تعجّ وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات لعرب واقعين تحت تأثير سرديات المسلسلات التركية المغمّسة بالأحلام العثمانية الحديثة، كأرطغرل وعاصمة عبد الحميد، ويُمطرون حساباتهم بعبارات مديح لزمن الحكم العثماني.
هؤلاء ربما فاتهم التعرّف على فصول كثيرة من تاريخ السلطنة، وآخرها حين تعالت صيحات القوميين الأتراك الذين نظروا إلى أنفسهم على أنهم عرقٌ رفيع، بينما اعتبروا العرب درجة ثانية، فظهرت حركات قومية عربية مُناهضة للقومية التركية، وكتب مثقفون عرب كثر شهادات وتعليقات عمّا عاصروه.
عبد الرحمن الكواكبي
واحد من أبرز مثقفي ودُعاة القومية العربية، وواحد من أشد خصوم الحكم العُثماني، هو المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي. حاول العثمانيون اعتقاله في حلب، ففرَّ هارباً إلى مصر، ومن هناك أصدر كتابيه الشهيرين "طبائع الاستبداد" و"أم القُرى"، واللذين دفعا السلطات التركية إلى اتخاذ قرار بمصادرة مخطوطات كثيرة كان قد كتبها.
أمر مشابه كان قد جرى قبله مع جمال الدين الأفغاني فور موته، إذ أرسل السلطان بعض موظفي القصر ليستحوذوا على أوراقه ومؤلفاته ويدفنوه بسرعة حتى لا يحتشد أتباعه، حسبما روى مصطفى عبد الرازق في مقدمة "العروة الوثقى".
في كتابه "أُم القرى"، يقول الكواكبي إن السلطان عبد الحميد الثاني كان "يخشى علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم والتاريخ". كما يصف رجال الدين الموالين للسلطان بأنهم "جهلة معممين" أو "عمائم السلطان".
وكخلاصة لما عاينه في السلطنة، دعا الكواكبي إلى فصل الدين عن الدولة، إذ إن عبد الحميد الثاني كان يستقطب العامة بالعاطفة الدينية.
ويتحدث الكواكبي عن كراهية العثمانيين للعرب والعربية، ويعلّق: "ولا يُعقل لذلك سبب غير بغضهم الشديد للعرب كما يُستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال في حق العرب، كإطلاقهم على عرب الحجاز ‘ديلنجي عرب’ أي العرب الشحاذين، وإطلاقهم على المصريين ‘كور فلا’ بمعنى الفلاحين الأجلاف، وتعبيرهم بلفظة عرب عن الرقيق وعن كل حيوان أسود، وقولهم ‘يس عرب’ أي عربي قذر".
وفنّد المفكر السوري النهضوي أسطورة دفاع بني عثمان عن الإسلام، فذكر تخاذلهم عن نصرة ضحايا الأندلس، وجرائمهم الإرهابية في حق المصريين وأهل اليمن. يقول: "هذا السلطان محمد الفاتح وهو أفضل آل عثمان قدّمَ الْمُلّكَ على الدّين، فاتفق سراً مَعَ فرديناند ملك الأراغون ثمَّ مَعَ زَوجته إيزابيلا على تمكينهما مَعَ إِزَالَة مُلك بني الْأَحْمَر، آخر الدول الْعَرَبيَّة فِي الأندلس، وَرَضي بِالْقَتْلِ الْعَام وَالْإِكْرَاه على التنصر بالإحراق، وضياع خَمْسَة عشر مليوناً من الْمُسلمين، بإعانتهما بإشغاله أساطيل إفريقيا عَن نجده الْمُسلمين".
ويضيف: "وَهَذَا السُّلْطَان سليم غدر بآل الْعَبَّاس واستأصلهم، حَتَّى أنه قتل الْأُمَّهَات لأجل الأجنة. وتعاقبوا على تدويخ اليمن، فأهلكوا إِلَى الْآن عشرات ملايين من الْمُسلمين يقتلُون بَعضهم بَعْضاً (يقصد في زمنه)، لَا يحترمون فِيمَا بَينهم ديناً وَلَا أخوة وَلَا مُرُوءَة وَلَا إنسانية، حَتَّى أَن الْعَسْكَر العثماني باغت الْمُسلمين مرّة فِي صنعاء والزبيد وهم فِي صَلَاة الْعِيد".
وكانت نهاية الكواكبي أن مات مسموماً. وذكر المفكر السوري محمد كرد علي أن الكواكبي استشاره في أمر عَرض عُرض عليه للذهاب إلى الآستانة لمصالحته من السلطان لكنه صعب عليه إبداء رأي بالأمر "لأن ابن عثمان لا تأخذه هوادة في مَن خرجوا عن سلطانه، وخشينا أن تكون هناك دسيسة يذهب الرجل ضحيتها".
شكيب أرسلان
كان شكيب أرسلان مِن المُقرّبين من السلطان عبد الحميد الثاني والاتحاديين من بعده، وأشد المُدافعين عن الدولة العثمانية ولو على حساب عروبته، نظراً إلى طبيعة منصبه ومكانته التي ورثها عن أبيه في لبنان.
رغم ذلك، يقدّم رأياً واضحاً وصريحاً في السلطان عبد الحميد الثاني، فقد كتبَ في سيرته الذاتية: "في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، ساءت الأحوال في مكدونية (مقدونيا)، لأن السلطان كان أكثر همّه في المُحافظة على شخصه. وكان شديد التخيّل إلى درجة الوسواس؛ فاستكثر من الجواسيس وصار بأيديهم تقريباً الحلّ والعقد".
"أنا أكره الدولة العثمانية لأنني أحب الإسلام وعظمة الإسلام ولي رجاء برجوع مجد الإسلام. خذوها يا مسلمون، كلمةً من مسيحي... إنْ لم يتغلب الإسلام على الدولة العثمانية، فسوف تتغلب أمم الإفرنج على الإسلام" (جبران خليل جبران)
يُستشفّ من كتابات أرسلان أن السلطان عبد الحميد كان يعتقد أنه مركز الكون وأن هناك مؤامرة كبرى للإطاحة به، ما دفعه إلى تعيين ولاة ومسؤولين هم في الأصل جواسيس.
وبعد انقلاب جماعة الاتحاد والترقي على السلطان وتوليهم زمام الحكم، وبروز الثلاثي أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا السفاح، لم يتغير الوضع، بل تمادى الترك في اضطهاد العرب، وظهرت سياسة التتريك العُنصرية.
إبان عامي 1915 و1916، دُبّرت مجازر في حق مثقفي لبنان وسوريا. في الأولى قُتل سبعة، وفي الثانية قُتل عدد أكبر وعلى رأسهم عُمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري. وكان شكيب أرسلان، حسب مذكراته، يكتفي بالنصح وتقديم الشكاوى في جمال باشا، وكان الأخير ضيّق الصدر، ويصفه أرسلان بأنه "كان مغروراً بنفسه، وقد زاده تمامُ حريته في العمل، وانطلاق يده بما شاء، غروراً وسُكراً أيام كان في سورية، فخرج عن دائرة المعقول في كثير من الأمور، ووصل به الأمر إلى أن صار يجمع أعيان البلاد بلدةً بلدة، ويحصي عددهم، وينفي منهم عشرة في المئة آخذاً إياهم بالرقعة!"، كما كتب في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية".
وفي العام 1917، بعد أن حمي وطيس القتال بين الإنكليز والعثمانيين في غزة، وكانت الجولة الأولى لصالح الأتراك، انتهز جمال باشا وأعوانه الفرصة للإيقاع بشكيب أرسلان. ويذكر الأمير اللبناني في كتاب سيرته الذاتية حواراً دار بين الصدر الأعظم طلعت باشا والكاتب الثالث للسلطان إحسان بك الذي سأله: "هل يُمكنك أن تذكر لي أسماء أولئك الأعيان السوريين الذين يريد جمال باشا اتخاذ التدابير الشديدة بحقهم؟ فأجابه طلعت باشا: نعم، هم شكيب أرسلان بك وأخوه عادل، وآخرون من جملتهم أنت".
ويبدو أن مصير شكيب أرسلان كان سيؤول إلى ما آل إليه مصير سابقيه مِن المثقفين المقتولين على يد التركي جمال باشا، لولا أن الأخير انسحب مُنهزماً من فلسطين بعد أيام.
