في سنة 1948 عصف وباء الكوليرا بسوريا وأهلها، فأطلقت حكومة الرئيس جميل مردم بك حملةً وطنية كبرى لتوعية الشعب، كان من ضمنها بثّ برنامج إذاعي بعنوان "إصابة مشتبهة"، فيه الكثير من الإرشادات الصحية والوقائية. أحداث التمثيلية كانت تدور حول شخص أميّ يُصاب بالكوليرا، ولكنه بدلاً من مراجعة المراكز الحكومية يلجأ لمشورة داية الحيّ (القابلة) التي لعب دورها الفنان سامي الكسم، نظراً لندرة الممثلات في حينها.
أطلق على الداية اسم "أم كامل"، وكانت تصف لجارها المصاب بالكوليرا مجموعةً من الوصفات المضحكة المبنية على الخرافات الشعبية. تمكن الكسم من كسب إعجاب المستمعين، لكنه اعتذر عن الاستمرار في تأدية دور "أم كامل"، فذهبت الشخصية لفنان أنور البابا، الذي طوّر بها كثيراً، وجعل لها برنامجاً خاصاً في إذاعة دمشق، ذاع صيته في مرحلة الخمسينيات. صارت "أم كامل" تُقدِّم عروضاً مسرحية في دمشق، وقد عرفها الجمهور بملايتها السوداء وسبحتها الطويلة، وصوتها المعروف عندما تبدأ أي حوار بعبارتها المعروفة: "يوه...يوه...تؤبروني".
انتقلت بعدها "أم كامل" إلى التلفزيون، ومن ثم إلى السينما، حيث ظهرت في أفلام عربية مع نجوم مصريين كبار مثل إسماعيل ياسين، لتكون أول شخصية نمطية ثابتة في عالم الدراما السورية. وظهر معها في برنامج "إصابة مشتبهة" الفنان الهاوي حسني تلّلو (وهو تاجر معروف كان يحب التمثيل) بشخصية "أبو فهمي،" الرجل الشامي البسيط والمعروف ببخله.
ولكن حسني تلّلو اعتذر عن الاستمرار بلعب شخصية "أبو فهمي"، فذهب الدور للفنان فهد كعيكاتي، الذي طور من الكاركتر، وأنشأ ثنائياً فنياً مع "أم كامل"، أصبح ركناً أساسياً في البرامج الإذاعية السورية طوال حقبة الخمسينيات. انتقل بعدها "أبو فهمي" إلى المسرح، ومن ثم إلى السينما والتلفزيون. بذلك يكون برنامج "إصابة مشتبهة" هو الذي أوجد أشهر شخصيتين كوميديتين عرفتها الدراما السورية منذ الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات: "أم كامل وأبو فهمي".
لعل شخصيات "غوار الطوشة" للفنان دريد لحام تُعدّ الأشهر في عالم الكوميديا السورية والعربية، التي ظهرت للمرة الأولى سنة 1964، وكان ظهورها الأخير في مسلسل "عودة غوار" عام 1998
الجمهور المعاصر من الشباب قد لا يعرف هاتين الشخصيتين جيداً، ولكنه يعرف نماذج مشابهة من "الكاركتر" التي ظهرت في لوحات مسلسل "مرايا" للفنان ياسر العظمة، أو في مسلسل "باب الحارة" مثل "أبو عصام" (عباس النوري) و"أبو بدر" (محمد خير الجرّاح). ولكن ماذا عن الشخصيات القديمة المماثلة، التي ظهرت بشكل مستمر في عدة أعمال تلفزيونية وإذاعية ومسرحية، مثل غوار الطوشة وحسني البورظان وفطوم حيص بيص وأبو عنتر وأبو صياح؟
غوار الطوشة
ولعل شخصيات "غوار الطوشة" للفنان دريد لحام تُعد هي الأشهر في عالم الكوميديا السورية والعربية، التي ظهرت للمرة الأولى سنة 1964، وكان ظهورها الأخير في مسلسل "عودة غوار" عام 1998. وكان دريد لحام قد بدأ مسيرته الفنية بشخصية غريبة عن المجتمع السوري، عبارة عن عازف جيتار إسباني يُدعى "كارلوس"، ظهر في برنامج "الإجازة السعيدة" عند بداية بث التلفزيون السوري سنة 1960. لم يحقق "كارلوس" أيَّ نجاح، بل تعامل الناس معه بفتور شديد، فقرر دريد استبدالَه بشخصية أقرب إلى الواقع الشعبي من حيث اللباس والمضمون.
كان يقول لحام دوماً إن "غوار الطوشة" ليس له عيد ميلاد وقد وُلد بالتدريج، فكان الاسم أولاً مستوحى من حارس على باب مبنى التلفزيون يُدعى "غوار الجدعان،" وهو من أبناء الجولان. مع مرور الوقت صار لِغوار لباسه المعروف: طربوش أحمر عتيق، قبقاب خشبي، وسروال مهترئ.
في سنة 1964، أي بعد أربع سنوات على تجربة "كارلوس،" ظهرت شخصية "غوار" المتكاملة في مسلسل "مقالب غوار"، الذي أُنتج بدايةً في نسخة لبنانية كانت من إخراج نقولا أبو سمح، ومن ثمّ في نسخة سورية من إخراج المخرج العراقي فيصل الياسري. حققت الشخصية نجاحاً منقطع النظير في سوريا ولبنان، فظهرت مجدداً في مسلسل "حمام الهنا" الكوميدي سنة 1968، وبعدها في مسلسل "صح النوم"، الذي نقلها من سوريا ولبنان إلى دول الخليج.
صار اسم "غوار" يدرج في معظم العناوين السينمائية لأفلام دريد لحام، حتى لو لم يكن البطل فيه شخصية "غوار"، وذلك لضمان رواج في العالم العربي. شارك "غوار" الشاشةَ مع ممثلين مصريين كبار، مثل سمير غانم ونبيلة عبيد وكمال الشناوي وشادية ومريم فخر الدين، ومع لبنانيين مثل صباح فيلمون وهبي، إضافة لوقوف نادر مع المخرج العالمي يوسف شاهين وفاتن حمامة في فيلم "رمال من ذهب".
ومن ثم انتقل إلى خشبة المسرح، بدايةً مع مسرحية "جيرك" (وكانت ضمن عرض يعرف بمسرح الشوك للفنان عمر حجو)، جاءت بعد هزيمة عام 1967. شكل دريد لحام ثنائياً فنياً مع النجم نهاد قلعي، ثم تعاون مع الشاعر السوري محمد الماغوط في مسرحيات "ضيعة تشرين" (1974)، و"غربة" (1976)، و"كاسك يا وطن" (1978).
حسني البورظان
كان نهاد قلعي فناناً محترفاً ومعروفاً في عالم المسرح، وبناءً عليه دُعي للمشاركة في تأسيس التلفزيون السوري سنة 1960. طلب منه المدير المؤسس الدكتور صباح قباني المشاركة في البث الأول، وجمعه مع دريد لحام الذي كان يعمل مدرساً حينها، وله نشاط مسرحي محدود في الجامعة السورية.
كان نهاد قلعي فناناً محترفاً ومعروفاً في عالم المسرح، وبناءً عليه دعي للمشاركة في تأسيس التلفزيون السوري سنة 1960. طلب منه المدير المؤسس صباح قباني المشاركة في البث الأول، وجمعه مع دريد لحام الذي كان يعمل مدرساً حينها وله نشاط مسرحي محدود في الجامعة السورية
تعامل الرجلان بداية في مسلسل "الإجازة السعيدة"، ومن ثم في "سهرة دمشق"، وكانت العلاقة الفكاهية بينهما مبنيةً على سلسلة من المقالب الخفيفة، بعضها مستند إلى فرق الحجم بين نهاد البدين وغوار النحيل، حيث كانا يشبهان الثنائي العالمي "لوريل وهاردي". لم تكن لنهاد شخصية محددة الملامح في بداية مسيرة التلفزيون، ولكنه ظهر باسم "حسني" في "سهرة دمشق". في إحدى المشاهد، كان يتحدث على الهاتف ويقول:" أنا حسني"، فيسأله المتلقي: "حسني مين؟". لوهلة نسي نهاد قلعي الحوار (وكان بث البرنامج مباشراً في تلك الأيام)، ونظر إلى خلف الكواليس ووجد أحد أفراد الفرقة الموسيقية يحمل بورظاناً، فقال: "اسمي حسني البورظان". أعجب الجمهور بهذا الاسم الذي اخترعته الصدفة، وأصبح علماً في عالم الدراما من يومها، يرمز إلى الرجل الطيب المغلوب على أمره.
ظلّ نهاد وفياً لشخصية "حسني البورظان" حتى بعد أن أقعده المرض سنة 1976، وصار يكتب رسومات متحركة للأطفال باسم "عمو حسني". كما أنه كتب وشارك في مسلسل واحد بعد مرضه، حمل عنوان "عريس الهنا"، وقد ظهر فيه بشخصية "حسني البورظان"، ولكن من دون "غوار الطوشة" هذه المرة. ولنهاد قلعي الكاتب الفضلُ في ابتكار ورسم ملامح عددٍ كبير من الكاركتيرات الفكاهية التي ظهرت في أعماله مع دريد لحام، مثل "بدري أبو كلبشة"، و"ياسينو"، و"فطوم حيص بيص"، و"أبو عنتر".
أبو عنتر
كان الفنان ناجي جبر يعمل في المسرح مع أخيه محمود جبر منذ الستينيات، وقد ظهر في إحدى العروض بشخصية قبضاي أزعر، له وشم على ساعده وشارب طويل متدلّ عند فمه، يرتدي كوفية على كتفيه مع سروال أسود عريض وقميص داخلي. لفت نظر دريد لحام خلال عمليات "الكاستنغ" التي كان يقوم بها تحضيراً لمسلسل "صح النوم" سنة 1971، وطلب منه الحضور إلى الأستوديو. كان من المفترض أن يكون دوره شخصيةَ الصانع في فندق صح النوم، ولكن الدور ذهب للفنان ياسين بقوش، واعتذر القائمون عن العمل من ناجي جبر.
نجاح الكيمياء بين "غوار وأبو عنتر" جعلت من ناجي جبر شريكاً أساسياً في معظم الأعمال الكوميدية اللاحقة، مثل الجزء الثاني من "صح النوم"، وتمثيلية "ملح وسكر"، ومسلسل "وين الغلط"
عرضت الحلقات الأولى من العمل من دونه، كما يظهر في شارة المسلسل. ولكنه أصرّ على المخرج خلدون المالح أن يعطيه فرصة، فوافق وطلب من نهاد قلعي إدخال شخصية "الزكرت" على الحلقة الثالثة من العمل، يكون سجيناً مع غوار في مخفر "حارة كل مين أيده ألو". كانت المسلسلات تُكتب وتصوَّر بشكل أسبوعي بحيث يمكن إدخال أي شخصية جديدة على العمل، أو حذف شخصية، إن أراد الكاتب والمخرج.
أعجب الجمهور بشخصية "أبو عنتر"، وطالبوا بتكرارها، فقام نهاد بإضافة مشاهد لناجي جبر، الذي تمكن من جعل نفسه شخصية رئيسية في العمل، لا يقل أهمية عن "غوار" و"حسني".
نجاح الكيمياء بين "غوار وأبو عنتر" جعلت من ناجي جبر شريكاً أساسياً في معظم الأعمال الكوميدية اللاحقة، مثل الجزء الثاني من "صح النوم"، وتمثيلية "ملح وسكر" المتممة، ومسلسل "وين الغلط"، وقد نقلها ناجي جبر إلى خشبة المسرح في حقبة الثمانينيات، وعاد إلى التلفزيون بشخصية مشابهة في المسلسل المعروف "أيام شامية" سنة 1992، علماً أن "أبو عنتر" ظل الأقرب إلى قلبه حتى وفاته سنة 2009.
بدري أبو كلبشة
كان الفنان الكوميدي عبد اللطيف فتحي هو نجم سوريا الأوحد في مرحلة الخمسينيات، لا يضاهيه شخص لا بالشهرة ولا بالأجر، وكانت له فرقة مسرحية كاملة تحمل اسمه، تخرج منها عدد من الفنانين الكبار. اتصل به دريد لحام وخلدون المالح سنة 1971، وطلبا منه إنقاذهم من ورطة، بعد أن اعتذر الفنان فهد كعيكياتي فجأة عن الاستمرار بتأدية دور "العريف أبو فهمي" (مدير مخفر حارة كل مين أيده ألو) في مسلسل "صح النوم". وافق فتحي على الفور، ودخل العمل متأخراً بشخصية "بدري أبو كلبشة"، التي قام برسمها بالتعاون مع نهاد قلعي.
أحبها الجمهور هذه الشخصية كثيراً، وصار "أنف" بدري أبو كلبشة الذي "لا يخطأ أبداً" من معالم المسلسل الشهير، إضافة لجملته الشهيرة عن "تدويخ موسوليني". وعلى عكس بقية الكاركتيرات التي ولدت مع "صح النوم" فإن شخصية "بدري أبو كلبشة" لم تنتقل مع عبد اللطيف فتحي خارج إطار "حارة كل مين أيده ألو"، وبقيت محصورة في الأعمال المتممة لمسلسل "صح النوم"، مثل جزئه الثاني وتمثيلية "ملح وسكر" وفيلم "صح النوم" السينمائي. وكان عبد اللطيف فتحي كلما شاهد صديقَه نهاد قلعي قال له: "سامحك الله، ثلاثون سنة مسرح والناس اليوم لا ينادوني إلا أبو كلبشة في الشوارع".
فطوم حيص بيص
كانت نجاح حفيظ قد ظهرت في أدوار ثانوية في مسلسلي "مقالب غوار" و"حمام الهنا" مع الثنائي دريد ونهاد، ولكنها انطلقت إلى عالم النجومية عندما وقع عليها الخيار لتقديم شخصية "فطوم حيص بيص" في مسلسل "صح النوم"، وهي أيضاً من ابتكار نهاد قلعي.
كان الفنان الكوميدي عبد اللطيف فتحي هو نجم سوريا الأوحد في مرحلة الخمسينيات، لا يضاهيه شخص لا بالشهرة ولا بالأجر، وكانت له فرقة مسرحية كاملة تحمل اسمه، تخرج منها عدد من الفنانين الكبار
كانت "الست فطوم" سيدةً جميلة تسكن في حارة "كل مين أيده ألو"، يتنافس على حبها كلٌّ من الصانع "غوار" ونزيل الفندق "حسني أفندي البورظان"، وكان شأنها شأن كل المشاركين في هذا المسلسل، الذي كتب النُقّاد في حينها أنه خلّد كل أبطاله دون استثناء. أصبحت "فطوم" من أشهر شخصيات الشاشة العربية، وقد ساهمت أغنية "فطوم فطوم فطومة" بتوسيع شهرتها، علماً أنها تخلّت عنها في مرحلة لاحقة من مسيرتها الفنية، لصالح دور الأم الحنون.
أبو صياح
في منتصف الخمسينيات، تعاقدت إذاعة الشرق الأدنى البريطانية مع الفنان الشاب رفيق سبيعي لتقديم مجموعة من التمثيليات الكوميدية. وافق وقال: "سأقدم شخصية أبو صياح، الشخصية الشعبية الشامية". كانت الإذاعة تبحث عن ممثل لتقديم دور صاحب مقهى شعبي، وكان الدور مكتوباً باللهجة المصرية، فطلبوا من سبيعي تحويلها إلى اللهجة الشامية. في اليوم التالي دخل رفيق سبيعي على الأستديو، ووقف أمام بطل العمل، الفنان اللبناني توفيق إسحاق، وقدم شخصية "أبو صياح" المستلهمة من التراث الشعبي، وهو قبضاي أمي كان سبيعي قد عرف الكثيرَ من أمثاله في سنوات طفولته وشبابه في حارات الشّام.
نجحت الشخصية، وقرر سبيعي تطويرها إذاعياً قبل نقلها إلى شاشة التلفزيون السوري عند بدء البث سنة 1960. وقد حققت شخصية "أبو صياح" نجاحاً باهراً بعد مشاركتها في مسلسل "مقالب غوار" سنة 1964، ومن ثم في مسلسل "حمام الهنا" عام 1968. أحياناً كان اسم رفيق سبيعي لا يظهر في شارة الأعمال التي يشارك بها، ويكتفي المنتجون باسم "أبو صياح"، وقد استخدمت الشخصية في الاحتفالات الوطنية مثل عيد الجلاء، وفي الترويج لمعرض دمشق الدولي. ثم نقلها سبيعي إلى المسرح والسينما، حيث شارك في فيلم "بنت الحارس" مع فيروز والأخوين الرحباني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين