تحمل الثورات الشعبية ضد أيّ احتلال صفات خاصة تجعل من نضالها ضد القمع والاستعمار، طريقة تحمل صبغتها الخاصة، وهذه الصبغة تنبع من سياق تاريخي يحمله أي مجتمع، وفقاً لعاداته وتقاليده وثقافته، وهو ما يشكل أسلوباً خاصاً، يعززه تأثر الأجيال فيما بعد.
ويمكن أن تظهر أفكار إبداعية مختلفة تسهم في خلق هوية وطنية حداثية للمجتمعات، وتزيد من الوحدة المعنوية والذاتية للشعوب، بحيث تتحول إلى "ترند" نضالي ثقافي، حاملة صوتاً يدلل على هذا الشعب مهما مر الزمن، وتتحول فيما بعد إلى ثقافة نضالية راسخة في الذات والهوية البشرية، ولطالما أسهمت مثل هذه الطرق في إرباك المحتل وتشتيت رؤيته، من خلال استمرار الشعوب في التماهي معها.
ظهرت في الهند ثقافة "الساتياغراها"، أي "الإصرار على الحقّ" والتي ترتكز على مفهوم "اللاعنف"، بقيادة المهاتما غاندي، الذي قاد الشعب الهندي من أجل التحرر من الاستعمار البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، إذ استخدم المسيرات اللا عنفية في مناهضة سياسة الاحتلال، فكانت مسيرة "الملح" كاسرة لإرادة الاحتلال في جبي الضرائب، ورافعة لعزم المواطنين الهنود في تحقيق آمالهم بالحرية.
واستخدم غاندي وأتباعه طريقة الضرب على صفيح البيوت، من أجل إرهاق الطيور، وإسقاطها من السماء، وإحداث خلل بيئي، يصعد الأزمات في وجه الاحتلال. وكان غاندي أول من استخدم الصيام عن الطعام حتى الموت، من أجل تحقيق الحرية، وهو ما نفذه الأسرى الفلسطينيون أيضاً مثل الإضراب الطويل عن الطعام، عبر حملة "مي وملح" لنيل الحرية من الاحتلال الإسرائيلي، حيث يستخدمون الماء والملح في محاولة للحفاظ على الحياة، دون تناول الطعام بكافة أشكاله، وكان آخر من حقق هدفه بالحرية من خلال هذه الطريقة، الأسير الفلسطيني خليل عواودة.
وقد كان للفلسطينيين أسلوبهم الخاص خلال مشوارهم النضالي ضد الاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي، حيث تحولت الكوفية الفلسطينية من غطاء للرأس إلى رمز وطني لمقاومة الاستعمار البريطاني، وصار الرجال يلبسونها كنوع من إعلان الحالة النضالية ضد المحتل وممارساته، فانتشرت في الأرياف الفلسطينية، وكان القائد عبد القادر الحسيني ممن ارتدوا هذه الكوفية وزادوا من شعبيتها في ثورة فلسطين ضد البريطانييين عام 1936، واتخذ القائد الفلسطيني ياسر عرفات الكوفية رمزا للنضال الفلسطيني، وداوم على لبسها بطريقة كاريزماتية، بداية الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1965، إذ كانت الطريقة الهندسية لارتداء الكوفية عند عرفات، ترمز لخارطة فلسطين التاريخية.
قداسة لا قماش
وقد نالت الكوفية مكانة الأيقونة في ذاكرة الشعب الفلسطيني، كنوع من تكريس فكرة الثورة ضد المحتل، وضمان نقلها بين الأجيال، وهو ما سبب الأرق والفزع للكيان الإسرائيلي ومناصريه، بمجرد رؤيتها. واشتهرت الكوفية الفلسطينية في العالم بشكل لا يتوقع، حتى صار الفلسطيني في الشتات يعتبرها هويته أمام الآخر، وطريقة رمزية لربطه بوطنه الذي لا يستطيع العودة إليه، فكانت تحمل فكرة "القداسة" في كثير من الأحيان، أكثر من كونها قطعة قماش فحسب.
اتخذ القائد الفلسطيني ياسر عرفات الكوفية رمزاً للنضال الفلسطيني، وداوم على لبسها بطريقة كاريزماتية، بداية الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إذ كانت الطريقة الهندسية لارتداء الكوفية عند عرفات، ترمز لخارطة فلسطين التاريخية.
وقد ظهرت المناضلة الفلسطينية ليلى خالد في وسائل الإعلام العالمية وهي ترتدي الكوفية حول عنقها وتحمل بندقية، عقب عملية اختطاف الطائرتين في طريقها من لوس أنجلوس إلى الأرض المحتلة في العام 1969.
«إن هذا الملبس الذي روّج له ياسر عرفات يعد الزينة المعتادة للإرهابيين المسلمين الذين يظهرون في مشاهد الفيديو الخاصة بقطع الرؤوس واختطاف الرهائن...» هذا ما علقت به ميتشيل مالكين، المعلّقة بشبكة فوكس نيوز اليمينية الأمريكية على موقعها على شبكة الإنترنت، وذلك في إطار الحملة الإعلامية التي شنّها مدوّنون متشددون في أمريكا ضد الكوفية الفلسطينية، راج هذا الحديث أيضاً عام 2008 عندما ظهرت الإعلامية الأمريكية الشهيرة ريتشيل راي في أحد الإعلانات الترويجية لسلسلة مقاهي "دنكن دونتس" وهي تضع حول عنقها وشاحاً مستوحى من الكوفية الفلسطينية بلونيها الأبيض والأسود، وبهذا، هب غبار لا يمكن حصره من المواقف العنصريّة، إذ شنّ العنصريون المتشددون الأمريكيون والإسرائيليون حملة ضد الشركة مطالبين بمقاطعتها ومنتجاتها حتى ترضخ وتقوم بحذف الإعلان، وقد تحقق ما أرادوه، وحذف الإعلان واعتذرت الشركة في بيان للرأي العام.
يقول المعمر أبو رشاد "خالد الطناني" (78عاماً) لرصيف22:"بداية الوعي على الحياة كانت بداية الثورة الفلسطينية، أول نقود امتلكتها من بيع الحطب، اشتريت بها الكوفية، كنت أشعر بالفخر بأنّني ألبسها، وأمتلئ بالشعور الوطني".
بداية الوعي على الحياة كانت بداية الثورة الفلسطينية، أول نقود امتلكتها من بيع الحطب، اشتريت بها الكوفية، كنت أشعر بالفخر بأنّني ألبسها
ويكمل:"على الرغم من أنني اشتريت بعدها عدة كوفيات، لكنني احتفظت بكوفيتي الأولى، لأنها كانت تحمل المعنى الأصيل للثورة الفلسطينية، وتحمل ذكريات أصيلة تربطني بفلسطين".
ويرى أبو رشاد أن "الكوفية بالأبيض والأسود، لا أجد في قلبي حباً لغيرها من الألوان، وكثرة الألوان في الكوفية، أو أي اختلاف عن الأبيض والأسود، يفقدها جمالها والمعنى الأصيل الذي اتخذته في نفوس الشعب الفلسطيني".
لثام الوجه
كان لثام الوجه من الطرق التي اتخذها الفلسطينيون بداية الثورة الفلسطينية عام 1965، وكذلك خلال الانتفاضة الاولى التي انطلقت عام 1987، إذ عمد الشباب المقاوم إلى ارتداء اللثام على الوجه، من أجل مراوغة جنود الاحتلال، وإخفاء تفاصيل الوجه، لتجنب الإيذاء والاعتقال، وإرهاب الجندي الإسرائيلي خلال تجوله في الشارع الفلسطينيـ وقد لاقت هذه الطريقة رواجاً بين شباب الثورة الفلسطينية والمطاردين من قبل الاحتلال، فتلثموا بالكوفية، واللثام الأسود بشكل يبرز عيونهم لا غير.
يقول أبو رشاد:"كان لثام رجال الانتفاضة يشعرنا بأن لدينا جيشاً يدافع عن فلسطين، كانت دقات قلبي تصل للسماء حينما أشاهد أحدهم ينطلق نحو الميدان، من شدة الفرح واللهفة، لقد كانوا أبطالاً ملثمين وهذا الطقس كان يسبّب الرعب لجنود إسرائيل، وشتتهم... كان الجندي الإسرائيلي يحمل بارودة في مخيم الشاطئ في غزة، لكنه يهرب حين يرى الملثم يهجم عليه، لقد كانت اللثمة تلقي الرهبة في قلب الجندي الإسرائيلي بالفعل".
كان لثام رجال الانتفاضة يشعرنا بأن لدينا جيشاً يدافع عن فلسطين، كانت دقات قلبي تصل للسماء حينما أشاهد أحدهم ينطلق نحو الميدان، من شدة الفرح واللهفة، لقد كانوا أبطالاً ملثمين وهذا الطقس كان يسبّب الرعب لجنود إسرائيل
ويضيف:"موقف كوميدي رأيته بأم عيني، ذات مرة ضرب مطارد فلسطيني ملثم زجاجة المولوتوف على مجموعة من الجنود الإسرائيليين، وتوارى بين أزقة البيوت، لقد ارتدى قميصين وبنطالين على جسده بالإضافة للثمته، وحينما طرق الجنود احد المنازل بقوة لاعتقال المنفذ، خرج وهو يفتح لهم الباب، وقد خلع الزي الظاهر واللثمة وأبقى عبر الزي الآخر، خرج يفرك عينيه كأنه استفاق على ضرب الباب بالهروات من الجنود".
دمى
وفي وقت تحولت الأجساد البشرية إلى دمى لا تخيف أحداً ولا يكترث لها الإسرائيليون، إذ فقدت الأجساد هيبتها، وفقدت الفكرة المحورية التي تتمثل في رمزية الوطن وقد شاع هذا بين الكثيرين، لكن بقيت رمزية الكوفية لا تأفل عند من عاش وطنه محمولاً في ذاكرته، ويراه قريباً بالرغم من الواقع المرير الذي يحياه الفلسطيني في يومياته.
يقول أبو رشاد ساخراً:"كان الجنود الإسرائيليون يدخلون منازلنا للتفتيش عن السلاح والكوفية، وأذكر ذات مرة، أنهم مزقوا دمية صغيرة كانت أمي حاكتها وحشتها بالقطن، وألبستها الكوفية، لقد قطعوها بأيديهم وأقدامهم، تخيل أن الاحتلال كان مرعوبًا من دمية".
أما السيدة خديجة البردويل فتقول لرصيف22: "لقد كان قلبي يرقص من الفرحة عندما أرى الملثم يمر أمامي، وأشعر بأن النصر على الاحتلال سيأتي، فلا يوجد أجمل من القوة والكبرياء أمام المحتل، وإسرائيل لا تكسر عينها إلا بالندية، فالجبان لا يستعيد وطنه، والشاب الملثم لا أعرف شكله ولا ملامحه، لكنني أحبه من صوت دقات قلبه وهو يلاحق الاحتلال".
تضيف أم فتحي: "قلبي حزين على ابني الشهيد، فمنذ الانتفاضة الأولى أحزن على فراقه، ولو كان حياً اليوم لبلغ الأربعين عاماً، كان يضع اللثام على وجهه، ليقاوم ضد الاحتلال، لكنه استشهد. ومنذ ذلك الوقت، كلما رأيت الملثمين اعتبرتهم أبنائي، لقد كان لي ابن واحد، وصار لي مئات الأبناء".
وتقول أيضاً:"عندما توضع الكوفية على الفلسطيني، فكأنما يحمل وطنه على كتفه، للأسف هناك أناس تعبت اليوم من حمل وطنها، وتركت النضال، ورضيت بحالنا السيئ".
ألوان رايات مختلفة
ومع تزايد عدد الفصائل الفلسطينية، اتبعت الفصائل سلوكاً مغايرًا عن طريقة النضال الفلسطيني المعتمدة، عبر تغييب العلم الفلسطيني والكوفية عن الاحتفالات الشعبية، وجنازات الشهداء، إلا في ما ندر، فغالباً ما تم تكفين الشهداء الفلسطينيين بألوان مختلفة الاخضر والأصفر والأحمر والأسود، تبعاً للون راية كل تنظيم، وغابت الكوفية وغاب العلم الفلسطيني، وسادت التفرقة، وظهر الانقسام السياسي، وتشتت الهدف النضالي الفلسطيني.
تقول الحاجة أم فتحي: "في الانتفاضة كان الشهيد يتم تكفينه بالكوفية أو علم فلسطين، أما اليوم، فيتم لفه بعلم الفصائل التي أصبحت أكثر من الهم على القلب، وهناك فارق بين الشهيد والميت، والله أعلم وأنا أجزم بأن هناك فرقاً ما بين الوطن وما بين ما يحدث على الساحة الفلسطينية من فرقة وانقسام وانحدار".
في الانتفاضة كان الشهيد يتم تكفينه بالكوفية أو علم فلسطين، أما اليوم، فيتم لفه بعلم الفصائل التي أصبحت أكثر من الهم على القلب
وتضيف:"في اللحظة التي أرى فيها أحد الرجال يرتدي الكوفية، أتذكر أن الوطن لا يزال بخير، وأن فلسطين ستتحرر مهما طال الزمن، فالكوفية ليست قطعة قماش للزينة، وإنما فكرة وأصل، ومن يترك أصله النضالي لا خير فيه".
ولم تتوقف الأساليب الفلسطينية في مواجهة عند نمط معين، فانتشرت أيضاً فكرة الإضراب عن الطعام أو استعادة الحق، كاقتباس من الثقافة الهندية، وقد قاد المعتقلون في السجون الإسرائيلية هذا الحراك النضالي تحت عنوان "مي وملح" وكافح العديد منهم لنيل الحرية وقد نجحوا في ذلك، وتحولت هذه الطقوس إلى أيقونات يدعمها الحس الشعبي بكافة أشكاله، عبر الاغاني والحملات الإلكترونية المناصرة، بالإضافة لجهود المؤسسات الحقوقية في هذا الإطار.
في الانتفاضة الأولى، ظهرت طريقة أخرى للتشتيت، مثل حرق إطارات السيارات خلال المظاهرات التي كان ينظمها الفلسطينيون أمام قوات الاحتلال، وقد عبروا من خلالها عن الغضب، واخرجوا النار التي بداخلهم من خلالها، وأسهمت في الكثير من المواقف بحجب رؤية جنود الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين المتظاهرين، كنوع من التمويه. كما ظهرت لاحقًا - بفعل التكنولوجيا - ثقافة نضاليّة حداثيّة، مثل ظهور "جيش الهبد" الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي، والمنظّم من قبل شباب فلسطينيين عزموا على ملاحقة الصفحات الإعلاميّة المناصرة للاحتلال، ونجحوا في ذلك عدة مرات، إذ اضطرت صفحات لقنصليات ووسائل إعلام غربيّة، لتعديل منشورات أو حذفها.
وآخر التقاليع النضالية، كانت قبل أيام، خلال محاصرة قوات الاحتلال لمخيم شعفاط في العاصمة القدس، لجأ شبان المخيم لحلق رؤوسهم بهدف تشتيت قوات الاحتلال التي كانت تبحث عن الشهيد عديّ التميمي، لمنعها من الوصول إليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...