يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.
أهمية المجتمع لأم تربي فتاة هي أنك لا تنفصلين عنه ما دمت تعيشين بين ناسه، وما دام لك خدمات في الحياة، ولديك مسؤوليات. التنازلات التي ستقدمينها أكبر من أحلامك، وهي تنازلات ليست أخلاقية، هي تنازلات إجبارية باختيارك عن حريتك، لأن لديك مسؤولية تجاه ناس يجب أن تراعيهم وتصلين بهم إلى بر أمان. فادعاؤك الحرية وضرب بكل قيودهم عرض الحائط لن يصيبك وحدك فقط، وإنما يصيب كل من تنتمي إليهم.
يا لها من معضلة معقدة، أن تعيش حياتك حراً مقيداً بإرادتك. كل هذا الجنون يضعني وغيري من الأمهات في مسؤولية كبيرة وضغط عصبي من الناس لمقاومة الإغراءات والخروج من الصراعات والوقوف في ركن الحياة خوفاً على من نعيلهم.
أما عن حياتي انا وابنتي حبيبتى "ضنايا"، فتخيلوا سنين مضت بسرعة من عمرها، فهي مواليد عام 2005 وكان يوم الأربعاء تحديداً. عندما ولدت - وكانت عملية قيصرية مؤلمة – أفقت من البنج على صراخها في مشهد لا أصدقه. وكنت أشعر بوخز الخياطة في بطني وأصرخ "بنتي بنتي". ثم دخلت في البنج مرة أخرى. لقد كسر لها الطبيب ساقها اليمنى عند الورك بالتحديد. وتخيلوا أني لم أستطع أن أحملها أو أمسكها ولا حتى أرضعها أو أغير ثيابها. كانت ولادتها تمهيداً لموت أمي رحمة الله عليها. فافتقدت أول سند وداعم لي في تربية ابنتي، إذ كانت مثالاً للأم المتفتحة المتفهمة المحبة للحياة.
عندما كانت طفلة، كان يتذمر المحيطون بي من طول صبري عليها في النقاش. وكانت الجملة الشهيرة: "دي صغيرة تقولي لها لا يعني لا مش هي اللي تمشيكي". والحقيقة أني غير مقتنعة إطلاقاً بهذا الأسلوب، وراهنت علي أن طريقتي هذه هي الأفضل
كي لا أسترسل في تفاصيل تخرجني من إحساسي بفرحتي بعيد ميلاد ابنتي الذي اقترب موعده لتتم عمرها الـ17، جميلة جميلات الكون كما أراها. وهي البنت التي قاومت كسر قدمها، فطارت كما تنبأ لها محمد بكر أبوها – رحمه الله - في كتاب الأطفال الذي أهداه لها، وبخاصة قبل وفاته بعنوان "البنت التي طارت". أتمنى أن تطيري يا نهى بأحلامك وتكون أيامك أحلى من أيامي ويكون أصدقاؤك أوفى من أصدقائي، وتكون أمنياتك محتملة التحقق، "ربنا يخليكي ليا ويخليني لك".
ابنتي نهى الآن تقوم بدور أمي، ذات سبعة عشر عاماً. تحاول إعطائي دروساً في تربيتها. أنا التي لم تعتد إلا القيام بدور الصداقة والعيش مدللة، فتصادقني وتدللني وتريدني ابنة مطيعة. وأنا أتذمر أحياناً كطفلة رافضة وصايتها علي. وأزعق فيها ببراءة وأقول لها: "متتكلميش معايا كدا أنا أمك". تنظر إلي بتعجب وكأنها تسخر منى وتقول لي: "والله؟" فأتركها لأهدأ وتفاجئني ببيت شعري مكتوب بخط غير مرتب: "القمر حارس الليل". فأضحك وأحتضنها، وأنسى أنني أم وأعود لابنتي.
في مجتمع يجرم أن تعيش امرأة وحدها، استطعت بالتجربة تكوين أسرة من أم وابنتها. حرصت على أن أتركها حرة العقل لا أبث لها أفكاراً جاهزة. نتناقش في كل التفاصيل. وعندما كانت طفلة، كان يتذمر المحيطون بي من طول صبري عليها في النقاش. وكانت الجملة الشهيرة: "دي صغيرة تقولي لها لا يعني لا مش هي اللي تمشيكي". والحقيقة أني غير مقتنعة إطلاقاً بهذا الأسلوب، وراهنت علي أن طريقتي هذه هي الأفضل وأتمنى أن يكون رهاني رابحاً.
أعيش في مجتمع غالبيته يعاني من الفكر الرجعي. أغلب الفتيات تحجبن بمجرد البلوغ وربما قبل ذلك. وعندما تعرضت ابنتي لانتقادات بعض أمهات صديقاتها بسبب عدم ارتدائها الحجاب جاءت لتسألني، فكان ردي لها: "أنا لا أمنعك، ولكن هناك قرارات تحتاج لوقت معين لاتخاذها". وها هي تتحرك بين الناس بشعرها، وردها حكيم دائماً إذا ما وجه لها هذا النقد.
أعترف انني لولا حبي وعشقي لعملي واستقراري به، حيث كان سنداً حقيقياً، ما كنت لأصبح بهذه القوة. وكان الهم الكبير أن يكون لي بيت يحميني أنا وهي. وبمعاونة الأصدقاء والصديقات، وقفت على قدمي. لكن، الحقيقة التي لا يمكن إغفالها هي أنني لو كنت اخترت طريقاً أكثر تمرداً، وعشت بحرية بعيدة عن مسؤولية وفكرة الأسرة، أظن وقتها لم يكن ليساعدني أحد.
أعيش في مجتمع غالبيته يعاني من الفكر الرجعي. أغلب الفتيات تحجبن بمجرد البلوغ وربما قبل ذلك
لقد تعرضت إحدى صديقاتي ذات يوم للنقد الجارح من أحد الاشخاص لأنها كانت تساعدني في حين أنا أذهب للمقهى وأدخن الشيشة. وأخرى امتعضت لأنني طلبت من زميل العمل وصديق العمر أن يذهب معي للمستشفى بالبنت عندما مرضت. وتعاملت معي بأسلوب جعلني أخاف الاتصال بأي زميل أو صديق متزوج على الاطلاق.
تلك بعض المواقف المتراكمة التي تتعرض لها النساء من سيدات يخفن على أزواجهن أو من زملاء في مجال العمل يحللون كل تصرفاتها بتأويلات جنسية فهي بلا رجل، ونميمة بشائعات على موائد المدعين بالإنسانية والحرية واحترام الآخر. مع الوقت، عرفت أنه عليّ الابتعاد بابنتي عن كل تلك المجالات. واكتفيت بمدرستها التي تعرف أن أمها وحيدة وأصدقاءها الذين يتمنون أماً مثلي. فقد صادقت البنت ولم أمنع عنها الحياة وحب الحياة. أجلس معها بالساعات وحدنا نتحدث ونلعب وأصحبها معي في كل مكان.
كانت بطلة حقيقية تحملت معي التنقل من سكن لسكن بكل قوة. وعرفت قيمة العمل والثقافة والتاريخ وتفخر به. في آخر حوار بيننا قالت لي: " تعرفي يا ماما لو لم تفعلي غير أنك اصطحبتني للمتاحف واشتريت لي كتب التاريخ فهذا يكفيني فخراً أنك أمي". وهي شابة الآن اظنها تعيش مرحلة مراهقة صحية بشكل أو بآخر لأنني لا أقوم بتخويفها من شيء. ولكنها بذكائها أصبحت تعرف أنها في مجتمع لن يرضى عنها إلا إذا اتبعت شروطه، ولكنها أيضاً بالذكاء الذي يجعلها تحقق ما تريد دون الاهتمام الزائد بالقيود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.