كثيراً ما قال الكاتب الكردي سليم بركات إنه توقف عن مشروعه السيرذاتي بعد "السيرتين"، لأن حياته الأخرى لو كتبها ستضرّ بالآخرين، وفضّل الصمت عنها والتفرّغ للتخييل. لامه بعض المتحمّسين لسيرته، واعتبر الآخرون هذا القرار ذريعة من خارج الكتابة، ولا يمكن أن تعكس شجاعة كاتب عُرف كمقاتل بالبندقية والمدفع ومقاتل في اللغة ذاتها.
بينما ظل البعض الآخر يتساءل هل يمكن فعلاً أن نكتب كل شيء؟ هل يمكن أن نكتب سيرنا ويومياتنا ومذكراتنا بكل حرية؟ ما الذي يحول دون ذلك؟ وهل الكتابة في هذه الأجناس هي قول كل شيء بالضرورة؟ ظلت تلك الأسئلة تراوح نفسها حتى ظهر ذلك الاعتراف الذي يتحدث فيه سليم بركات عن ابنة ضائعة لمحمود درويش، أنجبها من امرأة متزوجة، لتتحول تلك الجملة إلى قنبلة في المشهد الثقافي العربي، وينقلب الذين يتحدثون عن عبقرية سليم بركات إلى مستهزئين بأدبه وبلغته التي قالوا من قبل إنها معجزة.
"لي طفلة، أنا أب، لكن لا شيء فيّ يشدّني إلى الأبوة"
هذا كل ما رواه سليم بركات عن محمود درويش، في نصه "محمود درويش وأنا"، والذي أعيد نشره في كتابه "لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة"، لتقوم عليه الدنيا ولا تقعد.
تجند لحملة التشويه التي طالته، لا فقط من قبل جمهور محمود درويش، بل حتى من الكتاب والأدباء الذين حاولوا أن يكتبوا في أدب الكتابة عن الذات، وكتبوا عن رواده ممتدحين جرأتهم في تعرية الذات وزمنهم. كان ذلك الاعتراف إفشاء سرّ لاأخلاقي، ويجب أن يعاقب سليم بركات بمئات المقالات المنددة به وبما يكتب، ويخرج في النهاية ذلك الذي وصفوه بالعبقري في خريف عمره، غيوراً ومريضاً نفسياً وفاشلاً أدبياً.
ارتفع فجأة جدار أخلاقي يحظر الحديث عن الموتى بصفتهم بشراً، فلا يمكن للشاعر الذي عرف عبر تاريخه كله بأنه يمارس سلوك الغندور أن يكون قد أخطأ مرة أو كانت له حياة سرية.
وقع سليم نصّه بتاريخ تموز/يوليو 2012، وأعيد نشره بموقع القدس العربي بتاريخ 6 حزيران/يونيو 2020، ومن خلال تأمل في النص يمكن كشف أنه بلا شك لا يمكن أن يكون مقالاً، بل مقطعاً من مذكرات غير معلنة.
"تزوج (يقصد محمود درويش) مرتين ولم يُنجبْ، بقرارٍ قَصْدٍ في أنْ لا يُنجب. كلُّ شاعر أنجب طفلاً أنجب قصيدةً مُضافة إلى ديوانه. وكل شاعر لم يُنجب طفلاً، أنجب الكونَ معموراً بأطفالِ اللامرئيِّ. أبوَّةٌ تكفي الشاعرَ هنا، وأبوَّةٌ تكفيه هناك. لكنْ، بالقَدْرِ ذاتهِ، المذهلِ في عفويته بلا تحفظ، وهو يُحدِّثُ عني في اللقاء بجمهورٍ يتلقَّف كلماته على سويَّةِ المذهلِ اعترافاً، ألقى عليَّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرّاً لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده، أمْ كان لا يتكلَّف معي قطُّ (أنا الذي أعرف الكثير عنه مما لا يعرفه سوايَ) حجْبَ شيءٍ يخصُّه؟ (لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ)".
"لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ" محمود درويش
ثم يستفيض: "حين كلّمني عن أبوَّتهِ المتحقِّقة إنجاباً محسوساً، كلمني عن فكرةٍ في عموم منطقها بلا تخصيصٍ. أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته. امرأة متزوجةٌ، اختصاراً، أخذت منه برهة اللحم لذَّةً من لذائذ المفقود المذهل، فاحتوتها كياناً لحماً. هل ستفاتح تلك المرأة ابنتَها، في برهة من برهات نَقْرِ السرِّ بمِنْسَرهِ على اللحم، تحت الجلد، بالدم (الآخر)، فيها؟ لا أعرف إن كان محمود يتفكّر في الأمر، الآن، جالساً في استراحة الرحلة إلى الأبدية، على مقعد من برهان الكلمات أنَّ الأبديةَ قصيدتُهُ الأخرى ـ الهدنةُ بلا نهايةٍ".
مجمل الخبر الذي رواه أن لمحمود درويش ابنة من امرأة متزوجة اتصلت به مراراً عبر الهاتف لتخبره بالأمر، لكنه لم يسع إليها وهو لا يشعر بأي أبوة.
تحولت هذه القصة إلى فضيحة تناقلتها المواقع والصحف والمنصات، ونُكّل بسليم بركات، واتهم بخيانة الصديق، وخيانة الأمانة، وفضح السرّ وانتهاك حرمة الميت.
وكانت الردود المتعاطفة مع الكاتب الكردي قليلة جداً، ولعل أبرزها مقال "الشاعر الفلسطيني والشاعر الكردي والريح بينهما" للكاتب والمخرج الفلسطيني الراحل نصري حجاج، والذي كانت تربطه بدرويش علاقة، وأنجز عنه فيلماً وثائقياً. وقد وصف ما تعرض له سليم بالهجمة "القبلية العشائرية الأخلاقية الصادمة"، وبيّن أن الهجمة التي تعرض لها سليم بركات وأعماله ولغته هي نفسها الأعمال التي امتدحها درويش نفسه، وهو نفسه الذي مدحه درويش، وعاب نصري حجاج على الكتاب العروبيين والقوميين والفلسطينيين هجومهم.
وقال حجاج إنه يعتقد أن الرواية صحيحة، وأن درويش أخبر سليم بركات فعلاً بها، ولم يكن يكترث للسرّ، واعتبر أن المسألة ربما راجعة لمسألة نفسية معروفة متعلقة بسيكولوجية الشخصية التي تحمل وزر سرٍّ مثل هذا، وتظل متعبة حتى تطلقه: واعتبر أن درويش نفسه اختار أن يطلق سرّه لسليم بركات لأنه الأقرب له من كل الذين يدّعون صداقته، بل إشارة بركات إلى أن محمود درويش يراه ابناً له تدفع بهذه القراءة التي تقول إن درويش كان في حاجة لإفشاء السرّ، فأفشاه لابنه الروحي، وفي تلك اللحظة لم يكن معنياً ببقائه سراً.
لم يذكر سليم اسم المرأة ولا بلدها، لأنه في اعترافاته يناقش فكرة الأبوة كفكرة عامة، انطلاقاً من تجربة شخصية عامة، ولم تكن غايته التشهير برفيق دربه وصديقه الذي ظل يمدحه طوال حياته بالنثر والشعر، فهل سنعرف سليم نحن أكثر من درويش نفسه؟
لم يكن ذلك الاعتراف زلة لسان ولا كان تشهيراً، كان مقطعاً من مذكرات الكاتب وسيرته، فهل نُحاكم على رواية سيرنا؟ من الذي له الحق في منعنا من رواية ذواتنا؟ ماهي الذات التي نتشدق بذكرها غير ما عاشت وما رأت وما سمعت؟
وترتبط الكتابة الأوتوبيوغرافية بكل أصنافها بالبوح وكشف الأسرار، ولذلك تسمى أيضاً بالكتابات الحميمة، والحميم يتسع ليشمل الآخر الحميم.
وإذا اعتبرنا هذه الكتابة أدباً، فكيف يمكن أن نحاكم الأدب بمعايير غير أدبية، كالأخلاق والدين؟ ولماذا ينكر الكتاب هذه المحاكمات على التخييل ويجيزونها على الكتابات الأخرى؟
محمود درويش مسموح له أن يستعرض فحولته على نساء العالم، وينجب معهن الأطفال ولا يعترف بهم، فهو شاعر القضية وكل النساء في فراشه في خدمة القضية، وقرابين لشعره وللأرض المحتلة، فنبي القضية نصف إله قرّر ألا يكون له أثر غير شعره
يبدو أن التلقي العربي للأدب بشكل عام يحتكم إلى عبارة "اذكروا موتاكم بخير"، لذلك يهرع القاصي والداني في المشهد لتأليه الموتى، وينتهي نقد أعمالهم برحيلهم، وتنطلق حفلات التأبين من الأربعينية إلى المئوية، ولا كلمة نقد سلبية تظهر بعد الرحيل.
ريتا اليهودية وسؤال من الذي من حقّه أن يعترف؟
اعترف محمود مرّات أنه أحب مجندة إسرائيلية تدعى ريتا، وهي التي كتب لها قصيدته الشهيرة" ريتا والبندقية":
بين ريتا وعيوني... بندقيَّة
ظلت الجماهير العربية تغني من الخليج إلى المحيط أغنية ريتا ويحفظونها عن ظهر قلب، ويطالبون مارسيل خليفة إذا نساها في مهرجانات العرب، مع معرفتهم بقصتها وأنها الفتاة الإسرائيلية التي أحبها محمود درويش. نفس الجماهير التي اتهمت سليم بركات بالتصهين ووجدت في روايته الجديدة "وماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟"، ذريعة أخرى لتلك الاتهامات، هي نفسها التي مازالت تهتف في المسارح مطالبة بأغنية ريتا من مارسيل خليفة.
وكأن الخطيئة القومية عندهم عنصرية أيضاً، أي أن الخطأ مسموح لكتّاب دون غيرهم، فيحق لدرويش أن يعشق إسرائيلية، وأن يكون صديقاً مقرّباً للكتاب الإسرائيليين، وأن يسمح بترجمة كتبه للعبرية، وأن يكتب في المجلات الإسرائيلية، لكن ليس مسموحاً لأي كاتب آخر أن يذكر كلمة "يهودي" في كتبه، وليس مسموحاً له بلقاء يهودي، وليس مسموحاً له بأن يترجم للعبرية. والأمثلة على أخبار تخوين الكتاب لا تحصى ولا تعدّ، منذ إميل حبيبي إلى اليوم.
هل ندم سليم بركات على حسّه العروبي المبالغ فيه أثناء الحرب؟ هل عزلته عزلة أم حالة من تأنيب الضمير أم رهاب من الناس، وهل توقفه عن كتابة سيرته جاءت من أجل عدم أذية الآخرين أم هروب من الماضي؟
ولا ندري ماذا سيكون الحال لو كانت قصة ريتا مع سليم بركات. على الأرجح كان العرب والفلسطينيون حملوه كل هزائمهم من 67 إلى اليوم، فسيصبح بلا شك الجاسوس المزروع في منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه بلا شك كان يتخابر مع إسرائيل عندما كان يقاتل في صفوف المقاتلين الفلسطينيين عام 1976. أما محمود درويش فمسموح له أن يستعرض فحولته على نساء العالم، وينجب منهن الأطفال ولا يعترف بهم، فهو شاعر القضية، وكل النساء في فراشه في خدمة القضية، وقرابين لشعره وللأرض المحتلة، وكل امرأة تحبل منه عليها أن تصمت إلى الأبد، فنبي القضية نصف إله قرر ألا يكون له أثر غير شعره.
المذكرات تبيح المحظورات
يذكر الفرنسي جورج ماي في محاولة تمييز المذكرات عن السيرة الذاتية بان المعاجم تشير إلى أنها "تركز على الأحداث الخارجية"، عكس السيرة الذاتية، غير أن الداخل والخارج هنا مفهومان ملتبسان، فإذا كان المعنى أن السيرة الذاتية تهتم بدواخل الذات الكاتبة، فإن معنى الخارج في المذكرات يشمل داخل الآخر كما يشمل الأحداث العامة، فكما يقول الناقد في كتابه "السيرة الذاتية": "إنه ليندر ألا يقحم كاتب المذكرات نفسه من حين إلى آخر في ما يكتب، وبذلك يغدو، دون قصد منه أحياناً، كاتب سيرة ذاتية".
كيف لنا أن نكتب يوميات أو مذكرات أو سيراً ذاتية دون أن نفشي أسراراً أو نواجه الماضي؟
مشروعية الكلام عن حميميات الآخر في نص سليم بركات تكتسب مشروعيتها من جنس الكتابة نفسها، ولا يمكن البحث عنها في خارج النص؛ فالنص يجنس ضمن المذكرات لأنه يسجل أحداثاً مضى عليها زمن ولم تعد راهنة، وبذلك لا يمكن إدراجها في اليوميات، وهي نصوص متقطعة ولا تمثل أثراً كاملاً مترابطاً ليقحم في السيرة الذاتية، بالرغم من أنه يمتح منها، فكلما أوغلنا في البحث عن الحدود الفاصلة بين السيرة الذاتية والمذكرات، ازددنا يقيناً من أنها "غائمة زئبقية قُلّب وهمية".
هل يجرؤ سليم بركات عن مساءلة مشاركته في الحرب الأهلية اللبنانية؟ وهل يجرؤ الآن على أن يتحدث إلى من سماه "صديقي 94"، المدفع الذي كلف به لتدمير "الأعداء الحميمين"؟
يقول في يومياته "كنيسة المحارب": "فجأة دخل إلى حمّانا الباش مهندس أبو المعتز، يرافقه عسكري آخر، ثم أشار إلي صائحاً: هذا هو المطلوب.
لم أفهم شيئاً من الأمر، حتى تقدم إلي الباش مهندس معرفاً بالضابط الذي معه، ومن ثم تولى الضابط التفسير: قال إننا نملك مدفعاً ساحلياً من عيار 94، وليس لديه طاقم يستخدمه، ولقد قررنا أن تكون الرامي، يعاونك خمسة مقاتلين. قلت له أن لا علم لي في استخدامه، قال أن الأمر لن يستغرق أكثر من يومين. وافقت برهبة، ثم حملت بندقيتي واتجهنا إلى رأس "المتن".
بسبب الأوامر بالانسحاب، بعد أيام كان سليم بركات حزيناً لأنه، كما يقول، لم يوطّد علاقته جيداً بصديقه 94، فيكتب: "لأول مرة كنت أشاهد مدفعاً بتلك الضخامة، وذلك الامتداد المرعب لسبطانته المتجهة صوب برمّانا. لكن لم يمهلني الوقت لأوطد ثقتي أكثر بالـ 94، وقد غادرته وفي نفسي حزن عليه".
فكيف نفهم حزن سليم بركات؟ هل هو حزن لأنه لم يستعمله أكثر ولم يحصد به رؤوساً أكثر؟ هل مازال اليوم يعتقد في طهارة تلك الحرب ومشروعية ذلك القتل؟
إذا كان سر محمود درويش قد أثقل عليه، وكان يجب أن يتخلص منه بإعلانه، ألا تستحقه تلك الحرب وضحاياها اليوم من لحظة شجاعة لمساءلتها؟ هل هي سبب في ذلك الذعر الذي يعيشه إلى اليوم وخوفه من أن يعرف أي شخص طريقه أو رقم هاتفه؟ ألم يرد طوال حواره مع أحمد عمر: "كيف حصلت على رقمي؟ هناك ناس يعادونني ويسيئون إليَّ بشدّة".
هل ندم سليم بركات على حسّه العروبي المبالغ فيه أثناء الحرب؟ هل عزلته عزلة أم حالة من تأنيب الضمير أم رهاب من الناس، وهل توقفه عن كتابة سيرته جاءت من أجل عدم أذية الآخرين أم هروب من الماضي؟
هل فضحُ مخلفات المدفع الأيروسي لمحمود درويش أفظع من مخلفات المدفع 94؟
ليبقى السؤال الأدبي والأجناسي، الموجه لخصومه عن بوحه، قائماً: كيف لنا أن نكتب يوميات أو مذكرات أو سيراً ذاتية دون أن نفشي أسراراً أو نواجه الماضي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...