أنهم في العدم، ويهربون من عدم أكبر، الزواج، ويجتمعون على نرجيلة وورق الشدّة، ليتنفسوا قليلاً، قبل أن يعودوا إلى يومياتهم المملّة والمُتعبة، ومحاولاتهم المُستمرّة للخروج إلى "الدنيا"، أي إلى خارج سوريا.
للمقهى حكايات كثيرة في تلك المدينة. ليست حكايات خالد ورفاقه إلا واحدة من قصص كثيرة، لأناس يهربون من كُل شيء، إلى ذلك المكان الذي على بساطته، يفتح قلبه للكثير من الشكوى، والضحك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت