تخيل نفسك نادلاً في مقهى، وجاءك زبون قائلاً لك: "أريد قهوةً من الفنجان"، فابتسمت ظانّاً أن اللغة خانته، وردَدْت قائلاً: "تقصد فنجاناً من القهوة؟ بكل سرور. تفضل بالجلوس وسيصلك حالاً". لكن الضيف أبدى استغرابه، وأكد قائلاً: "أريد قهوةً من الفنجان. الفنجان يوضع في القهوة وليس العكس، لعلك مرهق من شدة العمل".
الآن، لو اتفق لك مثل هذا الموقف، ما الذي ستفعله؟ بالحري ستسلّم بأنه مخبول أو تحاول إقناعه مراراً قبل أن تنتهي إلى النتيجة نفسها. لكن هل سيخطر ببالك للحظة أن هذا الرجل ربما جاء من بيئة مختلفة حيث تُسمى القهوة فنجاناً والفنجان قهوةً؟ هل ستلتفت أصلاً إلى فكرة أن هذه الأسماء التي اعتدت أن تضعها على الأشياء، ليست ضروريةً لها؟
في زمن غابر، كانت الحضارات الإنسانية تعتقد أن هناك علاقةً عضويةً بين الاسم والمسمى، وقد دفعهم ذلك إلى الاعتقاد بأن مجرد حيازتك اسم شخص آخر سيحقق لك السطوة عليه. أبعد من ذلك، كانوا يعتقدون أنك إذا ناديت ميتاً باسمه فقد أحييته.
طبعاً هذا التصور للعلاقة بين الاسم والمسمى يمكن القول إنه عفّى عليه الزمن، والتيار السائد حالياً في علم اللسانيات أن العلاقة بينهما اعتباطية بدليل اختلاف اللغات، فنحن نستخدم إزاء مسمى الحجر مثلاً، كلمات مختلفةً باختلاف ألسنتنا، ولو كانت العلاقة عضويةً لما تسنّى لنا وضع أكثر من اسم واحد للمسمى الواحد. هذا يبدو مقنعاً إلى حد بعيد، ولكن عند النظر إليه، يقفز إلى أذهاننا سؤال لافت وخطير: إذا كانت العلاقة بين الاسم والمسمى اعتباطيةً بحتةً، إذاً ما الذي دفعنا إلى تبنّي التصور المخالف في ما مضى؟ لماذا فكرنا أصلاً في احتمال وجود علاقة عضوية؟ هل هذا مرده إلى الارتباط الشرطي المتكرر على مدى الحياة بين اللفظ ومعناه، بحيث يخلق لدينا وهماً بوجود هذه الصلة ويجعل من العسير علينا تصور إمكانيات أخرى؟ أو هل يؤثر الاسم أساساً على طريقة إدراكنا للمسمى؟
يرى رائد الإناسة، كلود ليفي ستروس، أن التواصل بين البشر يتم من خلال ثلاث قنوات رئيسة: تبادل المعلومات، وتبادل المنافع، وتبادل الأشخاص
قنوات التواصل
في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، كان رائد الإناسة، كلود ليفي ستروس، يرى أن التواصل بين البشر يتم من خلال ثلاث قنوات رئيسة: تبادل المعلومات (اللغة)، وتبادل المنافع (الاقتصاد)، وتبادل الأشخاص (الرق، التبنّي، والزواج). لكن علماء اللسانيات كان لهم رأي آخر. فبحسب فرضية سابير وورف، يتم التواصل من خلال اللغة، واللغة فقط، وتقترح الفرضية أن المعجم يفرض عليك رؤيةً للعالم، وقد تُركت هذه الفرضية في السبعينيات ثم عادت مرةً أخرى لقيام دلائل قوية تؤكد صحتها.
إذا تأملنا هذه الفرضية، فنحن عندما نربط التواصل باللغة بشكل حصري لا نختزل عملية التواصل، وإنما نوسّع منظورنا للّغة، لكن ألا يُعدّ الإعلاء من شأن المعجم إلى هذا الحد، أمراً مبالغاً فيه؟
في بحث أجرته عالمة النفس المعرفي والأستاذة في جامعة ستانفورد، ليرا برودويتسكي، عن تأثير اللغة على الأفكار، سجلت ملاحظةً لافتةً تتعلق بسكان إحدى القبائل البدائية في أقصى شمال أستراليا، حيث لاحظت أن سكان القبيلة، بمن فيهم الأطفال، لديهم قدرة عجيبة على تحديد الاتجاهات في أي مكان يتم وضعهم فيه، وبسرعة، وحتى عندما يكونون مغمضي الأعين ويتم وضعهم في إحدى قاعات المحاضرات في ستانفورد التي لم يسبق لهم دخولها، الأمر الذي تبيّن بالمقارنة أنه ليس في مقدور الأساتذة الجامعيين أنفسهم الذين يرتادون القاعات منذ أكثر من أربعين سنةً.
هذا الأمر أثار عجب الباحثة، التي اكتشفت أن السبب وراءه هو عدم وجود كلمات في لغة هؤلاء تعبّر عن الجهات المضافة، مثل أمام وخلف ويمين وشمال، وعوضاً عن ذلك يستخدم متحدثو اللغة، لوصف مكان الأشياء، كلمات تعبّر عن الجهات المطلقة، مثل شمال شرق، وجنوب غرب... إلخ. فإذا طُلب من أحدهم تحديد مكان شخص ما مثلاً، فهو يجيب بأنه يقف شمال شرق الطاولة، وليس خلفها. هذا الأسلوب المحدد في التعبير وغياب إمكانية الإضافات، يجعلان المتحدثين مجبرين على تمييز الاتجاهات للتعبير عنها، وتالياً يطوران لديهم حساً بالاتجاهات أشبه بالبوصلة الداخلية.
تحديد رؤية العالم
مثل هذه التجربة، تجعلنا نقف لنعيد النظر في مفهومنا عن اللغة، ونسائل المفهوم التقليدي عن كونها مجرد مؤشر للأشياء في الخارج، إلى كونها عاملاً رئيساً في تحديد طبيعة المفاهيم وأنماط التعاملات بين الأفراد، بما في ذلك التعاملات الاقتصادية. ففي قبائل مثل قبائل "بيراها" البرازيلية، والتي لا تعرف معنى الأرقام وكل ما لديها للتعبير عن الكمية هو لفظتا القليل والكثير، كيف يمكن لها مثلاً أن تتعاطى مع المنهج الإسلامي في توزيع الميراث؟
قبائل "بيراها" البرازيلية، والتي لا تعرف معنى الأرقام وكل ما لديها للتعبير عن الكمية هو لفظتا القليل والكثير، كيف يمكن لها مثلاً أن تتعاطى مع المنهج الإسلامي في توزيع الميراث؟
قد يقول قائل إن هذه مجرد شذوذات تخص بعض القبائل البدائية هنا وهناك، أما بالنسبة إلى الشعوب المتحضرة فاللغات متشابهة تصورياً وبنيوياً إلى حد بعيد، ولا يمكن أن تحدث مثل هذه الشروخ والانكسارات بينها. وهنا نرد بتجربة أخرى للعالمة ذاتها ضمن الدراسة نفسها، أجريت على أفراد من شعوب متحضرة إن جاز التعبير، ناطقين بلغات مختلفة، قسم من هذه اللغات ينحو بكثرة إلى استخدام صيغة المبني للمجهول والفعل اللازم، كالإسبانية واليابانية، وعلى الجانب الآخر هناك اللغة الإنكليزية التي تعتمد بشكل أساسي صيغة المبني للمعلوم والفعل المتعدي، وكانت التجربة تشمل تعريض المختبَرين لفيديوهات تظهر أشخاصاً يقومون بأفعال سيئة بعضها مقصود وبعضها غير مقصود، مثل: فرقعة البالونات، وسكب عصير الطماطم والمشروبات، وكسر بعض الأشياء، ثم يُسألون عن بعض الأحداث المصورة، ويُطلب منهم تحديد الفاعل، وهنا لاحظت الباحثة أن كلا القسمين من المختبرين أظهرا الكفاءة نفسها في تحديد الفاعل للأفعال المقصودة، في حين تراجع أداء اليابانيين والإسبان وظهر تفوق الإنكليز لدى سؤالهم عن الأحداث العرضية. تقول هذه التجربة بشكل واضح إنه لدى الحاجة إلى الإدلاء بشهادة عن حادث سير مثلاً، حضره ياباني وإسباني وإنكليزي، ستكون شهادة الإنكليزي أجدر بالاعتبار من البقية، فقط بعنوان، كونه إنكليزياً.
عند هذا الحد نجد أنفسنا مضطرين إلى الإقرار بدور اللغة في تحديد رؤيتنا للعالم. لكن هل المسألة مرتبطة بالتصورات والمفاهيم المعقولة فقط، أم أن اللغة لديها القدرة على تغيير الواقع المحسوس؟ أو بالأحرى: العالم كما نراه بعيني رأسنا؟
قد تبدو هذه الفكرة غير معقولة، لكن الأبحاث في المجال أكدت ذلك حقاً؛ ففي أثناء دراستهم لإحدى القبائل البدائية في ناميبيا في إفريقيا، وتدعى الهيمبا، اكتشف العلماء أن أفراد هذه القبيلة يواجهون صعوبةً بالغةً في التمييز بين اللونين الأزرق والأخضر، وذلك لوجود كلمة واحدة "بورو" تعبّر عن كلا اللونين وألوان أخرى معهما. في المقابل، يظهر أن سكان الأسكيمو لديهم القدرة على تمييز عشرات الدرجات من اللون الأبيض بأسماء مختلفة، كذلك فإن الإيطاليين على سبيل المثال يعبّرون عن اللون الأزرق بكلمتين متغايرتين، فالأزرق الغامق بالنسبة إلى الإيطالي، لا يختلف في الدرجة عن الأزرق الفاتح، وإنما هو لون آخر تماماً.
يواجه أفراد الـ"هيمبا" صعوبةً بالغةً في التمييز بين اللونين الأزرق والأخضر، وذلك لوجود كلمة واحدة "بورو" تعبّر عن اللونين وألوان أخرى معهما
دورنا كبشر
مثل هذه المعلومات قد تبدو صادمةً لمجرد إدراكها، لكن الأدهى في الأمر أننا لا نملك إزاءها شيئاً، فإذا كانت اللغة وحدها كفيلةً بتحديد مفاهيمنا وتصوراتنا، وهي بدورها مضبوطة في المعجم ومحددة مسبقاً، إذاً ما دورنا في كل هذا؟ ألسنا مجرد ضحايا لحتمية اللغة؟
في الواقع، هناك الكثير من المخالفين لفرضية سابير وورف، فهي تعلي من شأن اللغات الغربية على حساب اللغات الأخرى على أنها الأكثر تعقيداً وتحمل سر الحضارة، في حين نجد في لغات كثير من الشعوب البدائية مستويات عاليةً جداً من التعقيد، كذلك فإن هذه الفرضية تعدّ أن اللغة تقيّد فهمنا للواقع بشكل كامل، والحقيقة أنها تفرض فهماً معيّناً يصعب تغييره ولا يستحيل، والدراسات نفسها تؤكد ذلك؛ فمثلاً سكان الهيمبا لم يفشلوا في التمييز بين اللونين الأزرق والأخضر، لكنهم واجهوا صعوبةً في الأمر، وعندما يتمكنون من تطوير كلمة أخرى تخص اللون الأزرق مثلاً دون الأخضر، سيغدو الفرق بين اللونين واضحاً، وهو ما حدث فعلاً مع اليابانيين الذين كانوا كقبائل الهيمبا لا يميزون بين اللونين، ثم طوروا لفظةً تعبّر عن اللون الأخضر، وانحصر معنى اللفظة الأولى باللون الأزرق. لهذا تجد إشارات المرور في اليابان تحمل اللون الأزرق بدل الأخضر، كمؤشر على العبور، فاليابانيون بعد تخصيص كلمة للّون الأخضر فضلوا تغيير لون الإشارة على أن يكلفوا أنفسهم عناء تغيير الاسم.
وما يؤكد أن اللغة لا تقيّد فهمنا للواقع بالكلية، أن الألفاظ عند وضعها في السياقات البيئية والاجتماعية المختلفة تحمل معاني أعمق وأكثر تركّباً، بحيث نقع على انكسارات في التواصل بين المتحدثين باللغة الإنكليزية من بلدين مختلفين كالولايات المتحدة وإيرلندا، بالرغم من استنادهما إلى المعجم ذاته، كما أن المتحدثين باللغة أنفسهم قد يتعمدون وضع كلمة في غير سياقها لخلق دلالة لها على المستوى الإيحائي لا تلبث مع التكرار أن تتكرس وتصبح أشد ارتباطاً باللفظة من دلالتها المعجمية، وهي لعبة بالغة الخطورة يحترفها الساسة بشكل خاص.
الإيحاء في اللغة
لننظر مثلاً في كلمة جهاد في الدين الإسلامي، ونبحث عن دلالاتها المعجمية والشرعية. لن نجد أبداً ما يشير إلى معنى الإرهاب والعدوان، ولكن ما أن تطرق هذه الكلمة أسماع كثير من الناس، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، حتى ترتعد فرائصهم وتقشعر أبدانهم وينفرون من سماعها، حتى أن بعض المنظمات الإسلامية التابعة لجهات الحكومية قررت رفع استخدام هذه الكلمة بشكل كامل. على الجانب المقابل، تُستخدم كلمات من قبيل الواقعية السياسية لتسويغ بعض الأفعال والتي هي في صريح العبارة خيانة محضة.
لننظر مثلاً في كلمة جهاد، ونبحث عن دلالاتها المعجمية والشرعية. لن نجد أبداً ما يشير إلى معنى الإرهاب، ولكن ما أن تطرق هذه الكلمة أسماع كثير من الناس، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، حتى ترتعد فرائصهم
ومن خلال هذه اللعبة المخادعة يتم تمرير رسائل مبطنة تشوّه الحقائق في أذهان الجماهير وتدفعهم إلى تبنّي مفاهيم وتصورات مغلوطةً، وما يترتب على ذلك من لوازم وتبعات، وأبسط مثال على ذلك القضية الفلسطينية؛ فعند استخدام لفظة عدوّ بين الفلسطينيين والصهاينة، كلاً بإزاء الآخر، تلتبس الأمور، وهذا الاستخدام ليس صحيحاً على أي حال، فالحق أن كلمة عدو تُطلق على من عداهم، فهي توضع إزاء المعتدي فقط دون المعتدى عليه، بهذا المعنى يكون الصهاينة أعداءً للفلسطينيين والفلسطينيون ليسوا أعداءً للصهاينة.
والأمثلة تكاد لا تُحصى عن المستوى الإيحائي للغة، ولن نطيل في ذكرها، ويكفي لأي أحد أن يفتح التلفاز ويُجري جولةً سريعةً على القنوات الإخبارية ليرى كيف تدار هذه اللعبة، ويمكن القول إنه ما من كلمة في اللغة تقريباً إلا ويختلف معناها في قليل أو كثير بين فرد وآخر، لذلك يرى أفلاطون أن السبب الرئيس في الخلافات التي تقع بين البشر، عدم اتفاقهم على معاني المفردات.
هناك عبارة للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، يقول فيها: "التسمية سلطة". هذه العبارة لو تأملت فيها لوجدت نفسك محاطاً بكمٍّ هائل من السلطات التي ترى لنفسها حق وضع الأسماء والملصقات. فالمسؤولون في الحكومة سلطة، والمحطات التلفزيونية سلطة، وقنوات التواصل الاجتماعي سلطة، والأب سلطة، والأم سلطة، والمعلم سلطة، وبالأحرى كل من يتكلم هو سلطة على من يستمع إليه. لذلك إذا أردنا ألا نُخدع بالتسمية، يجب أن نعيد مساءلة كافة الألفاظ ونرى حظها من الدقة في التعبير عن مسمياتها، وهذا مرتبط بالسياقات الاجتماعية والبيئية لهذه الألفاظ، أما في ما يخص الدلالة الوضعية الأولى التي نقع عليها في المعجم فهي، وإن فرضت علينا تصورات معيّنةً، تبقى مجرد مادة خام يمكن عند إدراكنا لها أن نعيد تشكيلها وتوظيفها في السياق الذي نرغب، لكن الأمر لن يقف عند هذا الحد، فالكلمات التي أعدنا تشكيلها ستمارس تأثيرها علينا، وستترتب علينا دائماً إعادة النظر فيها مرةً تلو الأخرى، وهكذا تستمر العملية. باختصار: نحن نشكّل اللغة واللغة تشكّلنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...