"الدبّ" و"الفيل" و"الشوال"... ألقاب عانى منها محمود لسنوات. ألقاب بدت مزاحاً وضحكاً لمطلقيها، لكنها كانت كالسياط تجلده بلا رحمة.
محمود (15 سنهً)، هو أحد الأطفال الأردنيين الذين يعانون من تنمّر بسبب وزنهم الزائد.
لكن التنمر، بالرغم من قسوته، لا يمثّل الخطر الأوحد على محمود، فالفتى يعاني من مشكلات صحية جمّة صاحبت وزنه الزائد. مشكلات تهدده وتهدد مسار حياته.
الصحة والتنمر
تُشير أرقام مبدئيّة لدراسةٍ أعدّتها وزارة الصحة الأُردنيّة، إلى أنَّ 40% من الأطفال في الأردن مُصابون بالسمنة، وهو ما عدّته الوزارة دلالةً على الإقبال على مرحلةٍ صعبة تفرض التوسّع في مراكز العلاج لمواجهة خطر حقيقي يمسّ بمستقبل الأردن. فيما أكدّت الإستراتيجية الوطنية للتغذية التي أُطلقت مؤخراً للأعوام 2023 إلى 2030، التزام الحكومة والجهات المعنية الأخرى بوضع الأُسس الكفيلة بتحقيق مستويات تغذية أفضل لكافة فئات المجتمع.
من جانبها، أشارت الجمعية الملكية للتوعية الصحية إلى أسباب انتشار السمنة بين الأطفال الأردنيين، ولخصتها في عاملين: الأول، هو العامل الوراثي الذي لا دخل للطفل فيه، والثاني هو الثقافة السائدة في الأردن بين الأطفال وانتشار الأطعمة غير الصحية.
"طفلتي كانت تشعر بالحرج من جسدها كثيراً، خاصةً أنَّ الفتيات اللواتي في عمرها ممن هُنَّ حولها، ذوات أوزانٍ قليلة. ضاعف ذلك الشعور بالدونية عندها، وتعرّضها للتنمّر من زميلاتها في المدرسة"؛ تقول أم سهيلة في حديثها إلى رصيف22، قبل أن تستطرد قائلةً: "كان قلبي يتقطع حينما أرى دموعها من دون قدرة على فعل أي شيء لها".
عانت أم سهيلة مرتين: الأولى مع طفلتها التي لم تملك الإرادة الكافية لخسارة وزنها، والثانية مع النظام الصحي والغذاء الذي كان مكلِفاً لها، بالإضافة إلى إصابتها بالاكتئاب نتيجة ارتفاع وزنها، وهو ما دفعها إلى ترك مصروفها في المنزل في كل مرةٍ كانت تغادره، حتى لا تقوم بشراء الحلويات و"الشيبس" من المدرسة.
على صعيد آخر، فإن الأمهات الأردنيات يعانين بشكل عام من ارتفاع كلفة النوادي الرياضيّة، أو اقتصار توزّعها على مناطق معيّنة من دون تخصيص وقتٍ محددٍ للأطفال، فضلاً عن ارتفاع كلفة مراجعة الأخصائيين الغذائيين، بدرجة تفوق قدرة غالبية فئات المجتمع.
تُشير أرقام مبدئيّة لدراسةٍ أعدّتها وزارة الصحة الأُردنيّة، إلى أنَّ 40% من الأطفال في الأردن مُصابون بالسمنة
متى يعاني الطفل من السمنة؟
بحسب الجمعية الملكية للتوعية الصحية، فإن معرفة ما إذا كان الأطفال يعانون من زيادة في الوزن، تُعدّ معقدةً أكثر من الكبار؛ لأنهم ما زالوا في مرحلة النمو والتطور. لذا، عادةً ما يستخدم الأطباء والعاملون في الرعاية الصحية مقياساً يُسمى معامل كتلة الجسم (BMI)، لتحديد ما إذا كان الشخص يعاني من الوزن الزائد.
ويُعدّ الطفل معانياً من السمنة إذا كانت معامل كتلة الجسم أعلى مما هو المقياس عند 95% للأطفال من العمر نفسه والجنس عينه.
وتعزو أخصائية التغذية بشرى البيطار، خلال حديثها إلى رصيف22، السبب الرئيس للإصابة بالسمنة لدى الأطفال إلى ساعات عمل الأم الطويلة، وهو ما يسبب عدم قدرتها على الطبخ، بالإضافة إلى البيئة المحيطة في المدرسة ووجود الطعام المتنوّع في المطاعم والذي يحتوي على الأغذية غير المفيدة، وإقبال الأطفال على الوجبات السريعة.
وترى أنَّ دور المدرسة يتساوى مع دور الأهل في الحفاظ على صحة الأطفال وتثقيفهم صحياً، خاصةً أن الأطفال يقضون وقتاً طويلاً خلال المدرسة، فيما تنعكس السمنة على صحتهم النفسية بشكلٍ كبير، قائلةً: "قد يدّعي الطفل الضحك والمتعة ليحيط نفسه بالعديد من الأصدقاء، أو قد يغدو منطوياً على نفسه ويرفض الانخراط في المجتمع.
نحافة ابنك لا تعني أن صحته جيدة
أن يكون الطفل نحيلاً لا يعني بالضرورة أن يكون ذا جسد صحي، خاصةً مع اختلاف قدرة الأجساد على حرق الدهون ووجود بعض الأمراض التي تزيد من سرعة الحرق، وهو ما لا نراه عادةً على شاشة التلفاز أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن الصورة الوحيدة المعروضة هي صورة الأطفال ذوي الأجساد النحيلة من دون الإشارة إلى ما إذا كانت صحيةً أو لا.
وعن هذا تقول أخصائية التغذيّة دعاء شعث، لرصيف22، إنَّ الشخص "الصحي"، هو الذي يتمتّع بصحة جيدة ووزن يتناسب مع طوله ونسبة دهون وعضلات متناسبة مع عمره وجنسه وطوله. في حين أنَّ الشخص النحيل هو الذي يتناسب طوله مع وزنه بغض النظر عن نسبة الدهون والعضلات عنده.
وتضيف أنَّ النظام الصحي هو نظام غذائي متناسب مع احتياجات الشخص من سعرات حرارية ونشويات ودهون وبروتينات وفيتامينات ومعادن، وطبيعة حياته ونشاطه الحركي، وهو مختلف عن الحمية الغذائيّة التي لها هدفٌ يتمثل في زيادة الوزن أو نقصانه، بالإضافة إلى الدهون والعضلات والوضع الصحي.
وعن هذا تقول مدربة التوجيه الأُسري فرح أبو قورة، لرصيف22، إنَّ ثقة الأطفال بأنفسهم تنبع من معتقداتهم وأفكارهم التي تُزرع من قِبل الأهل، وربط الشعبية بناءً على المظهر هو ما يؤثر على شخصياتهم.
وتشير إلى ضرورة بناء قناعةٍ لدى الأطفال بأنهم لا يتّبعون حميةً غذائيةً لإنزال الوزن، وإنما يتّبعون نظاماً صحياً، إذ من الضروري أن يرتبط هذا بهم وبعاطفتهم وشعورهم بأنهم بحاجةٍ إلى العناية بأجسادهم، موضحةً: "الأطفال يخطئون في خياراتهم لأنهم لا يملكون المعرفة، والأهل يلومون الأطفال بكلماتٍ مثل "ليش أكلت هيك؟"، و"ليش عملت هيك؟"، من دون إعطائهم البديل الصحيّ لذلك، أو معرفة كيفية بناء نمطٍ صحيٍّ لهم، وهو ما يخلق الحيرة لدى الأطفال حول عدم إمكانيّتهم تناول هذه الأطعمة، بينما هم جياع!"
الخطوات الأربع للتعامل مع السمنة
وتؤكد أبو قورة، أن إيجاد نمطٍ صحيٍّ للعائلة بشكلٍ عام يساعد الأطفال على صنع عاداتٍ صحيّة، بالإضافة إلى تشكيل مهارة ضبط النفس عند الأطفال عن طريق التعامل مع المشاعر والأفكار والتي تلخصها بأربع خطوات: تحديد المشاعر وتعريفها عن طريق معرفة الطفل بماهية الشعور الذي يمّر به، وبناء الذكاء العاطفي والاجتماعي، وذلك للتعبير عن المشاعر بالكلمات بدل السلوكيّات.
ويلي ذلك التعاطف مع المشاعر، مما يساعد على تهدئة لوزة الدماغ المسؤولة عن المشاعر والأمور الغريزيّة التي تولد مع الأطفال؛ لأن تهدئتها تساعد على تفعيل قشرة الدماغ الأماميّة المسؤولة عن المنطق والصح والخطأ، وذلك من خلال التعاطف مع المشاعر، مثل القول للطفل: "أعرف أنك جائع. أشعر بك. أنا أيضاً أجوع"، ثم تطبيع هذه المشاعر، إذ من الضروري أن يعرفها، ومن الطبيعي أن يجوع المرء حين يرى الطعام أمامه، أو يرى شخصاً جائعاً مثله أو ما شابه ذلك.
وأخيراً إيجاد بدائل للتعامل معها، أي كيفية تهدئته لإيجاد البدائل، مثل الابتعاد عن الأماكن المليئة بالطعام غير الصحي، والتفكير في النشاطات الصحية، وحفظ الطعام غير الصحيّ للـFree day، ومعرفة أن من الطبيعي أن يضعف تجاه الحمية أحياناً، ومن الطبيعي أن يرغب في تناول الحلويات. المهم ألا يستسلم ويحافظ على النظام الصحي.
وترى أبو قورة، أن نجاح هذه الخطوات يحتاج إلى التركيز والاستمرارية والتواصل دوماً مع الأطفال، بالإضافة إلى ضرورة أن يكون الأهل المثل الأقوى لأطفالهم في العادات الصحية، وذلك مع وجود العديد من العوامل التي تؤثر على صحة الأطفال وتغذيتهم مثل الجدة أو الأصدقاء، أو المقصف المدرسي الذي قد يبيعون فيه أصنافاً غير صحية.
أن يكون الطفل نحيلاً لا يعني بالضرورة أن يكون ذا جسد صحي، خاصةً مع اختلاف قدرة الأجساد على حرق الدهون
المدرسة معهم أم عليهم؟
من جانبه، يقول الناطق باسم وزارة التربية والتعليم أحمد المساعفة، لرصيف22، إنَّ الوزارة لا تقصّر في القيام بدورها حيال تلك المشكله، وإنها ترسل إلى المدارس في كل عام قائمةً تتضمن الاشتراطات الصحيّة لمواصفات الطعام وتعليمات المقصف المدرسي، بالإضافة إلى اهتمام الوزارة بحصة الرياضة البدنية التي ينتظرها الطلاب مرةً كل أُسبوع.
ويتفق معه رئيس قسم المقاصف في الوزارة، هاشم الزعبي، في أنَّ الطعام الذي يتم بيعه في المدارس هو طعام صحي يُحرَصُ على تواجده بكمياتٍ محددة، مؤكداً: "نحن حريصون على عدم إصابة الأطفال بالسمنة"، بحيث يُحظر بيع الأغذية "البائتة"، والمشروبات الغازية بأنواعها، وشراب الفاكهة والشراب المنكّه، والحلوى والعلكة والملبس، واللحوم بجميع أنواعها والبيض، والبطاطا المقلية.
تختلف منال، معلمة اللغة الإنكليزيّة، مع تصريح المسؤول الحكومي، وتقول لرصيف22: عملت في التدريس 13 سنةً رأيت خلالها الأطفال وهم يُقبلون على شِراء كميات من "الشيبس" بشكلٍ كبير، والتي يتم بيعها في المدارس، بالإضافة إلى المشروبات الغازية والشوكولا المتوفرة في المقصف المدرسي في معظم الأوقات.
أما سلمى، وهي مديرة إحدى المدارس الحكومية منذ 10 سنوات، فإنها تعترف بأنه بالرغم من أن تعليمات "التربية" حول المقاصف تصل إليها باستمرار، إلا أنَّ هناك مخالفات من قِبل الإدارات المدرسية، وخاصةً في ما يتعلّق ببيع "الأغذية" غير الصحية، نظراً إلى أن مردودها الاقتصادي على المقاصف المدرسية ممتاز، فضلاً عن أن غالبية الطلبة لا يستطيعون شراء البضائع الجديدة بسبب ارتفاع أسعارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...