حين أحاط مؤخّر رأسه بكفّه، مشيراً إلى أنّه هنا سيحتفظ بجسمي عارياً، فهمت ما كان يعني. بل وكدت أعلّق مستحسنةً ما قاله لولا أنّني فكّرت أنّ ما أقوله سيكون ساذجاً. كان يريد أن يستجمع جسمي كلّه، ليستحضر ما يشاء من أنحائه، وذلك فيما يكون يحدّق في وجهي من ذلك القرب. لكنّه، مع ذلك، كان يطيل التّحديق في ما تنتقل إليه عيناه وذلك قبل أن يوصل إليه يدَه. كـأنه يتعرّف، أو يختبر، أو يقارن ربّما بين الجسم الّذي كان قد اعتاده وبين هذا الّذي انكشف له الآن. وقد أسرعت إلى الظنّ، فيما هو يُنزل يده عن بطني، ليلامس الشّقّ الّذي وجده قريبا، فكّرت أنّه يستعجل قطع المراحل مسرّعاً الوصول بمجامعتنا إلى نهايتها. لكنّه عاد إلى تأمّل جسمي بعد ذلك، متمهلّاً، ومنتظراً ربّما أن أقوم بالخطوة المقابلة الّتي سيجد فيها عضوه محاطاً بيدي.
رحت أفكّر فيما أنا أقطع مسافة الرّجوع إلى بنايتنا أننا، كلانا، خرجنا من ذلك بأقلّ ممّا كنا نتوقّعه. بعد انتهائنا قضى حوالى عشر دقائق ممدّداً يحدّق في السّقف ثمّ، فيما هو يرافقني إلى الباب، كان يبعد نظراته ويهرّبها، ظانّاً ربّما أنّه لم يكن مثلما ينبغي له أن يكون. أنا أيضاً لم أتمكّن من إزاحة ذلك الشّعور الخفيف بالإحباط، على رغم شعوري بنشوة ما بعد المجامعة. لكنّني كنت أقول لنفسي إن شعوري ذاك عاديّ بعدما أتممت في ساعة واحدة ما قضيت أسابيع أهيّىء لحصوله.
رواية "فرصة لغرام أخير" لحسن داوود تصدر قريباً عن دار نوفل-هاشيت أنطوان، ونقرأ فيها حكاية عن علاقة حب مترددة ومحاولات تخطي العقبات العائلية والاجتماعيّة
أفكار كثيرة راحت تتوالى على رأسي فيما أنا أصعد الدّرجات إلى بيتي. في آخرها فاجأني تذكّري لذلك الشّخص المجهول الّذي ربّما لا يزال إلى الآن يلاحق ما يحصل بيننا. بل ورحت أتخيّل أنّه، في هذه السّاعة المتأخّرة، سيتلقّى المكالمة من عزّت أو سيبادر هو إلى الاتّصال به. وهو سيزوَّد بكلّ التّفاصيل عما جرى في هذه السّاعة الأخيرة. كنت قد تناسيته، أو أجّلت التّفكير فيه، وكان ذلك خطأً منّي، إذ لم يكن ينبغي لي أن أصل إلى ما وصلت إليه من دون أن أتأكّد أنّه لم يعد موجوداً.
وخطر لي أن أتّصل بعزّت، من لحظة ما أصير في غرفتي، ومن أجل ذلك أسرعت في تسلّق الدّرجات الأخيرة. لكنّني، فيما كنت أبحث عن ثقب المفتاح في ضوء الدّرج الخفيف، رأيت الباب ينفتح لي. كانت ساماواتي. «إنتي ليه هون؟» سألتها مستفهمةً وساخطةً إذ خُيّل لي أنّها كانت واقفة على الشّرفة فيما أنا أخرج من تلك البناية وأعبر الطّريق شبه راكضة. لكنّني لم ألبث أن أدركت أنّ شيئاً لا بدّ قد حصل. «صار شي؟» سألتها. كانت تحملق في وجهي، وهي أمهلت نفسها قبل أن تجيبني بأنّ ماما عطاف تعبانة.
أفكار كثيرة راحت تتوالى على رأسي فيما أنا أصعد الدّرجات إلى بيتي. في آخرها فاجأني تذكّري لذلك الشّخص المجهول الّذي ربّما لا يزال إلى الآن يلاحق ما يحصل بيننا
قالت لي إنّها ظلّت تدور في البيت وتقول إنّها ستموت ولن تجد أحداً يأخذها إلى المستشفى. «متل مجنونة مدام. صارت تسعل كتير كتير، وكل مرّة تسعل بهاي الكلينكس وتشوف فيها شو في، يمكن تشوف إذا في دمّ مدام. كمان صارت تقول إنّو هي مريضة متل التّلاتة اللّي راحوا عالمستشفى».
– وهيّي هلّق بغرفتها؟
– هلّق بالتّخت، بس يمكن تسعل بعد.
– يعني بعد ما نامت؟
– ما نامت، هي بتخاف كتير مدام.
إنّها تنصحني بالتّوجه إلى غرفتها. وأنا رحت أحدّق في وجهها كأنّني أنتظر أن تزيد شيئاً على نصيحتها تلك. وإذ بقيتْ ساكتةً وهي تحّدق في وجهي، سألتها إن كان باب غرفة مدام عطاف مقفلاً. كادت تبتسم في وجهي، إذ فهمت أنّني اهتديت إلى أضعف الحجج للتخلّص من تلك المواجهة.
