شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لستُم أقلّ شأناً من يوسف بك وهبة"... الدولة السورية والفنون قبل الوحدة مع مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 6 نوفمبر 202202:25 م

قبل إنشاء وزارة الثقافة في سوريا زمن الوحدة مع مصر، كانت علاقة الفنانين مع الدولة تمرّ عبر مجموعة أشخاص نافذين ومقرّبين من دوائر صنع القرار، وفي مقدمتهم طبعاً راعي الفنون النائب فخري البارودي. لم يكتب إلا القليل عن علاقة الدولة بالفنون قبل عام 1958، وتحديداً منذ سقوط الحكم العثماني عام 1918.

الفنون في عهد الملك فيصل الأول

البداية كانت مع الأمير فيصل، الذي تولى إدارة البلاد بعد تحريرها من الحكم التركي، وبايعه السوريون ملكاً عام 1920. كان فيصل رجلاً متنوراً ومنفتحاً على الفنون بكافة أشكالها، والتي تعرّف عليها عن قرب خلال زيارته إلى أوروبا لحضور مؤتمر الصلح في باريس. جال فيصل على مسارح باريس، وحضر عرضَ رقص باليه في فرنسا، كما أنه تعرف على مسارح لندن.

بعد عودته إلى دمشق، تلقى دعوةً لحضور أول عرض مسرحي أقيم في عهده بعنوان "جمال باشا السفّاح"، من تأليف الروائي السوري معروف أرناؤوط، وبطولة الفنان الفلسطيني الشاب عبد الوهاب أبو سعود. كانت أحداث المسرحية تدور بدمشق في زمن جمال باشا، الذي حكم البلاد بالحديد والنار، وبثّ الرعب في نفوس السوريين خلال الحرب العالمية الأولى. أطلق عليه السوريون لقب "السفّاح" بعد إعدامه لمجموعةٍ من السياسيين في ساحة المرجة يوم 6 أيار/مايو عام 1916. وفي المسرحية، لعب عبد الوهاب أبو سعود دور "السفّاح،" حيث قوبل بتصفيق حارّ من فيصل والجمهور.

قبل إنشاء وزارة الثقافة في سوريا زمن الوحدة مع مصر، كانت علاقة الفنانين مع الدولة تمرّ عبر مجموعة أشخاص نافذين ومقربين من دوائر صنع القرار، وفي مقدمتهم طبعاً راعي الفنون النائب فخري البارودي

أغضبت هذه المسرحيةُ المحافظين السوريين كثيراً، ومعهم كلّ رجال الدين، الذين اعترضوا على حضور فيصل العرضَ، وقالوا إنه بذلك كان يُشرّع مهنةَ التمثيل المستهجنة في المجتمع الإسلامي. مع ذلك، نشطت الحركةُ المسرحية في عهد فيصل القصير، وزار دمشق في عهده الفنانُ اللبناني جورج أبيض، الذي قدم ثلاث مسرحيات للجمهور السوري، هي: "عواطف الزوجة"، و"الشرف الياباني"، و"مضحك الملك".

لم يحضر فيصل تلك العروضَ، ولكنه أرسل رئيسَ حكومته الفريق رضا باشا الركابي نيابةً عنه. كما أنه عطف على الممثل عبد الوهاب أبو سعود، بطل مسرحية "جمال باشا السفّاح"، وأوعز إلى وزير المعارف ساطع الحصري أن يستفيد من موهبته، وتمّ التعاقد مع أبو سعود لإعطاء دروسِ تمثيلٍ مدفوعةِ الأجر في مدرسة الملك الظاهر في باب البريد، وفي ثانوية مكتب عنبر خلف الجامع الأموي.

الفنون في عهد الشيخ تاج الدين الحسني

خلال تجربته الفنية القصيرة، تعاون أحمد عبيد مع نادي الكشّاف الرياضي الذي كان قد ظهر في دمشق قُبيل الحرب العالمية الأولى كنادٍ للفنانين الهواة، مقرّه في شارع خالد بن الوليد، وكان يضمّ هذا النادي عبدَ الوهاب أبو سعود، ووصفي المالح، وهو فنان شاب من أسرة دمشقية كبيرة.

حصل نادي الكشّاف الرياضي على رعاية سياسية ومادية من الملك فيصل، وكان أعضاؤه يُقيمون معسكراتٍ تدريبية في جبل قاسيون، يتمّ خلالها تأهيلهم على كافة الأمور الكشفية، وتدريبهم على التمثيل والغناء. عاش نادي الكشّاف في دمشق أطولَ من عهد الملك فيصل، وظلّ يعمل ويُقدّم المسرحيات العالمية حتى نهاية العشرينيات، مثل "تاجر البندقية" لشيكسبير، ومسرحية "صلاح الدين الأيوبي" التي عُرضت بدمشق في كانون الثاني/يناير 1929.

تعرض النادي لحادثة نصبٍ أودت بكل مدخراته عندما قام المحاسب بسرقةِ جميعِ عائدات شباك التذاكر خلال تواجد الفرقة المسرحية في حلب، فأُجبر الفنانون الهواة على إعلان إفلاسهم، وإيقاف نشاطاتهم.

المُلفت هو أن رئيس الحكومة حينها، الشيخ تاج الدين الحسني، لم يرض هذا المصير للفنانين السوريين، علماً أنه كان من أسرة تقليدية متدينة ومحافظة. كان الشيخ تاج الدين رجلاً معمماً، وهو نجل أحد أشهر علماء بلاد الشام، الشيخ بدر الدين الحسني. ولكن كان، مثل فيصل، معجباً بالمسرح ولا يرى فيه تطاولاً على الدين والقيم الاجتماعية. خلال أسفاره المتكررة إلى باريس، كانت زيارة المسارح والمتاحف والمعارض الفنية جزءاً من جدوله الرسمي بترتيبٍ من الحكومة الفرنسية. وبعد وصوله إلى الحكم في شباط/فبراير 1928 أوعز إلى وزير الداخلية جميل الألشي بأن يدعم الفنانين المتضررين من إفلاس نادي الكشّاف الرياضي، فتم تأسيس نادٍ جديد بدمشق، حمل اسم "نادي الفنون الجميلة،" بعد أربعين يوم فقط من تصفية النادي القديم.

كان الشيخ تاج الدين الحسني رجلاً معمماً، وهو نجل أحد أشهر علماء بلاد الشام. ولكن كان، مثل الملك فيصل، معجباً بالمسرح، ولا يرى فيه تطاولاً على الدين والقيم الاجتماعية

وقدَّم له الشيخ تاج معونة مالية من خزينة الدولة لتجنب مصير نادي الكشّاف، وأُشهر النادي الجديد بأمر من رئيس الحكومة في 30 كانون الثاني/يناير 1930. وفي أيار/مايو 1935 زار الفنان المصري يوسف وهبي دمشقَ، فأقام له نادي الفنون الجميلة حفلَ تكريمٍ، وسمّاه رئيساً فخرياً، كما أعطيت عضويةٌ شرفية للفنانة المصرية الشابة أمينة رزق، التي كانت ترافق يوسف وهبي.

الفنون في عهد محمد علي العابد

تناوب على رئاسة النادي الفخرية عدد من الشخصيات السياسية، مثل صبحي بركات، رئيس المجلس النيابي عام 1932، وحضر رئيس الجمهورية محمد علي العابد إحدى مسرحياته، وطلب من الممثلين تقديم عرض خاص لضيوفه في القصر الجمهوري. كان هذا العرض، الذي تم في حدائق القصر في منطقة المهاجرين، هو أكبر تشريع لمهنة التمثيل في سوريا منذ أن حضر الملك فيصل عرض مسرحية "جمال باشا السفّاح" قبل ثلاثة عشر عاماً.

لم تكن هذه الدعوة غريبةً عن الرئيس العابد، الذي دَرَس على يد معلّمين إيطاليين، قبل انتقاله إلى العاصمة الفرنسية باريس لدراسة الهندسة المدنية في جامعة السوربون. تعرّف يومها على عالَم المسرح الأوروبي، وتطور إعجابه به بعد إقامة وجيزة في واشنطن، عندما كان سفيراً للدولة العثمانية عام 1908. خلال سنوات الحرب العالمية الأولى تنقّل العابد مع زوجته زهراء اليوسف بين نيويورك وباريس ومدينة نيس على الشاطئ الجنوبي لفرنسا، حيث ألِف نمطَ الحياة الغربية بكلِّ أبعادها، وحاول أن يطبق بعضاً منها في دمشق بعد انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1932.

الفنون في عهد شكري القوتلي

في شباط/فبراير 1944 وافق وزير المعارف نصوحي البخاري أن يرعى عرضاً مسرحياً لنادي الفنون الجميلة. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتمّ فيها عرض فني تحت رعاية وزير سوري، وأول احتكاك مباشر بين الدولة والممثلين منذ العرض المسرحي الذي أقيم في قصر الجمهوري عام 1932. حضر البخاري مسرحية "قيس وليلى" في سينما عائدة خلف السراي الحكومي، وكان برفقة رئيس الحكومة سعد الله الجابري ووزير العدلية عبد الرحمن الكيالي ونائب دمشق فخري البارودي. وكانت هذه المسرحية من أشهر أعمال أحمد شوقي، أدى فيها الفنان المعروف تيسير السعدي دور "قيس بن المُلوّح،" ولعبت الممثلة ماري البغدادي دور "ليلى العامرية".

استغل الفنانون حضور المسؤولين السوريين للفتِ انتباه الدولة إلى معاناتهم، ووقف وصفي المالح على المسرح قبل العرض، وألقى كلمةً قارن فيها بين أجورهم وأجور الفنانين المصريين في القاهرة. ضرب مثالاً بيوسف وهبي الذي كان يتقاضى 17 ألف جنيه في السنة الواحدة من حكومة مصر، وكان يُطالِب برفع المبلغ إلى 22 ألف جنيه وإلا سيضطر إلى إقفال مسرحه. ثم وجه المالح كلامه إلى المسؤولين الجالسين في الصف الأول: "مين فيكم يا أصحاب المعالي بيحزر أديش بياخذ نادي الفنون الجميلة سنوياً؟". لم يأتِه أيُّ جواب، فقال لهم المالح: "75 ليرة سورية بالسنة... يعني كل يوم حوالي عشرين قرش سوري، توزع على 30 فنان!".

وعندما أسدل الستار وانتهى العرض، صعد البارودي على المسرح للردّ على وصفي المالح، وكان هو راعي الفنون الأول في سوريا، قائلاً: هذا النادي، نادي الفنون الجميلة، خلق نفسه بنفسه، وهؤلاء الممثلون لم يتعلموا لا في البلاد المصرية ولا في البلاد الأجنبية. اغتصبوا الدموع من عيون الجميع، "وهي محرمتي الثانية يللي بمسح فيها دموعي. حتى سعد الله بك (الجابري) لحد الآن عم يمسح خدوده. فإذا كانت الوزارة ما رح تساعد هالنادي مساعدة كبيرة، لازم نتحمل المسؤولية إذا توقفت أعماله".

كان البارودي عائداً حديثاً من نيويورك، ممثلاً عن سوريا في معرضها الدولي المقام في الذكرى 150 لقسم الرئيس الأمريكي المؤسس جورج واشنطن. كان المعرض "عالم المستقبل"، وفيه عرضت اختراعاتٌ جديدة مثل التلفزيون والمياكروفيلم، وحضره العالم ألبيرت أينشتاين. على هامش كلّ ما رآه البارودي، كان الإبهار الأكبر في عروض برودواي الشهيرة، التي أثرت به كثيراً، كما أثر معرض شيكاغو بهنا كوراني وأبي خليل قباني من قبله.

صفق الجمهور لموقف البارودي من العرض المسرحي بدمشق، كما صفق له الفنانون الواقفون خلف الكواليس. وعند خروج الوفد الحكومي من الصالة، طلب سعد الله الجابري من تيسير السعدي ووصفي المالح أن يأتياه إلى السراي في اليوم التالي. اجتمع معهما بحضور البارودي، وأوصى رئيس الديوان كاظم الداغستاني (خال الأديبة ألفة الإدلبي) أن يؤمن لهما ما يحتاجانه من نفقات، قائلاً: "لستم أقل شأناً وقيمة من يوسف بك وهبة". لكن هذا الأمر لم يُنفّذ بسبب سقوط حكومة الجابري بعد أيام قليلة، قبل صرفها للمبلغ المطلوب.

في عهد القوتلي، قامت الدولة بإعفاء الموسيقيين والممثلين من دفع ضريبة الدخل، وعرض الرئيس على تيسير السعدي ووصفي المالح أن يذهبا إلى القاهرة على نفقة الحكومة للاستفادة من التجربة المسرحية المصرية 

ولكن رئيس الجمهورية شكري القوتلي أصرّ على متابعة الموضوع، علماً أنه لم يكن من رواد المسرح، ولكنه كان يتابع نشاطه عبر تقارير شفهية كانت تصله من طبيبه الخاص الدكتور عزّت مريدن، عميد كلية الطب في جامعة دمشق وأحد أبرز الداعمين لنادي الفنون الجميلة. في عهد القوتلي، قامت الدولة بإعفاء الموسيقيين والممثلين من دفع ضريبة الدخل، وعرض الرئيس على السعدي والمالح أن يذهبا إلى القاهرة على نفقة الحكومة للاستفادة من التجربة المسرحية المصرية.

وعندما عجزت السفارة السورية في مصر على تأمين مستلزماتهما المادية، قام القوتلي بتمويل البعثة بنفسه، فقدم لهما 500 ليرة سورية نفقاتِ سفرٍ وراتباً شهرياً مقداره 300 ليرة سورية للشخص الواحد. وفي القاهرة، تولّى رعايتهما جميل مردم بك، الذي كان يتنقل بين القاهرة والإسكندرية للإشراف على تأسيس جامعة الدول العربية، وطلب من أحد موظفي السفارة، وهو الشاعر الشاب نزار قباني، أن يرافقهما ويعرفهما على كبرى الأستوديوهات والفنانين والمخرجين المصريين. وقد تتلمذ السعدي والمالح في مصر على يد طه حسين، الذي علمهما تاريخ المسرح اليوناني.

وفي عام 1948، استقبل الرئيسُ القوتلي الفتى صباحَ الدين أبو قوس القادم من حلب مع أمّه بنية السفر إلى مصر. كان أبو قوس ابن شيخ جامع، ينتمي إلى أسرة فقيرة، وقد درس القرآن على يد شيوخ حلب، حيث برع بالتجويد. وقد لفت انتباه عازف الكمان سامي الشوا، الذي عرض عليه السفر إلى مصر لامتهان الغناء. سافر إلى دمشق لأخذ طائرة إلى مصر، وقبل موعد السفر، التقى الفتى أبو قوس بفخري البارودي الذي أدخله على مجلس الرئيس القوتلي، ليغني أمامه بحضور جميل مردم بك. أعجب القوتلي بصوته الرخيم، وعرض عليه المساعدة في تأهيله الفني، شرط أن يبقى في سوريا ولا يسافر.

تولّى البارودي رعاية صباح أبو قوس فنياً فقام بإحضار أشهر أساتذة الغناء من حلب، يقودهم الشيخ عمر البطش، لتدريبه على المقامات والموشحات، ثم أدخله إلى معهد الموسيقى الشرقي الذي كان قد أسسه في سوق ساروجا، وبعدها قام بتوظيفه في إذاعة دمشق. وقد غيّر الفتى اسمه من "صباح الدين أبو قوس" إلى "صباح فخري"، إعجاباً بفخري البارودي وعرفاناً لجميله.

استمرت العلاقة بين شكري القوتلي وصباح فخري، وبعد سنوات طلب منه الرئيس أن يُحيي حفل زفاف إحدى بناته، وفي يوم زيارته إلى حلب برفقة جمال عبد الناصر عام 1958، رفع صباح فخري الأذان أمام رئيسيْ سوريا ومصر، من مئذنة جامع الكلّاسة، الذي سمّي من بعدها بجامع جمال عبد الناصر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image