تبدو "المعاناة"، بأشكالها المختلفة، هي الباب الأوسع الذي يمكن الولوج منه إلى ظاهرة ترجّل الشعراء "المرهفين" سريعاً، مغادرين العالم في سن مبكرة، وآخرهم من مصر، إيهاب خليفة (1972-2021)، ومن قبله وسام الدويك (1971-2019)، وشريف رزق (1965-2017)، وأسامة الدناصوري (1960-2007)، من أحفاد أمل دنقل (1940-1983)، شاعر الرفض والاحتجاج والمقاومة المعروف، ومن أجيال وعصور سابقة: المصري صالح الشرنوبي (1924-1951)، والتونسي أبو القاسم الشابي (1909-1934)، والعراقي بدر شاكر السياب (1926-1964)، وغيرهم، ومن الشعراء العرب القدامى: طرفة بن العبد، وامرؤ القيس، وأبو تمام، وأبو فراس الحمداني، وآخرون.
على أن تعميم نظرية "المعاناة والرهافة" على هذا النحو لتفسير رحيل الشعراء مبكراً، هو من قبيل التبسيط بطبيعة الحال، فإذا كان الموت يختطف الأكثر حساسية ومثالية ونفوراً من سوءات المشهد وفداحة الحياة وقسوتها، فلماذا الشعراء هم الأكثرية بين فئات المبدعين الأقصر عمراً؟ هل فن الشعر أكثر انفتاحاً من غيره على بوابات العذاب؟ هل الشعراء أكثر من غيرهم تمرداً ورفضاً واستشعاراً للفجيعة، فقد يلجؤون إلى مواجهة المستحيل ومحاربة طواحين الهواء أو إلى الانسحاب اللاإرادي؟ أم أنهم أقل من غيرهم قدرة على المقاومة، فقد يلجؤؤن إلى الزهد والعزلة أو تدمير الذات؟
محنة العذاب
مقولة نيتشه الشهيرة "النوابغ يموتون في شبابهم، لأنهم طيّبون أكثر مما تستطيع الأرض تحمُّلَه"، تبدو حاملة في طيّاتها مساحة جزئية من مساحات الإجابة عن السؤال العريض: "لماذا يغادر الشعراء مبكراً؟". الشعراء يموتون في عمر الزهور، لأنهم نوابغ بمنطق نيتشه. لكن لماذا تبدو حياة الشعراء داخل خانة النبوغ، وهذه حقيقة إحصائية، أقصر من حياة غيرهم من المبدعين والأدباء النابهين، الذين يكتبون الروايات مثلاً أو المسرحيات؟
بالمنطق الاستسهالي ذاته، وبالبساطة ذاتها، قد تكون الإجابة: لأن الشعراء أكثر نبوغاً. والحقيقة أن التساؤل "لماذا يرحل الشعراء مبكراً؟"، بالرغم من أنه ينطلق من يقين الإحصاءات والقياسات الدقيقة لمعدلات أعمار الشعراء الأقصر من غيرها من المعدلات العمرية، فإن الإجابة عنه لابد أن تظل احتمالية غير مؤكدة.
الشعراء يحسون بالغربة عن الواقع، ويحتدم في دواخلهم اقتناع خالص بأنهم جاءوا في زمن غير زمانهم، وأن البشر كلهم على خطأ، وهم الوحيدون الذين على صواب
ولقد سعت لغة العلم بقوة إلى رصد ظاهرة الرحيل المبكر للشعراء، لكن تفسير الظاهرة لا يمكن أن يخضع لنظرية علمية محددة، وإنما يترتب على افتراضات واستنتاجات وقراءات وتحليلات يسهم فيها العالم والباحث الاجتماعي والمؤرخ والناقد الأدبي وغيرهم، بل ويسهم فيها بقدر كبير الشاعر ذاته (موضع الدراسة)، وذلك بما خلفه من إبداعات قد تكشف مقدمات موته المبكر وأسبابه.
وهناك من المراكز الأكاديمية ما ذهب إلى تحليل ظاهرة الموت المبكر للشعراء، ومحاولة إيجاد أسباب علمية لها، ومنها معهد أبحاث التعليم الجامعي في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، الذي نشر دراسات في هذا الصدد، تفيد تفاصيلها بأن الشعراء قد يتعذبون أكثر من غيرهم، أو أنهم يكونون أكثر عرضة لتدمير الذات، أو أنهم قد يصبحون مشهورين في سن مبكرة، وهو ما يجعل وفاتهم تحظى بالاهتمام أكثر من غيرهم ممن يموتون مبكراً ولا يشعر بهم أحد.
وتشعّبت تحليلات المركز في ضوء الكثير من الدراسات المتتالية لباحثيه، التي ترصّدت حياة آلاف المبدعين الأمريكيين والأوروبيين في عصور مختلفة، لتذهب إلى أن متوسط أعمار الشعراء حوالي اثنين وستين عاماً، وكتّاب المسرحية ثلاثة وستين عاماً، وكتاب الرواية ستة وستين عاماً، وبقية الكتاب ثمانية وستين عاماً. والمثير في النتائج كذلك أن الشاعرات كنّ أكثر عرضة للإصابة بالمرض النفسي قبل موتهن، وهو ما ترتب عليه إيداعهن بالمستشفى أو انتحارهن في بعض الأحيان.
والحقيقة، أن هذه المسارات والاستنتاجات تبدو ضبابية إلى حد بعيد، لأن الأسباب التي وضعها الباحثون كاختيارات متوازية أو كبدائل منعزلة، يمكن فعليّاً أن تلتقي كلها مجتمعة في حالة الشاعر الواحد محل الدراسة. فما الذي يمنع أن يكون الشاعر قد مات في سن صغيرة بسبب تعذبه أكثر من غيره، وأنه في الوقت نفسه قد لجأ إلى تدمير ذاته لعدم قدرته على تحمل عذاباته مثلاً أو ليأسه واكتئابه، ثم إذا به بعد موته أو حتى انتحاره الاختياري يُلقَى الضوءُ عليه أكثر من غيره نظراً لشهرته الفائقة، في حين أن أمثاله كثيرون من غير الشعراء، لكن لا أحد يدري بعذاباتهم وبتدميرهم لأنفسهم وبموتهم المبكر.
ومن ثم، فهي مجرد مجموعة من الافتراضات والاحتمالات يقدمها راصدو الظاهرة أنفسهم، تعروها الشكوك، فما بالنا بغيرهم من المراقبين فقط، الذين يتعاملون مع النتائج التي توصل إليها الباحثون الذين رصدوا الظاهرة؟
لا شك في أن أطروحاتهم وتصوراتهم وتحليلاتهم ستبقى رهينة الاحتمال. وقد تعبّر كل أطروحة من الأطروحات عن جانب من الحقيقة، وقد ينطبق أحد الشروط أو أحد الأسباب على شاعر دون سواه، وينطبق شرط أو سبب آخر على شاعر غيره، وقد ينطبق أكثر من شرط أو سبب على شاعر واحد، وهكذا. وبدون الاتفاق على هذه القابيلة للاختلاف في تحديد أسباب الظاهرة، لا يمكن التوصل إلى معرفة: لماذا يغادر الشعراء مبكراً؟
جمر التمرّد
ولعل هذه الأطروحات والتفسيرات، تعيدنا إلى ما أثاره الشاعر والكاتب المصري أحمد سويلم، الذي قدم تصوراً آخر لأسباب موت الشعراء، يمكن استشفافه من بين سطور مقدمة كتابه "شعراء العمر القصير" (الدار العربية للكتاب)، وينبني هذا التصور ببساطة على أن أسباب الموت المبكر للشعراء تقترن مباشرة بتمردهم الدائم والمبرر على الواقع، وكراهيتهم، أكثر من غيرهم، للحياة المزيفة، وزهدهم فيها. فالشعراء يتمردون على كل ما هو قبيح، وكل ما هو ناقص، وكل ما يجذب الإنسان إلى مناطق الفساد النفسي والاجتماعي. وقد ينفي الشعراء أنفسهم في الاعتزال عن الناس، وهذه العزلة لا تكون غالباً مجردة من المخاطر، فهم يلجؤون إلى تدمير أنفسهم بوسائل كثيرة مثل السُّكْر، وتغييب العقل بطرق مختلفة، لعلهم يزدادون بعداً عن الواقع.
والشعراء الذين يفعلون ذلك يؤكدون لأنفسهم العجز الكامل حتى عن مواجهة أنفسهم، ويصبح النفي هنا موتاً بطيئاً، طال أو قصر.
والشعراء هنا يحسون إحساساً خاصّاً بالغربة عن الواقع، ويحتدم في دواخلهم اقتناع خالص بأنهم جاءوا في زمن غير زمانهم، وأن البشر كلهم على خطأ، وهم الوحيدون الذين على صواب. ومن ثم، يفضلون الاعتزال لعلهم يصنعون لأنفسهم عالماً خاصّاً لا يعيشون فيه إلا هم وحدهم، لكنه عالم ممزق يزيدهم تمزيقاً وغربة ونفياً.
كان الشابي شاعر القلب، وشاعر الأحزان، حمل همّه الذاتي، وهمّ وطنه تونس، وهمّ الأمة العربية، بل همّ العالم الإنساني كله، فكانت حياته المثقلة بالحمولات معبراً قصيراً إلى الموت
وقد يزداد هذا الشعور لدى الشعراء، فيحكمون على أنفسهم بالموت المؤكد، أي أنهم يلجؤؤن إلى التخلص من حياتهم فجأة. ويفضلون ذلك تخلصا من المعاناة، ومما يشعرون به من هذا التناقض بين أحلامهم والواقع، بل نجدهم قد يعبرون عن سبب تخلصهم من حياتهم بأن أحلامهم قد انطفأت وانكسرت، فلماذا يحيون ويعيشون؟ وماذا يجدي لو استمروا في الحياة؟ ومن ثم يفضلون أساليب النفي والخلاص على أسلوب التراجع عن الموقف، والسير في دروب متعرجة، والاستجابة إلى بريق يبعدهم عن تحقيق الأحلام، فيفضل الشعراء أن ينجو بأنفسهم، ويؤثرون الموت المبكر على الحياة المزيفة التي تسقط أذكارهم، وتجعل منهم مسوخاً في المجتمع، وأمام أنفسهم وضمائرهم.
ثقل الحياة
وقد تكون الهموم الذاتية والوطنية، والمكابدات الروحية، والمعاناة التي يواجهها الشعراء، والاغتراب المرير، فوق حد التحمل، لدرجة أن يعتقد الشعراء دائماً أن الحياة ما هي إلا طريقاً قصيراً للموت، وهنا قد يجيء الموت بالفعل في ريعان الشباب.
ويذهب إلى هذا التأويل الناقد عبد العزيز النعماني في كتابه "رحلة طائر في دنيا الشعر" (الدار المصرية اللبنانية)، متخذاً من الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1909 – 1934) نموذجاً. ويذهب الباحث إلى أن هذا الشاعر المرهف الفذّ، لم يكتب شعره مأخوذاً بالذهنية الأسطورية فحسب، بل إنه استوى في البشرية متأملاً، محاولاً العثور على الأصل البكر.
التمسك بالرفض، قد يعجّل رحيل الشعراء
وقد رأى الشابي أن الإنسان ينبغي أن يكرس حياته للجمال والفن، من خلال أقطاب دلالية. وأول هذه الأقطاب جمال الطبيعة، والقطب الثاني، هو الغربة. فقد عزف الشابي عليه أنغام الألم، والمعاناة، واليأس، والضباب. أما القطب الدلالي الثالث، فهو الإبداع أو الكتابة، التي شقت طريقها في اتجاهين: اتجاه يستنفر أعماق الشاعر، واتجاه آخر يغوص في أعماق هذا الفن العظيم، فن الشعر. ولقد كان الشابي شاعر القلب، وشاعر الأحزان، حمل همّه الذاتي، وهمّ وطنه تونس، وهمّ الأمة العربية، بل همّ العالم الإنساني كله، فكانت حياته المثقلة بالحمولات معبراً قصيراً إلى الموت.
فورة الغضب
وبالعودة إلى نيتشه مرة أخيرة، فإن الشعراء هم أنبغ النوابغ، الذين يموتون مبكرًا لأنهم مرهفون وطيّبون ومتوهّجون فوق الحدّ. وهذا التوهّج الخارق تقرنه الناقدة عبلة الرويني في كتابها "الشعراء الخوارج" (الدار المصرية اللبنانية) بالرغبة الدائمة في الرفض والتمرد والاحتجاج والمقاومة والثورة على الجمود والخروج على المألوف.
فشاعر مثل أمل دنقل، مات في سن مبكرة، كان رضاؤه الحقيقي في كتابة القصيدة، التي تُعتبر لحظة كتابتها بديلة عن لحظة الانتحار. وهو كان دائماً غير محايد، لأن الشاعر المحايد شِعْره منه إليه، فحياد الإنسان يقتل في داخله الطموح. فالشعر لديه كان دائماً في موقف المعارضة، حتى لو تحققت بعض القيم التي يحلم بها الشاعر، لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل، والواقع لا يبدو جميلاً إلا في عيون السذج.
ومثل هذا التمسك بالرفض، على طول الخط، قد يعجّل رحيل الشعراء، حيث قد تتزايد صداماتهم المباشرة مع حكوماتهم أو السلطات السياسية والثقافية الرسمية في بلادهم، وينالون نصيبهم من الاعتقال أو التشهير أو التحقير أو النفي أو التجاهل بدرجة أو بأخرى عبر "الاغتيال البارد".
وقد يصل الرفض ببعض الشعراء إلى حد السقوط في العدمية الكاملة، والسوداوية، وحالات الاكتئاب، والموت البطيء، والتفكير في الانتحار، الأمر الذي يعجّل مغادرتهم الحياة بطعنات القهر والمعاناة، وهي الطعنات التي لم يسلم منها أمل دنقل وأحفاده من شعراء مصر المجددين: إيهاب خليفة، ووسام الدويك، وشريف رزق، وأسامة الدناصوري، وغيرهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت