شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
زراعة الأقدام المبتورة الأكثر ازدهاراً في غزة

زراعة الأقدام المبتورة الأكثر ازدهاراً في غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 15 أغسطس 202204:23 م

رغم مرور أشهر طويلة على قراءتي رواية "حديقة السيقان" للكاتب الفلسطيني محمود جودة التي يروي فيها حكايات المبتورة أقدامهم في مسيرات العودة، لم يفارقني المشهد الختامي في الرواية. وما زلت كلما سمعت خبر إصابة جديدة، أو رأيت صورة ذراع مفقودة أو قدم مبتورة، تحمل عيناي ما رأيت وتدفنه في حديقة محمود التي تتسع لكل الآلام والإعاقات التي لم تتوقف يوماً في حياة الفلسطيني.

يقول جودة في الرواية: "كبرت الزهور وترعرعت وتمددت جذورها طويلاً تحت الأرض، ونمت السيقان والأصابع، وتلاصقت الأشلاء وأعادت خلق نفسها من جديد". وعندما أحيا شلال الدماء/الماء حديقة السياق التي صنعها محمود، يكتب في الصفحة الأخيرة: "حدثت زلزلة كبيرة في الأرض، خرجت على إثرها السيقان والأقدام والأحلام والدموع التي ما زالت ساخنة، والأصابع والأشلاء المزروعة في الإطارات، وأخذت تتشكل على هيئة جسم عظيم، جسم له آلاف الأرجل والأيدي والرؤوس والعيون".

حدائق ليست للتنزه

في البداية لم يكن المشهد مألوفاً لدي، وكنت كلما رأيت شخصاً بقدم مبتورة يسير في شوارع خانيونس، أضع سيناريوهات لتعامله مع الأشياء، بدءاً من المشي، مروراً بممارسة الجنس، وصولاً إلى الركض خلف ابنه الصغير. وأستغرب من قدرته على الابتسام وشرب القهوة والدخول في نقاشات سياسية كأي إنسان مكتمل جسدياً.

ثم مع مرور الوقت، أصبح المشهد مألوفاً لدي، حتى صرت أرى مجتمعاً آخر يتشكل داخل المجتمع الفلسطيني، يمكن أن أطلق عليه مصطلح "مجتمع المبتورة أقدامهم"، يمارس هذا المجتمع حياته باعتيادية تامة، يكوّن فرق كرة القدم، وفرق الدراجات الهوائية، ويتقدم في التعليم بشكل طبيعي كأن شيئاً لم يكن. فقد خلفت مسيرات العودة وحدها قرابة 19109 معوقين، منهم 4934 طفلاً و867 من النساء، وقد كانت الغالبية العظمى لهذه الإصابات على مستوى القَدم.

يقول محمود جودة لرصيف22: "لقد حوصرت تماماً بالمبتورين، كانوا شباباً في أوائل سنواتهم، تحولوا فجأة إلى عجزة، أينما وليت وجهي أرتطم بأحدهم، في الأسواق والمشافي ومحلات الحلاقة والمتنزهات العامة وعتبات البيوت، لقد تخيلت المدينة كلها تقف على عكازين، هذا المشهد دفعني لأن أكتب قصة هؤلاء كي لا تذهب هذه الأعضاء طي النسيان، فقررت أن أصنع تلك الحديقة وأدفن فيها كل الأعضاء المبتورة كي تتجمع يوماً ما في جسم كبير لا تقدر عليه آلة الحرب ويخرج من الأرض كمَارد يكون هو أول العائدين إلى أرضنا المحتلة".

 مع مرور الوقت، أصبح المشهد مألوفاً لدي، حتى صرت أرى مجتمعاً آخر يتشكل داخل المجتمع الفلسطيني، يمكن أن أطلق عليه مصطلح "مجتمع المبتورة أقدامهم"

يضيف محمود واصفاً المشاهد التي رآها خلال رحلة عمله على الرواية: "أحد المشاهد العالقة في رأسي، فتى كان يذهب يومياً إلى المشفى كي يبحث عن ساقه المبتورة التي تم دفنها مع مجموعة من الأعضاء دون علمه، وكان مصراً على إيجادها. كان يقول لي: أريد معرفة مكانها كي أدفن معها، لا أريد أن أدفن بجسد ناقص".

العكاكيز التي استشهدت

المرة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى المنطقة الحدودية التي كانت مركزاً لمسيرات العودة، لم أرَ سوى مجموعة من إطارات السيارات والشاحنات التي جمعها المتظاهرون من مختلف المناطق، بالإضافة لمجموعة من الحجارة التي يلقيها الشباب والأطفال. على الرغم من ذلك، لم يتوقف الاحتلال طول الساعة التي وُجدت فيها هناك عَن إطلاق الرصاص، في الهواء أو خلفَ عكاكيز المصابين الراكضين جيئةً وذهاباً، في مشهد صنعَ في سماء قلبي غيمةً سوداء لا ترى.

يقول المصاب في مسيرات العودة مصطفى الدهدار لرصيف22: "بعد إصابتي في مسيرات العودة على مستوى القدم، لم أتوقف عَن الذهاب إلى المنطقة الحدودية، كنت أضع كرتونة الكمامات في العكاكيز وأذهب لممارسة عملي الذي تمثل في التوعية والإسعافات الأولية وتوفير المستلزمات الطبية. لم يتوقف جنود الاحتلال عن استهدافي. في آخر مرة أطلقَ فيها النار تجاهي، أصيبت عكازتي وتفجرت الرصاصة فيها".

حي المبتورين

في عام 2019، أصبح مصطلح "حي المبتورين" من المصطلحات الشائعة في قطاع غزة، وقد كان المصطلح يدل على الحي الذي يقع فيه مركز منظمة أطباء بلا حدود، في وصف لتكدس المبتورة أقدامهم على عتبته من أجل تلقي العلاج وإجراء الفحوص اللازمة. وعلى الرغم من أصوات الضحكات التي كان يمكن سماعها من أفواه المصابين، لم تكن عيونهم قادرة على الضحك، وكان يمكن لأي عابر سبيل أن يلمحَ مصابيح مكسورة فيها.

لم أتوقف عَن الذهاب إلى المنطقة الحدودية، كنت أضع كرتونة الكمامات في العكاكيز وأذهب لممارسة عملي الذي تمثل في التوعية والإسعافات الأولية وتوفير المستلزمات الطبية. لم يتوقف جنود الاحتلال عن استهدافي. في آخر مرة أطلقَ فيها النار تجاهي، أصيبت عكازتي وتفجرت الرصاصة فيها

يقول المصاب حسام أبو غالي: "قمت بعمل عدة عمليات في غزة ولم تتحسن قدمي فسافرت إلى مصر، ومن ثم إلى تركيا، وهذا لصعوبة إصابتي ولكي أواصل علاجي. أجريت عمليات عديدة لتثبيت عظام قدمي وتركيب جهاز "لازروف"، وغيرها من العمليات، ولكن للأسف بعد غربة أربع سنوات وبعد الكثير من العمليات، كان قرار الأطباء بتر قدمي بسبب التهتك الكبير في قَدمي والالتهابات وعدم إحساسي بها. بالإضافة لوجود قصور كبير مع انحراف في القدم".

ويكمل: "كانت نفسيتي سيئة لغربتي عن أهلي فترة كبيرة، وعدم وجود مرافق منهم معي. بالإضافة إلى الآلام التي عانيتها من كثرة العمليات، والالتهابات التي أصابت عظام قدمي، فضلاً عَن عدم قدرتي على المشي إلا بوساطة كرسي متحرك أو باستخدام العكاكيز، حتى الحركة باستخدام العكاكيز لم أقو عليها إلا لمسافة قصيرة لأنها ترهقني كثيراً. أثّر هذا على نفسيتي خصوصاً مع حبي للرياضة والركض".

عجزنا المتكرر بطرق مختلفة

يرجع الكاتب محمود جودة سبب استهداف الاحتلال الإسرائيلي للأقدام خلال مسيرات العودة، إلى رغبته في شل القدرة الشبابية الفلسطينية، ويسرد شهادة أحد القناصين الإسرائيليين الذي قال: "عندما كنت أصيب أحدهم بالرصاص وأشاهد الدم ينزف من ساقه، كانت تصيبني حالة من الحزن لأنني لم أصبه في المفصل"، في إشارة إلى أن نزول الدم يعني أن الرصاصة قد أصابت اللحم ولم تصب المفصل! وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على حالة العَجز التي يتمناها الاحتلال لكل فلسطيني.

أجريت عمليات عديدة لتثبيت عظام قدمي وتركيب جهاز "لازروف"، وغيرها من العمليات، ولكن للأسف بعد غربة أربع سنوات وبعد الكثير من العمليات، كان قرار الأطباء بتر قدمي بسبب التهتك الكبير في قَدمي والالتهابات وعدم إحساسي بها

تعيدني حالة العجز هذه إلى ما كتبته في روايتي ممحاة سيدي أزرق: "العجز هو وقوفكَ على جبل عال، وحيداً، لا تستطيع النزول، لا تستطيع الصعود. واقفٌ بلا أصدقاء، بلا ماء، بلا شمس. الجو مظلمٌ تماماً وأنت وحدكَ هناك تبيع وهماً وتشتري وهماً". فعلى الرغم من أن سياق الأحداث مختلف، أعتقد أنه حتى العجز في حب الفلسطيني يرجع إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي قيّد معنى الحياة على الفلسطينيين وأخرجها من سياق "الطبيعي" إلى سياق "اللامنطقي". وهذا ما حدثَ تماماً مع مصابي مسيرات العودة، ومع كل المصابين في الحروب الأربع التي شهدها قطاع غزة في السنوات الأخيرة.

ما بعد حديقة السيقان

تختلف الإعاقات التي تخلفها آلة الاحتلال في قطاع غزة، حتى أنه يمكنني التمييز بسهولة بين مصابي المسيرات ومصابي الحروب ومصابي التصعيدات التي لا تتوقف. حتى أن أمر الإصابات يتعدى كونه جسدياً بحتاً، فعلى الرغم من إصابة حوالى عشرين ألف مواطن فلسطيني جسدياً في الحروب الأربع على قطاع غزة، إلا أن هناك إعاقات نفسية ربما لا يمكن إحصاؤها، حتى يكاد أكثر من مليوني معوّق في قطاع غزة، وقد كنت واحداً من هؤلاء، فبعدما تركت غزة وابتعدت عن البيئة النفسية المتكونة بشكل غريب فيها، بدأت ألاحظ الإعاقات التي خلفها الجنود والطائرات في هذه الإعاقات التي لا علاج لها.

الآن، بعدَ مرور أشهر طويلة على خروجي من غزة، وأشهر أطوَل على قراءتي لرواية محمود جودة وسماع قصص المبتورة أقدامهم، ما زلت أتخيل الأشجارَ أقداماً مبتورة لهذا هي لا تتحرك. يشبه الأمر السقوط في حقل من الرصاص وعدم الخروج منه إلى الأبد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard