شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
خلت منه الموائد... الجميع يتبادلون الاتّهامات في أزمة اختفاء الأرز المصريّ

خلت منه الموائد... الجميع يتبادلون الاتّهامات في أزمة اختفاء الأرز المصريّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 9 نوفمبر 202204:41 م

منذ ما يزيد على شهر ونصف الشهر، تشهد مصر نقصاً في الكميات المعروضة من الأرز في الأسواق، والارتفاع الكبير في أسعار الكميات المتاحة منه. 

خلال تلك الفترة سعت الدولة إلى اتخاذ عدة إجراءات للتخفيف من حدة الأزمة، كون الأرز هو العنصر الذي يلي الخبز أهمية على موائد طعام المصريين، فأصدرت قرارات تلزم فيها تجار الأرز (الجملة والتجزئة) لبيعه للمواطنين بسعر 15 جنيهاً للكيلوغرام، ورفض بيع كمية تتجاوز خمسة كيلوغرامات من الأرز للمواطن الواحد. إلا أن الندرة في الكميات المعروضة وصلت بسعر الأرز إلى نحو 22 جنيهاً للأرز "الحر" فيما أعلن عدد من أصحاب شركات تعبئة وبيع الأرز عن وقف العمل وإتاحة منتجاتها من الأرز المعبأ بالأسواق، احتجاجاً على "فرض التسعيرة الجبرية"، متهمين الحكومة ممثلة في وزارة التموين بكسب التأييد الشعبي على حساب الصناعة ومخالفة قوانين السوق الحرة. وفي معركة المكاسب المادية والسياسية بين الاثنين، لا تزال موائد المصريين تواجه النقص والغلاء في السلع الغذائية، حتى تلك التي اعتادوا أن يعدوا منها وجبات رخيصة، كالكشري والمحشي وغيرهما من الأطعمة التي تكفل سد الجوع مقابل قيمة غذائية متواضعة

لا تزال موائد المصريين تواجه النقص والغلاء في السلع الغذائية، ومنها الأرز الذي اعتادوا أن يعدوا منه وجبات رخيصة، كالكشري والمحشي وغيرهما من الأطعمة التي تكفل سد الجوع مقابل قيمة غذائية متواضعة

قضية مناخية سياسية

في نهايات العام 2017، بعد عام من توقيع مصر وإثيوبيا والسودان للاتفاقية الإطارية الخاصة بإنشاء سد النهضة، بدا من الواضح أن محاولات مصر التوصل إلى اتفاق عادل بشأن إدارة مياه النيل يضمن حصتها التاريخية في المياه، هي محاولات "غير ناجحة".

وبدأت السلطات المصرية في دراسة الحلول التي يمكنها من خلالها إدارة حصتها الشحيحة من المياه التي لم يعد من الوارد زيادتها، وإنما قد تتعرض للخفض مستقبلاً. ومن الحلول التي رأت البلاد نجاعتها، اللجوء إلى تقليص المساحات المنزرعة من المحاصيل الكثيفة الاستهلاك للمياه، وعلى رأسها الأرز، على أن تعوض احتياجاتها الاستهلاكية عن طريق الاستيراد.

استقرت السلطات ممثلة في وزارتي الري والزراعة على منح حق زراعة الأرز لتسع محافظات سنوياً بالتبادل فيما بينها، على أن تتحدد المساحات "الفدادين" من خلال مديريات الزراعة والري في كل محافظة من المحافظات المختارة. 

يتناقض هذا الوضع، الذي يؤدي إلى انخفاض إنتاجية الأرز بنحو 28% - بحسب تقرير لوزارة الزراعة الأمريكية-، مع سعي البلاد إلى تقليل الاستيراد من أجل خفض عجز ميزان المدفوعات (النقد الأجنبي الموجه إلى الخارج).

يضاف إلى ذلك التغيرات المناخية التي أثرت في إنتاجية فدادين الأرز الباقية بالسلب، فبحسب الدكتور شاكر أبو المعاطي، أستاذ المناخ الزراعي ورئيس قسم الأرصاد الجوية بالمعمل المركزي للمناخ الزراعي (معهد بحثي حكومي)، فقد تراجعت إنتاجية فدان الأرز خلال السنوات السبع الماضية بنسبة تراوح بين 17 و 19 بالمائة. في الوقت الذي انخفضت فيه المساحات المزروعة أرزاً من 2.4 مليون فدان إلى 1.4 مليون فدان تقريباً، ونتج عن هذا كله انخفاض في حجم المعروض من الأرز مقابل ارتفاع تدريجي في الطلب. 

سعت الدولة إلى اتخاذ إجراءات للتخفيف من حدة أزمة اختفاء وغلاء الأرز، كونه العنصر الذي يلي الخبز أهمية على موائد طعام المصريين؛ ففرضت "تسعيرة جبرية" للبيع واجهها التجار بإيقاف التوريد وتصعيد أزمة نقص المعروض، ملقين باللائمة على الفلاحين

وفقا لإحصائية رسمية لقطاع الشؤون الاقتصادية بوزارة الزراعة المصرية، اطلع رصيف22 على نسخة منها، بلغت مساحة الأراضي المزروعة أرزاً عام 2012، نحو 1.47 مليون فدان، بإنتاجية قدرت بـ 4.01 مليون طن وبلغ سعر الطن وقتها 2067 (من المزرعة) جنيه للطن ما يعادل 322.9 دولار بأسعار ذلك الوقت (سعر الدولار في 2012 في نهاية 2012 يعادل 6.4 جنيه مصري).

تقلصت تلك المساحة بحلول العام 2018، لتسجل مساحة الأرز 859 ألف فدان، وبلغت إنتاجيتها مجتمعة 3.63 مليون طن، وبلغ سعر الطن من المزرعة 3552 جنيهاً (199.7 دولارات، بسعر 17.78 جنيهاً للدولار في نهاية 2018).

أعباء إضافية

إلى هنا لم يكن يعلم ياسر الديب المزارع الدمياطي أسباب تراجع انتاجية الأرض الزراعية من الأرز سوى قرارات وزارة الزراعة للمزارعين بتقليص مساحة الأرض توفيرا للمياه. "إحنا عايشين في معاناة لم تنقطع على مدار سنوات مش بنلاقي مياه تكفي ري الأرض، و بتنا نعتمد اعتماد كلي على مياه الصرف الزراعي" هكذا يبدأ الديب - البالغ من العمر 55 عاماً قضى معظمها مزارعاً- حديثه لرصيف22، يقول: "السنة دى زرعت 1.8 فدان أرز معرفتش أزرع أكثر من كده خاصة و أن [مياه] صرف 8 جمعيات زراعية تدخل على أراضينا، مما كان سببا مباشراً في تقليص المساحة المزروعة ونحتاج إلى مخصبات ومبيدات كثيرة أكثر من المعتاد بسبب الآفات الناتجة عن المياه الملوثة التي نضطر إلى الري بها، نتيجة لهذا ترتفع التكلفة وتريد الحكومة أخذ المحصول بأقل من سعر التكلفة". 

كلمات المزراع الدمياطي تفسر فشل وزارة الزراعة المصرية في تحقيق هدفها الأولى بإلزام المزارعين بتوريد 25% على الأقل من نتاج زراعة كل فدان إلى مخازنها خلال الموسم الحالي.

ويشير أبوالمعاطي إلى أن الأمراض التي كانت تصيب الأرز كامنة لكن مع "تغيير الجو"، ظهرت بصورة كبيرة مما أثر على الإنتاجية. وإلى جانب الحشرات والحشائش البرية الضارة التي باتت تهاجم الأراضي الزراعية، "ظهرت أمراض زي التبقع البني ولفحة الأرز وحفارات الساق".

الأرز أغلى من الذهب

اعتاد السيد إبراهيم، 48 عاماً، ابن قرية منشأة ناصر مركز شربين بمحافظة الدقهلية، على زراعة محصول الأرز كل عام منذ أن كان صبياً صغيراً يساعد والده في أرضهم، ولأن الأحوال الاقتصادية انعكست على العائلة ليفقد شقيقه فرص العمل المستقر، وأصبح الشربيني مضطراً إلى تقليل ما يبيعه من محصول الأرز كي يوفر مخزوناً يكفي أفراد العائلة.

يدرك الشربيني كغيره من المزارعين أن عدم ادخار الارز للاستخدام الشخصي يعني الاضطرار إلى شرائه من السوق بأسعار تفوق كثيراً ما قد يحققه من أرباح في حالة البيع إلى الحكومة، أو اصحاب المضارب الخاصة.  

في 31 أغسطس/ آب الماضي، أصدر رئيس الوزراء المصري قرار تحديد سعر بيع الأرز للمستهلك بما لا يزيد عن 12 جنيهاً للكيلوغرام غير المعبأ (يباع في الواقع بسعر 20 جنيهاً) و15 جنيهاً للكيلوغرام المعبأ (يباع بسعر 22 إلى 25 جنيهاً)، على أن يعمل بهذا القرار لمدة ثلاثة أشهر، وهذا ما يخفف الحصار الجديد من حالة تعطش السوق. رداً على قراره، أوقفت مضارب تبييض الأزر الخاصة التي تبيع الأرز المعبأ طرح إنتاجها في السوق بطريقة رسمية، وخُلقت "سوق سوداء للأرز" يباع فيها بالأسعار المرتفعة بعيداً عن الرقابة الحكومية.

 حاولت تلك الشركات تحميل المزارعين عبء تحركاتها، متهمة إياهم بالامتناع عن توريد الأرز، وهو ما ينفيه حسين أبو صدام نقيب الفلاحين المصريين. 

النائب مجدي الوليلي، عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات الغذائية، يرفض الاعتراف بالبيانات التي أصدرتها بعض شركات الأرز المعبأ الكبرى مثل الضحى والساعة، اللتين أعلنتا صراحة وقف البيع، يقول الوليلي لرصيف22 إنه "لا صحة لما ردده البعض حول وقف التجار توريد الأرز، فالأمور منتظمة تماماً". معيداً توجيه اللوم للفلاحين، "تم ضبط كميات كبيرة جداً تقدر بآلاف الأطنان من الأرز مؤخراً كانت مخزنة في زرائب لتربية المواشي وبيوت مهجورة، وتحفظت عليها الدولة ونُقِلت لمطاحن شركات قطاع الأعمال العام بمحافظات "دمياط والبحيرة وكفر الشيخ".

وأشار الوليلي لقرار وزارة التموين في اجتماعها المنعقد يوم الأحد الموافق 9 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، القاضي بـ"أحقية الدولة في استلام طن على بطاقة الحيازة الزراعية من كل مزارع أرز"، معلقاً: "لا يجوز أن سلعة إستراتيجية كالأرز يخبئها البعض في أماكن غير صحية وغير مؤهلة للتخزين لـيحتكروها ويبيعوها بأسعار مبالغ فيها، فهذا أمر غير قانوني مخالف لضوابط الدولة". 

الأرز برئ من الشراهة

"الأرز بريء من تهمة شراهته للمياه والدولة قلصت مساحة الأرض المزروعة به رغم أنه لدينا سبل علمية لتفادي ذلك القرار"، هكذا بدأ الدكتور عاصم عبد المنعم الأستاذ المساعد والباحث في المعمل المركزي للمناخ الزراعي في مركز البحوث الزراعية حديثه لـرصيف22، موضحاً: "قسم بحوث الأرز في مركز البحوث الزراعية استطاع استنباط أصناف من الأرز قصيرة المكث (ذات دورة زراعية قصيرة) وقليلة الاستهلاك للمياه، وكان يمكن تعميمها مع الإبقاء على المساحات المزروعة لتوفير الاحتياجات المحلية بأسعار تناسب القدرات الشرائية لعموم المصريين".

ينفي دكتور عاصم عبد المنعم الأستاذ المساعد في مركز البحوث الزراعية مسؤولية الفلاحين عن الأزمة، متهماً أصحاب المضارب والتجار بـ"الممارسات الاحتكارية، إذ يخزنون الأرز ويطرحون القليل منه لإحداث زيادة في الأسعار ولتهريبه بطرق غير شرعية إلى دول أوروبية"

وأشار الباحث إلى أن مصر كانت في السابق تزرع كميات تفوق احتياجاتها بغرض التصدير، ووصلت نسبة الاكتفاء الذاتي نحو 120% في بعض الأوقات، لكن مع تقليص المساحة بات الإنتاج للاستهلاك المحلي فقط بهدف توفير مياه الري وتوجيها إلى أنشطة أخرى.

وينفي عبد المنعم مسؤولية الفلاحين عن ارتفاع أسعار الأرز، متهماً أصحاب المضارب والتجار بـ"الممارسات الاحتكارية، إذ يخزنون الأرز ويطرحون القليل منه لإحداث زيادة في الأسعار ولتهريبه بطرق غير شرعية إلى دول أوروبية".

روشتة علاج 

بدوره يرى الدكتور شاكر أبو المعاطي ضرورة اتباع المزارعين "السياسة الصنفية"، أي "الالتزام بالأصناف المحدد زراعتها في كل محافظة من قبل وزارة الزراعة باعتبارها الجهة المعنية بذلك، واتباع موعد الزراعة المناسب الذي تغير نتيجة تغير المناخ، فقبل تلك التغيرات كان يجهز المزارع أرضه لزراعة الأرز في نهاية شهر مارس/ أذار وبداية أبريل/ نيسان. لكن الآن تغير الموعد لمنتصف أبريل وبداية شهر مايو/ أيار". علاوة على ضرورة الالتزام بكمية التقاوي الخاصة بكل محصول، واستخدام مياه جيدة في الري، "فالأرض شديدة الملوحة لا يجوز زراعة أرز فيها"، والاهتمام بعملية الري واختيار مياه الري المناسبة ومتابعة الحشرات والآفات والتعامل معها بالشكل المناسب وزراعة تقاوي منتقاة غير مصابة بالأمراض. 

فيما يرى عبد المنعم: "ضرورة تغيير الدولة معتقداتها بشأن أن الأرز أكثر المحاصيل استهلاكاً للمياه، فهناك محاصيل أخرى كـالموز و القصب أكثر استهلاكاً للمياه من الأرز". 

ويؤكد عبد المنعم أن الفلاح هو "صاحب الضرر الأكبر من تقليل مساحة الأرز، لذا فلا بد من أن يجتمع أصحاب المصلحة (الحكومة بوزاراتها المختلفة كالري والزراعة والبيئة والفلاح والتاجر والمُصدِّر) معاً لتحديد ما هو الصالح لمحصول الأرز بما يخدم قضية التغيرات المناخية، خاصة أن الأرز هو أكبر باعث لغاز الميثان فى قطاع الإنتاج الزراعي".

فيما يقترح نقيب الفلاحين استخدام أصناف من الأرز قليلة المياه والزراعة في أماكن بها مياه جوفية كـ"الفيوم والوادي الجديد".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image