"أطلّبُ إلى الله أن تؤولَ الحرب العالمية إلى تفكيك الإمبراطورية العثمانية، فيتسنى لسوريا الأم أن تفتح عينيها الحزينتين، وتحدّق مرة أخرى إلى الشمس" (جبران خليل جبران)
ويروي أرسلان في سيرته قصة عن عنصرية الاتحاد والترقي، بدأت بإنشاده، في حضرة وفد عثماني قصيدة مطلعها: "قِف بَينَ مُشتَبِكِ الأَغصانِ وَالعَذبِ/ بِأَرضِ جَيرونَ ذاتَ السَلسَلِ العَذبِ"، وآخرها: "مَجدي بِعُثمانَ حامي مِلَّتي وَأَنا/ لَم أَنسَ قَحطانَ أَصلي في الوَرى وَأَبي". يروي أن "الجمهور صفّقَ تصفيقاً شديداً لهذه القصيدة، فلم يَرُق ذلك جمال باشا وقال: إن كل ما جرى من الثناء على الأتراك لا يوازي ذكر قحطان أمام الجمهور. وذلك أن جمالاً كان بغروره مُعتقداً إمكان محو العاطفة العربية في سورية بالبطش والقتل والتشريد، وكان مذهبه تتريك الأهالي".
جبران خليل جبران
كان الشاعر الرومانسي اللبناني جبران خليل جبران مِن أشهر المُناهضين للظلم العثماني. في رسالة بعنوان "إلى المسلمين من شاعر مسيحي"، يرد نصّها في كتاب "إسلاميات جبران خليل جبران" لأحمد حسين حافظ، كتب: "بينكم أيها الناس مَن يلفظ اسمي مشفوعاً بقوله: هو فتى جَحود يكره الدولة العثمانية ويرجو اضمحلالها. إي والله لقد صدقوا، فأنا أكره الدولة العثمانية لأني أحب العثمانيين، أنا أكره الدولة العثمانية لأني أحترق غيرةً على الأمم الهاجعة في ظل العلم العثماني. أنا أكره الدولة العثمانية لأنني أحب الإسلام وعظمة الإسلام ولي رجاء برجوع مجد الإسلام. خذوها يا مسلمون، كلمةً من مسيحي أسكن يسوع في شطر من حشاشته ومحمداً في الشطر الآخر! إن لم يتغلب الإسلام على الدولة العثمانية، فسوف تتغلب أمم الإفرنج على الإسلام".
وفي إحدى رسائله لماري هاسكل، ويرد نصها في كتاب "نبي الحبيب، رسائل الحب بين جبران وماري هاسكل"، قال إبان الحرب العالمية الأولى: "أطلبُ إلى الله أن تؤولَ الحرب العالمية إلى تفكيك الإمبراطورية العثمانية؛ فيتسنى لسوريا الأم أن تفتح عينيها الحزينتين، وتحدق مرة أخرى إلى الشمس. قلبي يشتعل من أجل سوريا، لقد قسا عليها القدر، وأكثر من القسوة ماتت أهلها، وهجرها بنوها طلباً للقمة العيش في الأراضي البعيدة".
رأي جبران كان ناتجاً عن مناصبة العثمانيين العداء لمسيحيي ومسلمي العرب، ولكل ما هو ليس بتركي، ووصل به الأمر إلى نوع من تعصّب مضاد، فقد كتب أن "الروسي العظيم طموحه أنْ يكون قديساً، وطموح الألماني العظيم أنْ يكون فاتحاً، والفرنسي العظيم أنْ يكون فناناً، والإنكليزي العظيم أنْ يكون شاعراً كبيراً، والشرقي العظيم أن يكون نبيّاً، أما الأتراك هم أقل شعوب الأرض خلقاً وإبداعاً"، حسبما نقل عنه توفيق الصائغ، في كتابه "أضواء جديدة على جبران".
وكان جبران صاحب نفس ثوري. يذكر جان داية في كتابه "عقيدة جبران": "ثم قام خليل جبران، وأخذ يرسم صورة قلمية، صوّر للناس فيها أّنهم عاشوا في جوف الأفعوان التركي خمسة قرون، ولم يهضمهم فيجب أن يثوروا ويرمموا الخرائب التي ألمّت بهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...