للحياة في قطاع غزة خصوصية، لربما هي الأكثر تفردًا من حيث المعاناة والبؤس والخوف والفقر والبطالة، وكذلك ارتفاع معدلات الفقد بفعل الحروب المتكررة على هذه البقعة الضيقة، والتي تعتبر الأعلى كثافة سكانية في العالم.
غزة التي يصل تعدادها السكاني إلى مليونين ومئتي ألف نسمة، ضمن مساحة لا تتعدى 278 كم، تزدحم بالتجمعات السكنية والشوارع الضيقة، وتنتشر فيها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المهجرين جراء النكبة، كما أنّها بطبيعتها، تفتقر للموارد الطبيعية التي تمكن أهلها من الاكتفاء الذاتي، بالإضافة إلى معاناة سكان القطاع خلال العقدين الماضيين، من خمس حروب شنّها الاحتلال الإسرائيلي (2008، 2012، 2014، 2018، 2021)، إذ تركت جميعها آثاراً مختلفة من التدمير البنيوي والاقتصادي والنفسي والجسدي على السكان. وسبق هذه الحروب فترة الفلتان الأمني في غزة عام 2006 بين الأحزاب الفلسطينية، وهو ما رشح عنه الانقسام السياسي منذ ذلك الوقت. كذلك، لا يمكن إغفال الحصار الاقتصادي الإسرائيلي على المدينة، والذي يمس حياتهم اليومية، ويزيد من معدلات البطالة والوفيات، ويمنعهم من التنقل والسفر في أوقات كثيرة.
بيئة كهذه، جعلت الأمور أكثر سوءاً نتيجة النسيج الاجتماعي المفكك والخسائر التي لا تُحصى بفعل الحروب، على مستوى البنى التحتية والأرواح، بالإضافة إلى الحالة النفسية التي يعانيها سكان القطاع، خاصة الأطفال منهم، إذ عايش هذا الجيل من الأطفال، منذ 2008 حتّى الآن، خمس حروب متتالية، وهو ما يورد صدمات نفسية هائلة بالنسبة لهم، يصعب التعامل معها في معظم الأحيان.
تفيد مؤسسة إنقاذ الطفل في غزة من خلال تقريرها الذي يحمل عنوان "المحاصرون"، بأن ثمّة زيادة كبيرة في عدد الأطفال الذين أبلغوا عن شعورهم بالخوف (84٪ مقارنة بـ 50٪ في عام 2018) ، وفي مجال الحالات العصبية (80٪ مقارنة بـ 55٪)، أما حالات الحزن أو الاكتئاب فبلغت (77٪ مقارنة بـ 62٪). وبيّن التقرير أن حالات الحزن بلغت (78٪ مقابل 55٪). ووجدت أيضاً أن أكثر من نصف أطفال غزة يفكرون في الانتحار، وأن ثلاثة من خمسة يؤذون أنفسهم بالفعل.
عايش هذا الجيل من الأطفال، منذ 2008 حتّى الآن، خمس حروب متتالية، وهو ما يورد صدمات نفسية هائلة بالنسبة لهم، يصعب التعامل معها في معظم الأحيان
في حين قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، بعد انتهاء حرب 2021 على قطاع غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، إن تسعة من 10 أطفال في قطاع غزة يعانون أحد أشكال "الصدمة المتصلة" جراء انهيار منظومة البيئة الآمنة حول الأطفال.
وقال المرصد إن 241 طفلاً فقدوا أحد الوالدين أو كليهما معاً نتيجة القصف، وإن نحو 5,400 طفل فقدوا منازلهم (هُدمت بالكامل أو تضررت بشكل كبير)، و42,000 طفل تضررت منازلهم بشكل جزئي.
وأضاف المرصد في تقريره أن نحو 72,000 طفل نزحوا إلى مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” أو منازل أقاربهم خلال الهجوم. ووفق إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية، بعد الحرب الأخيرة، فإن 66 طفلاً و40 امرأة قُتلوا تحت القصف الإسرائيلي على غزة خلال 11 يوماً وجُرح 470 طفلاً و310 نساء.
ضحكات مسلوبة
تقول الطفلة الغزية إيمان (16 عامًا) لرصيف22:"فقدت والدي في حرب 2014 على غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، منذ ذلك الوقت وأنا لا أشعر بالأمان. لقد سلب الاحتلال الضحكة من حياتي وحل مكانها الخوف الدائم من المستقبل".
وتكمل:" ليس فقط الاشتياق لأبي هو المشكلة، لكنني أشعر بالهزيمة أمام الحياة، كلّما كبرت تكبر أفكار المأساة داخلي. لا أعرف ما الذنب الذي اقترفته لأعيش كل ذلك".
أما الطفل أحمد، (14 عاماً)، وقد فقد إحدى عينيه خلال حرب 2021، يقول "أصبحت أرى العالم بعين واحدة، لقد صغر العالم في عيني جداً. أصبحت أتمنى الموت أكثر من مرة في اليوم".
ويضيف: "ما فائدة عيش الحياة بعاهة دائمة تشعرني بالنقص في كل لحظة؟ الأطفال من حولي ينظرون إلي بشفقة، لطالما كنت ضعيفاً في هذه المواقف، ودائماً ما تتكرر لحظات ضعفي".
وتتحدث الطفلة تالا (15 عاماً) عن الحروب المتكررة والوضع الاقتصادي السيئ لعائلتها: "لقد فقد أبي مصنعه خلال الحرب، كان يصنع الحلوى للأطفال، ولم يكن يصنع السلاح". وتتساءل: "لماذا يصمم الاحتلال دوماً على محو الأشياء الجميلة من حياتنا؟ هذا ظلم كبير في حقنا".
وتستمر تالا في محاولة وصف مشاعرها جراء الوضع "حين أرى أبي عاطلاً عن العمل، أخجل أن أطلب منه شيكل واحداً لشراء الحلوى. بعد أن كان قادراً على تلبية كافة احتياجاتنا. أصبح يمر بحالة نفسية سيئة ودائم الغضب. أشعر بأنني فقدت الأمان منذ فقد والدي طبيعته المعتادة. أعيش مع الخوف أكثر من أي شيء آخر".
ترى الطفلة ميس (14 عاماً) أن ألوان الحياة اختفت من عينيها فجأة، وأنها تكره الألوان الأحمر والأسود والأبيض، لأنها تذكرها بالمعاناة والموت، فتقول:"أول مرة رأيت الدم وأشلاء الأجساد المقطعة، كنت ذاهبة مع أبي لتفقد منزلنا بعد قصف محيطه، لقد رأيت ابن الجيران مصطفى، الذي لطالما لعبت معه "أم التخباية". رأيته محمولًا على أيدي المسعفين وهو غارق في دمه، وغطى وجهه الغبار والخدوش والدم، كان لا يتحرك ولا يفتح عينيه. شعرت بدوار لحظتها، وكنت شديدة الذهول بما أرى، وحين ابتعدوا به قليلًا عن باب منزلنا، نظرت مرة أخرى، لأنني شعرت أنني لن أراه مرة أخرى، وقتذاك رأيت ساقه اليسرى مقطوعة، نتيجة القصف، في حين كان والدي يشد يدي لأصعد معه للمنزل، لكنني فقدت توازني وسقطت بين يدي أبي من صدمة ما رأيت".
وتختم:"لا أحب الحياة. فكلما تذكرت هذه اللحظة، أشعر بأننا في غزة مختلفون عن باقي أطفال العالم، وبدلاً من أن نستشعر بؤس القتل في التلفزيون، فإننا نراه بصورته البشعة".
كوابيس... معنى أن ترافق الموت
تقول الطفلة دعاء (13 عاماً):" أتخوف من أن أتحدث عن أحلامي لمن حولي، حتى لا يتهمونني بالمرض العقلي، لقد مررت بظروف صعبة نتيجة الحروب الماضية، أحلم أحياناً أن سقف غرفتي ينطبق عليّ فجأة، بينما أكون ممدّدة على السرير إلى جانب أختي. في كل مرة أصحو على رعشة في جسدي أو أصرخ في الليل. حين شعر أبي أنني لست بخير، ذهب بي إلى طبيب نفسي، في ذلك الوقت، داهمني شعور أكثر بشاعة بأنني صرت مجنونة وأصبحت أخجل من مقابلة صديقاتي".
تكمل دعاء: "لا أحب أن أتذكر صوت القصف. إنه يرعبني للحد الذي أتمنى فيه الخروج من غزة دون عودة. فكرت أكثر من مرة في الانتحار. أشعر بأن الحرب القادمة قريبة، ولا أتمنى أن أعيشها أبداً".
وتصف دعاء المشاعر التي داهمتها أثناء القصف الأخير في أيار/ مايو 2021: "هل شعرت من قبل أن جسدك يهتز بشدة؟ للأسف، لم يكن ثمة مكان نختبئ فيه خلال الحرب. لم يكن لدينا إلا أن نضع أيدينا فوق رؤوسنا ونركض في أي اتجاه جراء الأصوات المرعبة".
حين شعر أبي أنني لست بخير، ذهب بي إلى طبيب نفسي، في ذلك الوقت، داهمني شعور أكثر بشاعة بأنني صرت مجنونة وأصبحت أخجل من مقابلة صديقاتي
يصف ناهض (14 عاماً) حياته تحت وطأة الحروب المستمرّة على القطاع. يقول: "منذ عرفت الحياة، لم أجد فيها شيئاً جميلاً. لا أعرف لماذا لا يجد أبي عملاً. لا أعرف لماذا لا نستطيع العيش في مكان آمن".
يضيف: "بيتنا يقع في منطقة حدودية شمال غزة. لطالما تعرض لإطلاق نار عشوائي. بصراحة، أنا أكره الليل، إنه الوقت الذي نتلقى فيه الضربات من الاحتلال، خلال الحروب وغيرها. لا أذكر أنني نمت مرة دون الشعور بالخوف. الخوف من أن أموت، أو أن يقتل أحد الذين أحبهم برصاص الاحتلال".
ويكمل ناهض: "سافرت إلى تونس بعد الحرب الماضية، من خلال الأمم المتحدة. كنت في حالة نفسية سيئة وبحاجة لهذه البيئة الآمنة. رأيت الاختلاف بين حياة الطفل الفلسطيني وأي طفل آخر. نحن نرافق الخوف والموت في كل تفاصيل حياتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...