– هيّي لازم تشوفك مدام... لازم تشوف إنتي جيتي.
كانت تدور في البيت، بحسب ما قالت ساماواتي، باحثةً أين أنا. أتخيّلها تتطلّع بعينين واسعتين في كلّ غرفة تقف على بابها وتنظر إلى ساماواتي كأنّها تقول لها إن لا أحد في هذه الغرفة أيضاً. لم يكن سعالها وخوفها من المرض ليوقفا تساؤلها أين ذهبتُ في هذا اللّيل. وإن عملتُ بنصيحة ساماواتي سأتلقّى، من لحظة ما أظهر لها واقفةً عند الباب، نظرة تساؤلها تلك: «وين كنتي؟»، ستقول نظرتها، بوقاحة من يتهّم، ومن دون أن تنطق بحرف واحد.
– رح اتركها تنام وترتاح، روحي إنتي نامي.
– أوكي مدام.
حين أحاط مؤخّر رأسه بكفّه، مشيراً إلى أنّه هنا سيحتفظ بجسمي عارياً، فهمت ما كان يعني... رواية "فرصة لغرام أخير"
* * *
– بعد ما نمت؟
– لأ، بس أنا بالتّخت.
– عمتطّلع بالسّقف؟
لم أقصد مشاكسته، وما قلته انفلت هكذا منّي. أما هو فلم يجب. أحسّ بأنني أُلمِّح إلى شيء لكنّه لم يعرف ما هو.
– كيف كانت الطّريق، سألني.
– مش طويلة صحيح، بس بتخوّف، كإنّي كنت عمإقطع حدود.
كنت أنتظر أن يعلّق بشيء على كلمة حدود. لم يفعل، وأنا رأيت أنّ ذلك راجع لعدم رغبته بالكلام.
– عبالك تضلّ لحالك، طيّب...
– لا...لا...كنت شويّ صافن، عمفكّر. إنتي مش طالع على بالِك تفكّري؟
أظهرني كما لو أنّ ما فعلناه مرّ عليّ هكذا من دون أن يترك فيّ أثراً.
– إنتَ هيك شايفني؟
– أكيد لأ. يمكن أنا عمزيدا شوي، لأنّي مش معتبر اللّي صار شغلة هيك بتمرق بسهولة.
– المهم تكون مش ندمان.
– (...)
– ... ولا خيفان
ولم يجب عن هذه الأخيرة أيضاً. أعرف أنّي تماديت في استفزازه. ولذلك توقّفت عن نطق الجملة الأخيرة الّتي كنت سأدعوه بها إلى أن يتوقّف عن النّظر إلى الصّور الموضوعة على الشّوفونييرة أمامه. بل إنّني، من أجل أن أبدو معتذرةً، قلت له إنّ أشياء حدثت في البيت فيما كنتُ هناك عنده. «بحكيلك بعدين» قلت، محرّكةً فضوله، فيما أنا أوقف المكالمة.
...
الغلاف الخلفي للكتاب
أرادت أن تبلّغ شيئاً بوقوفها على شرفتها، مع أنّها لم تنظر ناحية بنايتنا، إذ لم تشأ أن تضيف شيئاً على ما قد يعنيه ظهورها بتلك الثياب. لم أعرف إن كانت لمحتني وأنا أخطو خارجاً إلى الشرفة، ولا إن كانت رأتني فيما هي تنتظر، هناك في الأسفل، ارتفاع الأرض الحديدي للمرأب كي يتيح خروجها بسيارتها. رغم ذلك رحت أفكّر أن ظهورها على الشرفة كان لي، لتخبرني أنا. وهي ظلّت مبعدة نظرها عن بنايتنا لكي يظنّ عزت، إن رآها هو أيضاً، أنها خرجت هكذا، ليس من أجل أن يراها أحد. لكنّني في الوقت الي تلا راحت تخطر لي تفسيرات أخرى لظهورها ذاك، فكّرت مرّات أن أتصل بعزّت، لعلّي أفهم شيئاً، لكنّي لم أفعل. ثم خلصت إلى أن تشوشي حيال ظهورها يعود إلى اضطرابها. ربما بين علاقة توشك أن تنتهي وعلاقة على وشك أن تبدأ.
....
حسن داوود: روائي لبناني، مواليد بيروت 1950. حاز شهادة الكفاءة في الأدب العربي من كليّة التربية، الجامعة اللبنانية. عمل في الصحافة الأدبية في السفير التي أدار تحرير ملحقها الأسبوعي، وفي الحياة (1988-1999)، كما في المستقبل التي رأَسَ تحرير ملحقها الثقافي "نوافذ" (1999-2012).
صدرت له مجموعات قصصية وأعمال روائية من بينها "بناية ماتيلد" (1983)، "غناء البطريق" (1998) التي حازت جائزة المنتدى الثقافي اللبناني في فرنسا، "مئة وثمانون غروباً" التي مُنحت جائزة المتوسط الإيطالية (2009)، و"لا طريق إلى الجنّة" التي نالت جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية (2015). وقد تُرجمت رواياته إلى لغات عدّة.
...
جميع الحقوق محفوظة لـنوفل-دمغة الناشر هاشيت أنطوان ©
..
الرواية متوافرة في أفرع نوفل-هاشيت أنطوان في لبنان، والعالم، متوافرة على نيل وفرات، وأمازون كيندل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين