كُتبت لي زيارة الضفة الغربية والداخل المُحتل وأنا في أواخر العقد الثلاثين من عُمري للمشاركة في معرض فلسطين الدولي للكتاب في رام الله، كان الأمر بمثابة تحقق الحلم بالنسبة لي ولأغلب من رافقوني في تلك الرحلة التي امتدت لعشرة أيام، تنقلنا فيها بين فندقين ومختلف مدن الضفة الغربية، إلا أنه كان لرام الله الوقت الأكبر بسبب إقامتنا المؤقتة هناك.
في عام 2001 صدر فيلم مصري بعنوان "أصحاب ولا بزنس" بطولة هاني سلامة وعمرو واكد ومصطفى قمر وغيرهم، يتحدث الفيلم عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أثناء انتفاضة الأقصى، حيث تم تصوير مشاهد الفيلم في الأردن لما له من تشابه كبير مع جغرافيا وتضاريس الضفة الغربية، وقتها لم يعجبني الفيلم من حيث البيئة التصويرية للمشاهد السينمائية وشعرت أنه غير دقيق في نقل الصورة اليومية ولا يحاكي الجغرافيا الفلسطينية الحقيقة التي أعيش فيها، هذا كان من وجه نظر فتى لم يخرج من المخيم بعد، محبوس في إطار معين من الصورة الذهنية والصورة البصرية أيضًا، فماذا يعني أن يجلس الفنان عمرو واكد على أحجار صخرية ويتحدث بلهجة يقول إنها فلسطينية، ويمشي في شوارع ضيقة محفوفة بأشجار الزيتون التي لا تشبه الأشجار في قطاع غزة؟!
كل تفاصيل الفيلم كانت غريبة جدًا على عيني، البيوت التي تأخذ من الصخر غلافاً لجدرانها، والقرى المتباعدة، والفضاء الواسع المفتوح على السماء، كل هذه الأشياء لم ألمسها في حياتي اليومية، لهذا لم أستسغ الفيلم وقتها لأنه لم يعكس الصورة الحقيقة لما كنت أظنه حقيقة، وقتها كنتُ محبوسًا في الساحل والبحر، والرمال الطينية، وأزقة المخيمات والبيوت التي لا تفصل بعضها عن بعض سوى جدران مُشتركة، حتى تظن أن المخيم كله يسكن في بيت واحد متعدد الغرف. كان لدي اعتقاد راسخ بأن قطاع غزة هو الصورة المصغرة عن فلسطين الكاملة، وأن الجميع يعيش في نفس البيئة والمستوى الاقتصادي، أنا الذي لا يعرف كيف يكون شكل الوديان والجبال على اختلاف صخورها وألوانها والصعود عليها مشيًا، وكيف تنمو أشجار الزيتون في قلب الصخر دون ري منتظم. تفاصيل كثيرة لم تخطر لي على بال، لقد حُوصرت وحاصرت نفسي تمامًا في محيط لا يتجاوز 360 كيلو متراً، لا يوجد فيه جبل واحد أو عين ماء، أو طريق التفافي قد يكلفك المرور فيه حياتك لأنه يرتفع عن سطح الأرض مئات المترات، والوادي الوحيد فيه قد تم تنشيفه والبناء في حرمه بعد أن أنشأ الاحتلال السدود التي تحجب الماء القادمة إليه من صحراء النقب ومرتفعاته.
كان لدي اعتقاد راسخ بأن قطاع غزة هو الصورة المصغرة عن فلسطين الكاملة، وأن الجميع يعيش في نفس البيئة والمستوى الاقتصادي، أنا الذي لا يعرف كيف يكون شكل الوديان والجبال على اختلاف صخورها وألوانها والصعود عليها مشيًا، وكيف تنمو أشجار الزيتون في قلب الصخر دون ري منتظم
في زيارتي القصيرة تلك اكتشفت أنني كنت على خطأ كبير، فقد سعى الاحتلال بحصاره الإنساني للجسد الفلسطيني إلى اختصار فلسطين في قطاع غزة الفقير من الناحية البيئية، وفرض علينا ذلك شعوريًا من خلال تشديد الحصار ومنع التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل المحتل، مما أورث أجيالاً كاملة صورة ضبابية وغير مفهومة عن الفلسطيني الآخر الذي يعيش على نفس الخارطة بتفاصيله البعيدة، هذا هو التحدي الحقيقي الذي يجب على الجميع أن يقاومه ليتسنى للأجيال منذ الصغر أن يعرفوا أنهم من بلاد واسعة متعددة الثقافات والديانات والجغرافيا. هذا الكلام لا ينطبق على سكان قطاع غزة فقط، بل هناك آلاف المواطنين في الضفة الغربية لا يعرفون البحر على حقيقته، ويظنون أن أشجار الزيتون تنمو وحدها دون ماء، لأنهم لا يعرفون عن الرمال شيئًا ولم يزرعوا في حياتهم شتلة بندورة ولم يشاهدوا البطيخ يرتاح على خد الرمل.
سعى الاحتلال بحصاره الإنساني للجسد الفلسطيني إلى اختصار فلسطين في قطاع غزة الفقير من الناحية البيئية، وفرض علينا ذلك شعوريًا من خلال تشديد الحصار ومنع التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل المحتل
يخبرني صديق زار قطاع غزة قبل عدة شهور أنه كان يحمل اعتقاد أن غزة ما زالت تعيش في عصور ما قبل الحضارة لشدة الدعاية المغلوطة التي مورست على العقل الفلسطيني، لدرجة أنه استغرب الفنادق الموجودة فيها التي تقدم الخدمات بشكل محترم، وأذكر وقتها أنني سألته ماذا كنت تعرف عن غزة قبل زيارتها فقال لي إنه سمع عن أهلها أنهم يحبون الفلفل!
هكذا بكل بساطة تم اختزال قطاع غزة في حبهم للفلفل، هذه معلومة صحيحة، لكنهم أيضًا يحبون الحقيقة والأوجه الغائبة.
تفاصيل صغيرة في زيارتي التي امتدت لأيام قليلة جعلتني أسترجع ذكريات كثيرة مع الجغرافيا وكان همي الوحيد هو تخزين الصورة البصرية، كنتُ معنيًا تمامًا في التحديق في كل شيء يمر من أمامي، في لون التربة، ووجوه الناس والبيوت القديمة وطريقة التقبيل، وأشجار الزيتون، هناك الزيتون لا يُشبه زيتون قطاع غزة في التفاصيل، جذوعه أكبر وأكثر وضوحًا وخشونة وتشبثًا في الأرض، وأوراقه صغيرة ومدببة لأنه زيتون جبال، أما في قطاع غزة فجذوعه تشبه جذوع أشجار البرتقال وأوراقه كبيرة لأنه يُروى بالماء بشكل دوري. هذه تفاصيل لم أكن لأعرفها لو أنني لم أحضن شجرة زيتون في رام الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...