خلّف رحيل أيقونة الشعر الحديث في السودان، المؤسس عبد الله شابو، حالةً من الصدمة العنيفة وسط المثقفين والشعراء السودانيين، ونعاه الشاعر حاتم الكناني، بقوله: "فقدنا الحكمة والبساطة النافذة، العظيم عبد الله شابو، في ذمة الله". وسرعان ما غرق المشهد الثقافي في البلاد ووسائل التواصل الاجتماعي في بكائية طويلة، كون شابو، بقي لأكثر من نصف قرن مساهماً بقوة في التنظير للشعر الجديد وبناء المؤسسات الأدبية وتشجيع الشعراء الناشئين، فضلاً عن أنه أحد الأضلاع المؤسسة، في ستينيات القرن الماضي، لتجربة "الغابة والصحراء"، برفقة الشعراء النور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحي، ومحمد المكي إبراهيم. رحل شابو، واسمه عبد الله إبراهيم موسى، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عن 80 عاماً.
الواقعية والتحرر
بدأ جيل شابو، يتحسس طرقاً مغايرةً في الكتابة الشعرية والأدبية ومعايشة تحولات العالم السياسية والفكرية، ولم يكتفِ بكتابة الشعر، بل ساهم في "التنظير" حول الشعر والإبداع عموماً، إذ تآكلت القصيدة العامودية، وبدت أقل من أن تستوعب قضايا مثل التحرر والمقاومة وقضايا الإنسان الشائكة والملحة، بعد أن وجد المبدعون أنهم في قلب معركة البناء الوطني، بين رحى كولونيالية غاربة وشموليات عسكرية وليدة، ما بعد منتصف القرن الماضي.
عبد الله شابو، المولود في الكوة، على شاطئ النيل الأبيض، عام 1938، أكمل تعليمه المتوسط والثانوي في مدينة كوتسي، ثم بُعث إلى المعهد الفني في مصر (1957-1960)، ومن ثم إلى الولايات المتحدة (1961-1963)، وعمل بعد عودته مدرّساً في الكلية المهنية للمرحلة الثانوية. كتب الشعر مبكراً، في الـ15 من عمره، ونشر في صحيفة "الصراحة" قصيدته "وجدانيات صرفة"، التي ستقدّمه للمجتمع الأدبي في الخرطوم حين ينتقل إليها.
"تلقائي ومرح"؛ هكذا يصفه الناقد عامر حسين. ويواصل: "انطوت روح سمحة تفرح قلب كل من يعرفها، وتلقائية ومرح لا يتكرران في الحياة". عاش شابو سودانياً صميماً ويسارياً يناضل مع طبقته من أجل الحياة المسلوبة.
يضيف حسين: "برحيله، يفقد الشعر العربي ووطنه السودان، أحد أبرز شعراء حقبة النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، ومثقفاً كبيراً تميز بإبداعه الجميل ومعرفته الموسوعية، واطلاعه الواسع، ومشاركته في كل نشاطات الحركة الثقافية السودانية".
نظر شابو إلى الهوية السودانية من خلال ثنائية الثقافة العربية والإفريقية، فقد كان يرى السودان بلد هجين
المنير الدؤوب
اشتهر شابو، بتواصله مع جميع الأجيال بروح الأستاذ والصديق والمحب للناس والمعرفة. يصفه حسين، بأنه موسوعة في الشعر وروّاده في كل أنحاء العالم. ويضيف: "لعبت إجادته اللغة الإسبانية بالإضافة إلى الإنكليزية، دوراً أساسياً في انفتاحه على آداب تلك اللغات، وتبحّره فيها مع روح طيبة في إشاعة المعرفة". وشكل مع جيله الطليعي سهماً للمعرفة، والنضال والنشاط في سبيل التنوير، وعلى دروب الحداثة المختلفة.
أسس مع شباب اليسار مجموعة "أبادماك"، التي شغلت الناس فترة الستينيات. يقول عنها: "لم تكن تياراً بمفهوم المصطلح الثقافي، ولكنها تنظيم أدبي انتظم فيه شعراء وكتّاب أرادوا أن يساهموا في التنوير، كلّ من موقعه، شاعراً أو كاتباً أو تشكيلياً. أبادماك، كانت تتكلم عن تغيير العالم سياسياً، ولذلك تمرد الكثيرون عليها، إذ كنا نرى أننا لم نأتِ للعمل السياسي، ونحن لنا قدرات أكبر من قدرات السياسيين". ويؤكد بعد تركه المجموعة: "أنا عبد الله شابو، الشاعر فقط". ومن ثم يواصل في بناء مؤسسات أهلية شعرية، منها ترؤسه نادي الشعر ورابطة الكتاب السودانيين، إلى جانب تأسيسه المبكر لمشروع "الغابة والصحراء"، الذي يصفه بأنه تيار فكري تاريخي، ينظر إلى الهوية السودانية من خلال ثنائية الثقافة العربية والإفريقية، إذ إن السودان بلد هجين".
عمل شابو، في سلك التعليم، وفي كل مراحله، كما تابع الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، ما أتاح له الفرصة لتحصيل ثقافة عالية المستوى في حقبة لم تتكرر في تاريخ العالم، في الإبداع والفكر والسعي إلى تغيير العالم نحو الأجمل، وهي حقبة الستينيات، كما يرى الناقد عامر محمد أحمد، مضيفاً: "كان مرجعاً نادراً في تلك الحقبة، لما احتوت عليه من تمرد ضد السائد والمألوف، وبداية تغيير ثقافي ومعرفي في كل المجالات، وهي زمن الخروج من الاستعمار وحركات التحرر الوطني وبداية تعرّف الإنسان إلى أخيه الإنسان بعيداً عن قيود الاستعمار والاستغلال وبداية المدارس الفكرية الجديدة وما تلعبه الآن في أزمنة ما بعد الحداثة".
كتب عبد الله شابو عن الإنسان، وأشواقه وأحلامه، وآلامه وأفراحه، وعن كوستي والكوة والخرطوم والقاهرة
من المغامرة إلى اكتشاف طرق جديدة
بدا الشاعر عبد الله شابو، مغامراً في إصدار أولى مجموعاته الشعرية بوسم جديد كلياً: "أغنية لإنسان القرن الحادي والعشرين"، عن دار الهنا في القاهرة، عام 1968. وفي بحثه عن طرق جديدة في الكتابة الشعرية أصدر مجموعة "حاطب الليل"، عن دار جامعة الخرطوم عام 1988، ثم "شجر الحب الطيب" و"أزمنة الشاعر الثلاثة"، عن دار عزة عام 2004، وأخيراً "إنسان يحدث الناس"، عن "المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون"، عام 2011. كما ترجم قصائد للشاعر الأسباني "لوركا" بعد تعلّمه اللغة الإسبانية على يد قسيس اتفق معه على أن يتبادلا تعليم اللغة، في محاولة منه لقراءة النصوص الأدبية في مظانّها الأم. واختير شخصية العام لـ"جائزة الطيب صالح"، عام 2015، "تقديراً لدوره الرائد في خريطة الإبداع السوداني، كونه أحد أبرز رواد الجيل الثاني من قصيدة التفعيلة في السودان".
يقول عنه الروائي عمر الصايم: "شابو لديه مفردة خاصة تفيض بالشجن والنداوة. ويضيف: "موسيقى شعره تدخل إلى الوجدان مباشرةً كشخصيته تماماً. طوال خمسين عاماً وهو يكتب الشعر بالجودة المعتقة ذاتها، وشعره بسيط المفردة عميق الفكرة، وهو ما جعله عميد الشعر في السودان، مع ود المكي ومحجوب كبلو وعالم عباس وعادل سعد". ويصفه بالصوفي العاشق والثوري المتمرد، "رقيق العبارة ومبلّل بالوجد. شابو المثالي والحالم، مناهض للانتكاس، وضد الدكتاتورية والظلم".
ويختتم حديثه قائلاً: "كتب عبد الله شابو عن الإنسان، وأشواقه وأحلامه، وآلامه وأفراحه، وعن كوستي والكوة والخرطوم والقاهرة وإسبانيا، وإفريقيا وأمريكا والإنسانية جمعاء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...