نقلت سامية محمود، الملقبة بأم علي (66 عاماً)، من منطقة أم البطوط في مدينة العمارة العراقية، زوجة ابنها البالغة من العمر 15 عاماً، بعد أن تعرضت لنزيف حاد وهي في الشهر الثامن من حملها، إلى مستشفى اليرموك في العاصمة بغداد، إلا أنها فارقت الحياة بعد 3 ساعات من وصولها إلى المستشفى، ولم يتمكن الأطباء من إنقاذها. لكن أم علي، واثقة من أن الطبيبة التي عالجتها هي المسؤولة المباشرة عن وفاتها.
تقول المرأة الستينية لرصيف22: "الطبيبة هي من تسبب في وفاتها، فقد كانت تتعالى علينا في تعاملها معنا؛ ‘خشمها يابس وتحجي بالكوة’"، وبرأيها فإن موت المريضة سبب كافٍ لكي تبحث عن الطبيبة، هي ومرافقاتها الخمس ليقتصصن منها، لكنهن لم يتمكن من العثور عليها، فقامت بطلب اسم الطبيبة الكامل وعنوان عيادتها من الاستعلامات، بحجة زيارتها من أجل استشارة طبية.
تروي أم علي، أنها في اليوم التالي هاجمت عيادة الطبيبة الواقعة في المنصور، وبرفقتها نساء من العشيرة، وتضيف: "بعدها، اتصل بها زوجي بالاتفاق مع شيخ قبيلتنا ليخبرها بأن تهيئ نفسها للعطوة (وهي مدة زمنية تمنحها العشائر من أجل التحضير للتفاهم بين الطرفين على المبلغ المالي المطلوب)، ونُعلمها بعدها بمهلة الفدية العشائرية"، مشيرةً إلى أن "الطبيبة كانت خائفةً جداً وقد أخبرتنا بأنها مقابل تركها، ستدفع المبلغ المتفق عليه". تكمل أم علي، حديثها باللهجة العراقية: "أخذنا منها 30 مليون دينار عراقي كومت فلوس على كلبها".
أدانت منظمة الصحة العالمية، في 26 شباط/ فبراير 2019، العنف الموجه ضد العاملين في مجال الصحة في العراق
حجج غير مبررة
تقول زينب الأسدي (35 عاماً)، وهي طبيبة من بغداد، إن "الاعتداءات غير مبررة بالمرة، ومن الطبيعي أن يتلاسن الطبيب مع عائلة المريض في كل أنحاء العالم، إلا في العراق، حيث يصطحب المريض على الأقل 5 مرافقين، ليعتدوا على الطبيب ويشتموه، فضلاً عن كمية الحقد والضغينة التي يحملها من يراجعوننا"، مشيرةً إلى أن "هناك حساسيةً تجاه الطبيب بسبب التعيينات المركزية، وظناً منهم بأننا نجني الأموال من دون تعب".
وتؤكد الأسدي أن "أعداد المرضى الكبيرة وتردّي الخدمات في المستشفى يجعلان المريض ومرافقيه ناقمين على الطبيب فقط، ناهيك عن الأطماع العشائرية التي تلاحقنا".
وأدانت منظمة الصحة العالمية، في 26 شباط/ فبراير 2019، العنف الموجه ضد العاملين في مجال الصحة في العراق، وفي هذا الشأن، قال الدكتور أدهم رشاد إسماعيل، ممثل منظمة الصحة العالمية في العراق بالنيابة: "تدعو منظمة الصحة العالمية السلطات العراقية إلى ضمان سلامة العاملين في القطاع الصحي والمرافق الصحية وحرمة الرعاية الصحية. كما تشكل هذه الهجمات انتهاكاً خطيراً للقانون الإنساني الدولي وتحرم أكثر السكان المستضعفين، من الأطفال والنساء وكبار السن، من حق الحصول على الخدمات الصحية الأساسية".
وتحدثت المنظمة عن تعرّض العاملين في المجال الصحي والمرافق الصحية في العراق، للعديد من الاعتداءات. ففي عام 2018 وحده، سجلت منظمة الصحة العالمية في العراق 42 حالة اعتداء في قطاع الرعاية الصحية، 40% منها كانت موجهةً ضد العاملين في مجال الصحة.
وقد أظهر استطلاع حديث "لأطباء بغداد" ضمن تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية في آب/ أغسطس 2022، أن 87% منهم تعرضوا لأعمال عنف في الأشهر الستة السابقة، وأن 77% من الأطباء يفكرون في الهجرة، فيما صرح المتحدث الرسمي لوزارة الصحة سيف البدر، عبر لقاء تلفزيوني يعود إلى عام 2019، بأن 20 ألف طبيب غادروا البلاد منذ 2003، وكان العنف سبباً رئيسياً في مغادرتهم، فيما تقول معلومات غير رسمية إن هذا الرقم تضاعف اليوم.
العنف بين الأطباء
لا يقتصر الاعتداء على الأطباء على المرضى والمرافقين فقط، إذ انتقلت عدوى السلوك العدائي إلى الأطباء في ما بينهم، فقد تعرض نقيب الأطباء جاسم العزاوي، في بغداد، بتاريخ 21 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، لاعتداء جسدي من قبل زملائه إثر خلاف نشب بينهم في نقابة الأطباء.
وقال العزاوي في تصريح له بعد الاعتداء، إن ثلاثة أطباء زملاء له وأعضاء في المجلس العام للنقابة وفي عمر أولاده وينتمون إلى أحزاب سياسية، حاصروه في مقر النقابة، وأضاف: "بعد دخولهم طلبوا مني أن أغادر المكان ‘شعندك هنا كوم اطلع بره انت مو نقيب’"، علماً أن العزاوي كسب مؤخراً حكماً قضائياً بتولي النقابة بعد خلاف حول المنصب حسمه القضاء.
الطبيبة هي من تسبب في وفاة زوجة ابني، فقد كانت تتعالى علينا في تعاملها معنا؛ ‘خشمها يابس وتحجي بالكوة’، وموت المريضة سبب كافٍ لكي نبحث عن الطبيبة، أنا ومرافقاتي الخمس لكي نقتص منها
يروي النقيب أنه خلال حواره معهم، قام أحدهم بالاعتداء عليه لفظياً، وآخر تهجم عليه وعلى شقيقه الذي كان موجوداً معه ويبلغ من العمر سبعين عاماً، فهرع إلى نجدته وإذ بهم ينهالون عليه بالضرب حتى فقد الوعي، ومن ثم نقله لاحقاً إلى المشفى لتلقي العلاج، مشيراً إلى أن الاعتداء حصل بسب رفضه طلب الأطباء الثلاثة تقديم استقالته.
الأطباء إلى المنفى
يحيى علي السوداني (78 عاماً)، من سامراء، وهو طبيب جرّاح، هرب من العراق منذ آب/ أغسطس 2011، إلى السويد حيث يقيم وعائلته بعد أن تعرّض هو وبعض أفراد أسرته لاعتداء عشائري نتيجة موت مريض لديه بسكتة قلبية على ما يقول في حديثه إلى رصيف22.
يروي السوداني أن مجموعةً من الأشخاص تهجموا عليه في مستشفى سامراء العام، حيث كان يعمل، نتيجة موت مريضة، فما كان منه إلا أن توجه إلى القضاء ورفع دعوى عليهم، فتم اعتقال شخصين من المهاجمين. يقول: "بعد يومين هجموا على منزلي بالسلاح ومرروا لي رسالة رئيس قبيلتهم بأسلوب فج، ومفادها أنه إذا لم أتنازل عن الشكوى فـ’سترى ما لن يعجبك’، وأنه عليّ الانتباه على ابني، كذلك طلبوا منّي دفع مبلغ مالي كتعويض عن ضرر".
تنازل السوداني سريعاً عن الشكوى، خوفاً على حياته وحياة عائلته، وعلى إثر ذلك ترك عمله، وجمع حاجياته وهاجر من العراق إلى حيث يقيم اليوم في السويد. هو مُقتنع بأن بعض العشائر غير المنضبطة اتخذت أسلوباً جديداً لكسب الأموال، عن طريق ابتزاز الأطباء وأن هناك ادعاءات كاذبةً من قبلهم تنال شريحةً مهمةً في البلد.
تروي الطبيبة شدن باسم، من بغداد، وهي خريجة جديدة وتعمل في مستشفى بجانب الكرخ، أنها تفكر في الهجرة ومعظم زملائها في العمل عملوا على معادلة وثائقهم، ويبحثون عن فرصة خارج البلد، والسبب الرئيسي هو العنف الذي يتعرضون لهم من المرضى وذويهم، فضلاً عن نقص الخدمات والمستلزمات الطبية.
الترقيع لا الحلول
في ظل الواقع المتردّي، وهرب الأطباء وتعرضهم لاعتداءات متكررة، حاولت الحكومة العراقية عام 2010، والتي كان يرأسها آنذاك نوري المالكي، مكافحة المشكلة من خلال إدخال قانون حماية الأطباء، وسمحت للأطباء بحمل المسدسات في أثناء العمل.
حاولت الحكومة العراقية عام 2010، مكافحة المشكلة من خلال إدخال قانون يسمح للأطباء بحمل المسدسات في أثناء العمل
وفي هذا السياق، تقول الحقوقية الدكتورة بشرى العبيدي، وهي أستاذة في جامعة بغداد كلية القانون، إن "الحكومات العراقية المتعاقبة، من خلال هذه القرارات، تخلت عن حماية المواطن وكلّفته حماية نفسه. فمنذ عام 2003، معظم المهن وليس فقط الأطباء سُمح لممارسيها بحمل السلاح، وتالياً لا يمكن أن نلتمس منها المساعي لنزع السلاح من العشائر والفصائل والميليشيات".
ترى العبيدي، خلال حديثها إلى رصيف22، أن هناك ضعفاً في تطبيق القانون، فلا نستغرب من هذا القرار حين نقرأ إعلان عطلة في محافظة الناصرية في معظم المدارس والسبب هو خلاف عشائري مسلح، أو عدم قدرة القاضي على تنفيذ القانون بسب الاعتداءات العشائرية والأطراف المسلحة، ناهيك عن بحث غالبية المواطنين عن رضا العشائر من أجل حمايتهم من هجمات العشائر الأخرى، وعلى هذا الحال فإن العراق خسر كفاءاته ومفكريه وها نحن في بلد اللا دولة".
تضيف: "المتحكمون بالعراق لا يعرفون سوى السرقة ولا يهمهم أي شيء آخر. وقانون حماية الأطباء وغيره هي إجراءات أقل ما يقال فيها إنها مهزلة مضحكة مبكية"، مشيرةً هي أيضاً إلى أنها تنوي الهجرة.
من جانبها، تصف باسم، هذا الحل بأنه "حل ترقيعي، وغير مجدٍ لأننا في حاجة إلى عناصر أمنية مكثفة خصوصاً أن بعض الردهات خالية من الأمن"، وتضيف: "أغلب الأطباء مسالمون وكارهون لحمل السلاح".
كذلك، تروي الطبيبة الشابة ما تعرضت له في إحدى ردهات مستشفى الكرخ في قسم الطوارئ: "أقبل شخص مطعون بالسكين يرافقه عدد من الأشخاص، وتوجه أحدهم إليّ بأسلوب حاد وصوت عالٍ قائلاً: "كومي شوفي هذا شبي"، ليرد مرافق آخر: "لا منريدها هاي متفتهم". لم أفعل شيئاً سوى أن نظراتي كانت حادةً، ليرد آخر: "فضيها يا زبالة".
وتضيف: "بعدها قامت امرأة ترافقهم بدفعي بقوة، ما دفع أحد الزملاء من الأطباء إلى التدخل لحمايتي"، طارحةً السؤال التالي: لمجرد نظرات حادة مني تعرضت لهذا الموقف، فكيف إن حملت مسدساً وأشهرته في وجههم؟"، وتُكمل أن معظم أهالي المناطق الشعبية يحملون السلاح الثقيل فلا أستبعد هجومهم على المستشفى أو على منازلنا".
تقول باسم: "إذا تم الإعلان عن وفاة مريض، علينا أن نستدعي حراس الأمن، أو نُجبَر على إعطاء الميت صدمات كهربائيةً مرتين أو عشر مرات حسب تفهم المرافقين الذين تكون أعدادهم كبيرةً"، آملةً بأن "يصل صوتنا إلى المراجعين وأن يكونوا على قدر كافٍ من التفهم، إذ إن معظمهم يعتقد بأننا نصرف الأدوية لأقاربنا فقط"، كما ناشدت الجهات المعنية أن "تسهل إجراءات الشكاوى التي يتم رفعها من قبل الأطباء، وأن يضعوا حداً لتدخلات العشائر".
الطبيب لا يبيع الخضروات
يتم تسجيل اعتداءات يومية على الأطباء، تبدأ بالسب والشتم والتهديد العشائري وقد تنتهي بالقتل. هذا الواقع تسبب في نقص كبير في الأطر الطبية والتمريضية، في الوقت الذي تحاول فيه وزارة الصحة استقطاب الأطباء المهاجرين من أصحاب الخبرات.
وفي هذا الشأن، تقول الدكتورة مها الصكبان (60 عاماً)، وهي طبيبة اختصاصها النسائية والأطفال وتعمل في مستشفى الديوانية العام، إن "المراجعين (المرضى) يقصدون الطبيب ويفرضون عليه آراءهم، فمثلاً يطلبون منك كتابة علاج من دون أن يعرفوا أو يسمحوا لنا بفحص المريض، وتظهر العصبية في أشكالهم وتصرفاتهم إذا طلب الطبيب إجراء تحليل معيّن، ليكون الرد على الفور بأن المريض لا يحتاج إلى تحليل ولا إلى غيره".
أقبل شخص مطعون بالسكين يرافقه عدد من الأشخاص، وتوجه أحدهم إليّ قائلاً: "كومي شوفي هذا شبي"، ليرد مرافق آخر: "لا منريدها هاي متفتهم". لم أفعل شيئاً سوى أن نظراتي كانت حادةً، ليرد آخر: "فضيها يا زبالة"
تذكرت الصكبان، أن في بعض الحالات من يزورونها هم أقارب المريض وليس المريض نفسه، فهناك من يأتي ليطلب دواءً لوالدته التي تشكو من آلام في معدتها، وحين يطلب الطبيب حضور المريض يبدأ المراجع بنوبات عصبية وشتم وصراخ. تقول: "أخبر المراجعين دائماً بأننا أطباء ولسنا بائعي خضروات، ولا بد أن أشاهد الحالة أو أطلب بعض التحاليل لتشخيص المرض".
وترى أن ارتفاع حالات الاعتداءات والحالات التي تم ذكرها سابقاً، هي نتيجة قلة الوعي الناتج من الشخصية العراقية اليوم التي صارت عدوانيةً وانفعاليةً وقلقةً وتتسم بالعجز المكتسب، بفعل آثار ما بعد الصدمة، وما خلّفته الحروب والإرهاب، وفشل الدولة الجديدة في تحقيق أحلام الرفاهة الاجتماعية والاقتصادية كما كان منتظراً".
ونظمت نقابة الأطباء العراقية وقفات احتجاجية عدة تنديداً بالاعتداءات المتكررة التي تطال الأطباء والتحشيد الإعلامي ضدهم، ودعت إلى تفعيل قوانين صارمة ضد من يتطاول على موظف في الملاكات الصحية، لا سيما الحد من تدخلات العشائر، وحاملي السلاح.
ففي 23 شباط/ فبراير 2019، نظم الأطباء في بغداد وعدد من المحافظات وقفةً احتجاجيةً موحدةً كانت مطالبهم فيها تتمحور حول "دعم القطاع الصحي، وضبط السلاح المتفلت وعدم إدخال الأسلحة إلى المستشفيات، وتزويد المستشفيات بكوادر أمنيه لحمايتهم"، تلتها وقفة احتجاجية أخرى عام 2021، عند باب شعبة الطوارئ في مستشفى الكندي، وشارك فيها نقيب أطباء العراق ومدير المستشفى سالم البهادلي.
ويعاقب القانون العقوبات العراقي في المادة 229 و230 و231 وكذلك المادة 6 من قانون حماية الأطباء، بالحبس 3 سنوات أو الغرامة من 200 ألف إلى مليون دينار، كل من يتعرض للأطباء، وتُشدَّد العقوبة في حال حصول جرح أو عاهة أو في حال حمل السلاح أو إذا كان الاعتداء من أكثر من شخص، إلا أن السلطات المعنية تعاني لتنفيذه وهي في غالبية الأحيان لا تقوم بالأمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...