شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل كان العثمانيون سبب تأخر العرب؟

هل كان العثمانيون سبب تأخر العرب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 1 نوفمبر 201807:10 م

في الأول من نوفمبر 1922 ألغى الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك السلطنة العثمانية، ثم ألغى الخلافة عام 1924، مرسياً بذلك أسس الدولة التركية الحديثة. وبعد أكثر من تسعة عقود على إلغائها، يحنّ بعض العرب إلى عودة تلك السلطنة باعتبارها آخر تجسيد للدولة الاسلامية في التاريخ القريب. فهل كانت الدولة العثمانية بالفعل مجداً غابراً، أم أنها كانت في الواقع سبب تخلّف العرب بفعل قرون من الجمود الفكري والعزلة والقمع؟ حين بدأت الدولة العثمانية بالتمدد في العالم العربي كان هذا العالم قد أنهكه تمزّق الخلافة العباسية وتوالي الغزوات وما صاحبها من قتل وتدمير. اعتبر العثمانيون أنفسهم ورثة للخلافة، حين دخلوا مصر عام 1517 ونقلوا الخليفة العباسي المقيم فيها إلى إسطنبول حيث سلم لهم الخلافة بكل ثقلها الروحي والسياسي. ولكن ما هو الإرث الحضاري والعلمي الذي تركه العثمانيون في البلاد العربية؟ وهل كانت القرون الأربعة التي حكموا فيها العالم العربي سبباً في تأخر العرب فعلاً أم لا؟

أقاليم خارج التاريخ

إن نظرة فاحصة إلى الأقاليم العربية في الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر تبيّن لنا إلى أي حد كانت هذه الأقاليم تعيش خارج نطاق التاريخ علمياً وحضارياً وفكرياً. عزل العثمانيون رعاياهم العرب عن العالم وتطوراته بحجة الحماية من القوى الاستعمارية ومطامعها. وفي المقابل، لم توفّر السلطنة الإسلامية لهم بديلاً علمياً يثري حياتهم العلمية، بل تركت تلك الأقاليم في كهف الماضي تلوك الكتب القديمة ولم تعبأ بهم إلا كمورد للضرائب ومنبع للقوة البشرية التي يتم تجنيدها في حروب توسعية لا ناقة للعرب فيها ولا جمل. في تعليقه على تجربة أجراها علماء من الحملة الفرنسية (1789-1801) في المجمع العلمي الذي أسسوه في القاهرة، قال المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي: "ولهم فيه (أي العلم) أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا". هذا الانبهار، بعد قرون من الخضوع للسلطة العثمانية، يخبرنا إلى أي حد كانت مصر، كغيرها من الأقاليم العربية، معزولة عن الحركة العلمية. يقول الباحث المصري حسين فوزي في كتابه "سندباد مصري": "لا أحسب مصر في تاريخها الطويل عرفت عهداً أظلم من تلك القرون الثلاثة بل الأربعة التي مرت على مصر بعد موقعة مرج دابق بالشام". ويعتبر أن أسوأ حقبتين مرتا على مصر في تاريخها الطويل هما عصري الهكسوس والعثمانيين. ولم تبدأ مصر في التعرف على الحركة العلمية والفكرية الحديثة إلا بعد ابتعادها عن سلطة العثمانيين بعد الغزو الفرنسي ثم حكم عائلة محمد علي باشا. وفي نفس السياق، يقول الباحث العراقي في علم الاجتماع د. علي الوردي في الجزء الثالث من كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث": "شهدت مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر نهضة طباعية وصحافية زاهرة، وقد ساهم فيها المسيحيون الذين هاجروا إلى مصر من بلاد الشام فراراً من الاستبداد الحميدي كيعقوب صروف وفارس نمر وشبلي شميل وجرجي زيدان وفرح أنطون وغيرهم". ويضيف أن مصر أصبحت "كأنها الواسطة الفكرية ودار التعريب بين أوروبا والبلاد العربية، فكانت الأفكار الحضارية الجديدة تأتي إليها من أوروبا، فيترجمها الكتاب والمؤلفون المصريون بعد أن يضيفوا إليها طعماً عربياً، ثم ترسل بعدئذ بشكل صحف ومجلات وكتب إلى العراق والبلاد العربية الأخرى عن طريق البواخر".

تحريم الطباعة

يحقّ لنا أن نتساءل عن الكيفية التي كان سيتغير بها المشهد في كل الأقاليم العثمانية لو أن السلطنة لم تحرّم الطباعة لما يقرب من قرنين بعد ظهورها في القرن الخامس عشر الميلادي. كانت الطباعة من العوامل المفصلية في بناء الحضارة الحديثة لما أدت إليه من انتشار واسع وسريع للعلوم، ولكن الفقهاء العثمانيين والسلطان بايزيد آنذاك منعوها خوفاً على القرآن من التحريف، مستخدمين حجة تكشف عن تخلف حضاري عميق لولاة أمور الرعايا العثمانيين. ضمن تأثيرات سلبية عديدة، أسفر هذا القرار عن تخلف في نظم التعليم في الدولة العثمانية في الوقت الذي كانت العلوم الحديثة تنتشر في أوروبا. ومن الانصاف التاريخي أن نذكر أنه جرت محاولات متأخرة لتطوير نظم التعليم في عصر التنظيمات الذي استمرّ في عصر السلطان عبد الحميد الثاني. فقد تم إنشاء أول مكتب للكتب المدرسية للمعاهد الابتدائية عام 1853، ثم تلا ذلك صدور القانون الأساسي العثماني، عام 1876، والذي نص في مادته 114 على أن "أفراد العثمانيين مجبورون على تحصيل المرتبة الأولى من المعارف"، في إشارة إلى التعليم الأساسي الابتدائي. واستتبع ذلك نشاط واسع لبناء وافتتاح مدارس جديدة، كما أقبلت البعثات الأجنبية على التوسع في قطاع التعليم بتشجيع من هذا النص القانوني. ولكن هذه الخطوات جاءت متأخرة للغاية وفي فترة ضعف وتقلص الدولة العثمانية وبعد قرون من الانغلاق والتعليم البدائي الذي يشمل مبادئ القراءة والحساب لكن اهتمامه تركز على العلوم الدينية والمدارس العسكرية.

 لا يأتي العلم مجرداً عن محمولاته الحضارية والفكرية. تقدم العلوم أدى بالتبعية، وبالتآلف مع عوامل اجتماعية واقتصادية أخرى، إلى تقدم في النظرة إلى مفاهيم الدولة والمواطنة والحريات والديمقراطية كما تنتشر في أوروبا. ولعل هذا كان من أهم ما تخشاه دولة تحكم بمفهوم ديني تسليمي يشبه هيكل السلطة في الفاتيكان في العصور الوسطى. وإذا كان البابا يمثّل خليفة للقديس بطرس، حواري المسيح، كان الخليفة يمثّل الوارث لخلفاء النبي وسلطتهم الروحية والسياسية.

رعايا لا مواطنين

لم تكن الدولة العثمانية في الحقيقة تنظر إلى شعوب الأقاليم نظرة المواطن العثماني، بل كانت نظرتها مبنيّة على أساس أنهم ليسوا إلا رعايا عليهم السمع والطاعة بموجب رابطة دينية تم تجييرها لغرض السيطرة السياسية.
"سنابك الخيول العثمانية التي هددت أسوار فيينا لم تعد هناك، ولن تعود. وإذا كان لا بد لنا من الحنين إلى ماضٍ يحفزنا فلنسترجع دكاكين نساخي الكتب المئة في بغداد أيام العباسيين، حين كانت حاضرة الثقافة العالمية بما تترجمه وتكتبه وتصدره من علم ومعرفة"
"المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في أن العثمانيين ليسوا مثالاً حضارياً يحتذى أو نموذجاً للحكم يُستدعى في أوقات الانكسار الحالية، بل المشكلة الأعمق هي في اللجوء دائماً إلى التاريخ للبحث عن حلول عوضاً عن التفكير في المستقبل بعقلية تسترشد بالعلم ولا تستنجد بالماضي"
ولذلك، تركت السلطنة للأشراف وزعماء القبائل حكم مجتمعاتهم، بدون تدخل منها إلا في ما يخص أمور الحرب والجباية، وهذا يدلّ على أن مفهوم المواطنة، إسلامياً كان أو عثمانياً، مختلف تماماً عن مفهومه الذي كان قد بدأ يظهر في غرب أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر. فبعد ظهور مفهوم المواطن، صارت الفكرة أن الدولة تهتم بمواطنيها وبأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصحية وتسخّر مواردها لرفع مستوياتهم في هذه المجالات. أما العثمانيون، فبقوا لا يأبهون إلا لمدى قدرة هذا الإقليم أو ذاك على الإسهام في الحملات العسكرية. وإنْ ظهرت فكرة عامة لدى النخب العربية والتركية في القرن التاسع عشر حول مفهوم "الهوية العثمانية"، إلا أن الترجمة العملية والقانونية لمفهوم المواطنة لم تظهر إلا في قانون "التبعة العثمانية" عام 1869 الذي استُلهم من القانون الفرنسي.

 وكان الهدف من القانون المذكور التماهي مع فكرة المجتمع المدني التي أنتجتها الحركة الفكرية والعلمية والاقتصادية في أوروبا. ورغم أن المادة الثامنة من القانون الأساسي لعام 1876 وسّعت مفهوم المواطنة بقولها: "يطلق لقب عثماني على كل فرد من أفراد التبعة العثمانية بلا استثناء، من أي دين ومذهب كان"، إلا أن قروناً من الرعوية المعتمدة على مفهوم العصبيات الضيّق ضمن نطاق العشائر لم يكن ممكناً تجاوزها بهذه السرعة وبدستور لم يُقدَّر له أن يعيش طويلاً، أضف إلى ذلك أن ضعف التعليم والثقافة المدنية والاطلاع على التجارب الإنسانية الحديثة أسهم في الحد من تأثير هذه الإصلاحات الاجتماعية.

بين السلطنة والأندلس

وإذا عقدنا مقارنة بين التأثير العربي الإسلامي في الأندلس، بعد احتلالها لما يقرب من ثمانية قرون، وبين التأثير العثماني على الأقاليم العربية، لاتضح لنا فارق جلي بين مفهوم الدولة في الحالتين. فالدولة العربية الإسلامية في الأندلس وصلت في أوج ازدهارها إلى حالة من الإشعاع العلمي اجتذبت العديد من الأوروبيين آنذاك للدراسة في معاهدها، ونقل الكتب المخطوطة فيها سواء من التراث الإغريقي أو من الشروحات والمؤلفات العربية والاسلامية. ونافست الأندلس في ذروة مجدها حواضر الثقافة العالمية آنذاك في بغداد والقسطنطينية بما أنشأته من مكتبات، ونسخته من كتب، ورعته من علوم، ونشرته من تدريس للشباب في مدارسها الكثيرة التي أصبحت قبلة للوافدين من أوروبا التي كانت لا تزال متأخرة عن هذا الركب الحضاري. ولهذا وجدنا أسماء مثل ابن رشد وابن خلدون وابن طفيل وابن باجة وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين لعبوا دوراً هاماً في إثراء الفكر والعلم الإنساني آنذاك. وبقيت هذه الآثار الفكرية حتى بعد خروج المسلمين من الأندلس وانتهاء دولهم. فالوجود الحضاري والعلمي من الصعب أن يفنى حتى بعد أن يغادر أصحابه، أما الوجود العسكري المبني على القوة الغالبة فإنه يختفي عندما يرحل جنوده. وهذا ما حدث عندما انتهى الوجود العثماني في الدول العربية، فليس هناك اليوم إرث ثقافي أو علمي أو لغوي مبهر يمكن الإشارة إليه من العصر العثماني الذي امتد إلى أربعة قرون من التكلس الحضاري. المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في أن العثمانيين ليسوا مثالاً حضارياً يحتذى أو نموذجاً للحكم يُستدعى في أوقات الانكسار الحالية، بل المشكلة الأعمق هي في اللجوء دائماً إلى التاريخ للبحث عن حلول عوضاً عن التفكير في المستقبل بعقلية تسترشد بالعلم ولا تستنجد بالماضي. إن سنابك الخيول العثمانية التي هددت أسوار فيينا لم تعد هناك، ولن تعود. وإذا كان لا بد لنا من الحنين إلى ماضٍ يحفزنا فلنسترجع دكاكين نساخي الكتب المئة في بغداد أيام العباسيين، حين كانت حاضرة الثقافة العالمية بما تترجمه وتكتبه وتصدره من علم ومعرفة. إن تحديات المستقبل تكمن في ثورة العلوم والتكنولوجيا الحديثة، أما هدير المدافع العثمانية وبيارق الخلافة فهي أوهام عفى عليها الزمن ولن تجدينا نفعاً في حياتنا المعاصرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image