شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ورثة أم قتلة؟... حين تُمسخ اليوميات

ورثة أم قتلة؟... حين تُمسخ اليوميات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 3 أكتوبر 202210:32 ص

 عندما نُشرت يوميات آن فرانك كانت ناقصةً، وأدخل عليها والدُها بعضَ التحويرات، واعتُبر ذلك اعتداءً على أصالة النص، وكان سبباً في حملة التشكيك بخصوص صدقيتها، والتي كادت أن تعصف بالأثر، واحتاج المهتمون وقتها إلى خبراء في الخط والحبر لإعادة الاعتبار لليوميات وتأكيد أصالتها. وعندما نشرت يوميات كافكا لأول مرة، كانت ناقصة ثم وقع إعادة ما حذف منها في طبعات لاحقة. وعندما ظهرت يوميات غسان كنفاني في كتاب، تساءلنا: هل هذه كلُّ يوميات غسان؟ هل فعلاً لم تعثر  زوجته إلا على تلك اليوميات القليلة التي سلمتها لمجلة الكرمل التي نشرتها في عددها الثاني ربيع 1981؟

 لماذا يتلاعب ورثة الكتاب والفنانين بأعمالهم ومؤلفاتهم وآثارهم؟ آخر من أعلن، وبكل جرأة، عن نيته التدخل في الميراث هي أم كلثوم نجيب محفوظ التي صرحت أنها عثرت على يوميات أبيها، لكنها ستختار منها ما يصلح  للنشر، وأنها لن تسمح بنشر بعض اليوميات لأنها تذكر أشخاصاً وأفراداً من الأسرة بالاسم. 

الكاتب هو الوحيد الذي له الحقُّ في أن يعدم مخطوطَه أو يقحمه في عمل آخر، ولا يحق لأي شخص آخر أن يفعل ذلك؛ فعندما قرر عباس محمود العقاد أن يعدم يومياتِه، قام بذلك بنفسه، وماعدا ذلك فكل من يترك أثراً لا يجب أن نعدم جزءاً منه بأي ذريعة، حتى لو كانت وصيةً من الكاتب نفسه؛ فماكس برود، ناشر وصديق كافكا، لم يهتم بوصية صديقه التي يطالبه فيها بإحراق ما سيترك من مخطوطات بما في ذلك يومياته، واعتبر أنها وصية غير ممكنة التنفيذ، وأن نية إحراق المخطوطات ليست صادقةً، وإلا كان أحرقها كافكا بنفسه.

ورثة أم قتلة؟

من سوء حظ الانسان أنه مهما حاول ضبط حياته والنجاة بها من تراجيديا السلالة، فإنه ساقط في فخها في النهاية مع توقف الحياة، فنحن لا نختار ورثتنا في الغالب، لتنتهك حتى الوصايا التي نتركها.

لماذا يتلاعب ورثة الكتاب والفنانين بأعمالهم ومؤلفاتهم وآثارهم؟ آخر من أعلن/ت، وبكل جرأة، عن نيته/ا التدخل في الميراث هي أم كلثوم نجيب محفوظ التي صرحت أنها عثرت على يوميات أبيها، لكنها ستختار منها ما يصلح للنشر

ظل الكاتب المغربي محمد شكري يمتدح العزلة ويرفض الزواج والإنجاب، بعد أن عاش تجربة عائلية مريرة حولته من طفل إلى ملكية خاصة لوالد يستعبده بتشغيله بالسخرة في المقاهي والأسواق، ويقبض هو الراتب، ولم يتردد ذلك الأب في لي عنق أخيه الأصغر لحظة بالغ في البكاء من الجوع. هذا كله جعل محمد شكري يقول رداً عن السؤال المتكرر حول عدم زواجه: ''اخترت الزواج بكتبي، بالكتابة... ضحيت بالمرأة والأسرة من أجل الزواج بالكتابة والقراءة". ويجيب أحياناً بأنه لا يريد أن يورط أحداً معه، ولا يتحمل مسؤولية أطفال وزوجة.

هذا النفور من السلالة وامتداح اللقاطة كان أيضاً تطيراً من المستقبل، ورغم حرص شكري على التفكير في مصير منجزه الأدبي إلا أن ميراثه الفني والأدبي ومخطوطاته وأشياءه الشخصية لم يكتب لها أن  تكون في متحف خاص حلم به بعد أن تدخل الورثة الذين ظهروا له فجأة واستولوا على أغراضه.

ومن الأشياء المعبرة عن العلاقة بين الوارث والمورث هو إجابة وريث محمد شكري ابن أخيه عندما سأله نجيب مبارك: أنتَ ابن أخ الكاتب الكبير الراحل محمد شكري، والوكيل الشرعي عن تراثه الأدبي، ما هي ذكرياتك عن الراحل وكيف كانت علاقتك به قبل وفاته؟ فأجاب الشاب بكل عفوية: نعم، أنا ابن أخ الراحل محمد شكري والوكيل الشرعي عن تراثه الأدبي، بمقتضى توكيل قانوني موثّق. علاقتي بالراحل كانت بسيطة جداً، وذلك ناتج عن علاقته المتوتّرة والمتذبذبة بالعائلة ككلّ. كانت لقاءاتنا تتمّ غالباً في أحد مطاعم طنجة. وأذكر من حديثه معي أنّه كان يوصيني دائماً بالعناية بأبي.

فهل هذه العلاقة بين الكاتب ووريثه تشرع لتوريث منجزه وأغراضه التي صارت جزءاً  من الإرث الإنساني؟

تذكر الأخبار أن ورثة محمد شكري اقتحموا بيته  بطنجة بعد وفاته، ونقلوا كل ما فيه إلى تطوان، وهي مخزنة الآن في أوضاع غير صحية باعتراف ابن الأخ نفسه، واتهم فيه الدولة بتخليها عن مشروع مؤسسة محمد شكري. وكذّب الوريث الوكيل الأدبي روبرتو يد هولندا الذي تحدث عن وصية لإطلاق مؤسسة محمد شكري يشرف على تأسيسها مجموعةٌ من أصدقائه.

الكاتب هو الوحيد الذي له الحق في أن يعدم مخطوطه أو يقحمه في عمل آخر، ولا يحق لأي شخص آخر أن يفعل ذلك؛ فعندما قرر عباس محمود العقاد أن يعدم يومياته قام بذلك بنفسه، وماعدا ذلك فكل من يترك أثراً لا يجب أن نعدم جزءاً منه بأي ذريعة

الغريب أن من ورثه هو ابن أخيه الذي قاطعه من أجل كتابة "الخبز الحافي" بتهمة فضح العائلة. يقول  روبرتو دي هولندا: "كان هناك خياران مطروحان؛ إما إعطاء الأعمال لجامعة أوروبية أو أمريكية، أو وضعها بعهدة مؤسسة مغربية". واختار محمد شكري المغرب، وكانت تلك اللحظة الوطنية ربما خطأه الفادح حيث لم تعد الدولة مهتمةً بإرثه بعد أن رحل وتركت البيت المشمع في انتظار وصول الورثة بمعاولهم واقتحامه.

ما الذي يجعل من يوميات نجيب محفوظ مهمةً؟

سئل مرة نجيب محفوظ عن حقيقة رفضه لفن السيرة الذاتية، وأجاب إجابةً غريبة لا يمكن أن نتوقعها من كاتب تحصّل بعد ذلك على جائزة نوبل للآداب، حيث استصغر من أهمية السيرة الذاتية، واعتبرها سلوكاً يسعى إلى الفضائحية، ولا طائل من ورائه، ولا تصلح إلا للسياسيين أو العسكريين. قال ذلك في وقت كانت السيرة الذاتية العربية قد وضعت أسّها القوي مع طه حسين عبر "الأيام"، وميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران.

فأن يكون نجيب محفوظ قد كتب يومياته، فهذا يدعو إلى الفضول والتساؤل: هل غيّر محفوظ رأيَه من فن الكتابة عن الذات بشكل عام حتى أنه أقدم على تسجيل يومياته وهي أكثر فروع الكتابة عن الذات خطورةً؟ وإذا ظل محفوظ متحفظاً وهو يسجل يومياته فما الفائدة من تسجيلها؟

هذا الفضول الذي يتشكل عند القراء لحظة وصوله خبر العثور على يوميات لنجيب محفوظ، تسقطه ابنتُه عندما تعلن أنها ستتدخل في المخطوط، وستخضعه لرقابة عائلية، ليتحول السؤال من ماذا سجل محفوظ إلى سؤال: ما فائدة نشر اليوميات إذا كانت ستحرَّف وتشوَّه  عبر الحذف والإسقاط والدمج؟

هل العلاقة بين الكاتب ووريثه تشرع لتوريث منجزه وأغراضه التي صارت جزءاً من الإرث الإنساني؟

وتزيد الطامة الكبرى عندما تعلن الابنة الوريثة أنها ستقحم يوميات الفقيد في كتابها "أبي نجيب محفوظ" الذي يساعدها على كتابته أحد أفراد العائلة عوض أن يسلَّم المخطوط إلى خبير في الاختصاص أو محقق أو ناقد أدبي لتقديمه للناس.

تقول أم كلثوم نجيب محفوظ: "هي مش مذكرات، هي يوميات، ومش هنشرها كاملة، لأنه كاتب بعض المواقف بأسماء أصحابها، ولما اتكلّم قبل كده بأسماء أبناء عائلته زعلوا، فهختار منها المناسب للنشر".

أهمية يوميات محفوظ كما تبين من تصريحات ابنته تتمثل في امتدادها فهي "مكتوبة بخط يده، والتي شرع في تدوينها منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى عام 1994، بعد محاولة اغتياله على يد جماعات دينية متطرفة".

يبدو عنوان الكتاب الموعود الذي اختارته ابن صاحب "خان الخليلي" عنواناً مستنسخاً تركيبياً وهو عنوان "كليشيه" تداوله العديدُ من الكتاب عبر التاريخ، كما أنه يعكس بؤس الورثة في كل الأزمنة حيث لا يملكون ما يقدمونه وما يؤكدونه في العنوان غير انتسابهم السلالي للفنان أو الكاتب أو السياسي؛ "أبي نجيب محفوظ" من نحو "بابلو إسكوبار  أبي" لجان بابلو إسكوبار، و"ديغول أبي" لفيليب ديغول، أو" شابلن أبي" لشارلز شابلن جونيور، إلخ.

مخطوطة يوميات من الثلاثينيات إلى التسعينيات

ما ذكرته ابنة نجيب محفوظ عن السنوات التي تغطيها اليوميات تطرح عدة أسئلة، أولها: ما حجم هذه اليوميات التي تغطي أكثر من ستين عاماً؟ هي تتحدث عن دفتر واحد فما حجم هذا الدفتر؟ وهل كان محفوظ يكتب يوماً بيوم؟ وبما أنها أكدت أنها يوميات، وليست شيئاً آخر، وأنه فيها يحاول أن يدافع عن نفسه في بعض الشائعات، فهذا يعني أنه كان يكتب بإسهاب لا بتكثيف، وإذا كان الأمر كذلك فالمخطوط لا بد أن يكون ضخماً، وإذا كان المخطوط بهذا الحجم، فلماذا يشوَّه بالزجِّ به في مؤلف مزعوم لا ندري ماذا ستكتب فيه ابنته، ولماذا لم تفصل كلثوم نجيب محفوظ كتابها وما سترويه عن أبيها عن يوميات الأب كما هي التقاليد الأدبية؟

سئل مرة نجيب محفوظ عن حقيقة رفضه لفن السيرة الذاتية وأجاب إجابة غريبة لا يمكن أن تتوقعها من كاتب تحصل بعد ذلك على جائزة نوبل للآداب حيث استصغر من أهمية السيرة الذاتية واعتبرها سلوكا يسعى إلى الفضائحية ولا طائل من ورائه

تقول أم كلثوم محفوظ للأهرام متحدثة عن اليوميات وحجمها وظروف العثور عليها: "بعد وفاة والدي بسنوات بدأت رحلة البحث فى مكتبته وأوراقه التي تركها، رغبت بداية فى إعادة ترتيب المكتبة والتي كانت تتوزع كتبها على غرف المنزل والطرقات والبلكونة. البيت كان عبارة عن كتب وأوراق تحتل أغلب مساحته، وظللتُ لسنوات أعيد ترتيب الكتب، ثم بدأت فى قراءة الأوراق القديمة حتى اكتشفت دفتراً قديماً عثرت فيه على مذكراته والتي كتبها بخط يده في كشكول ضخم".

وعن الفترة التي تغطيها اليوميات تقول :"هذه المذكرات تبدأ منذ فترة الثلاثينيات وحتى عام 1995، حيث كتب آخر جملة فيها بعد نجاته من حادثة اغتياله".

وعن الشكل الذي كتب به اليوميات وأسلوبها تقول: "فى البداية كان يكتب اليوميات دون تاريخ، وبعد ذلك راح يكتب تاريخَ كل صفحة، وعندما قرأت تلك المذكرات وجدت فيها ردوداَ على كلِّ  الاتهامات التى وُجّهت له، خاصة بعد وفاته، مثل التحفظ الشديد، فقد كان أبي يكتب بكل صراحة فى كل شيء".

العثور على المخطوط صدفة

الملاحظة الأخرى التي تشد في تصريحات الوريثة أنها وجدت اليوميات، التي نتوقع أنها ضخمة، وبخط اليد، صدفةً عندما كانت ترتب مكتبة والدها. فكيف نصدق أن يحدث هذا مع  صاحب نوبل وقد مضى على رحيله سنوات؟ لم تحدثنا الوريثة عن زمن عثورها على اليوميات، ولا عن تاريخ قرارها كتابة كتابها المزعوم. منذ سنة تقريباً نزلت أعمال نجيب محفوظ للمزاد بين دور النشر لتفوز بها دار الديوان، ويخرج لأول مرة من دار الشروق، وقبل هذا العام تخرج علينا السيدة أم كلثوم بقصة اليوميات التي تنوي أن تقحمها في كتابها الذي لم تكتبه، ولنا أن نردد خلف الناقد السينمائي طارق الشناوي: "المذكرات ليست قلادة ذهبية، قد نكتشف بعد كل هذه السنوات أنها مزيفة. أوراق أديبنا الكبير الشخصيةُ أهمًّ وأبقى من ذلك بكثير، ولا يمكن أن يترك مصيرها فقط للابنة. إنه، يا سادة، تراث إنساني عالمي، ليس ملكاً لأحد حتى أقرب الناس إلى نجيب محفوظ".

بدعة إقحام يوميات محفوظ في مذكرات ابنته يشي بأن هذا الكتاب المزعوم سيكون مسخاً وسابقة في تاريخ الأدب، لأنه حتى زوجة تولستوي التي تدور الإشاعات حول علاقتها غير السوية بزوجها لم تجرؤ على فعل ذلك، وكتبت مذكراتها الشخصية للدفاع عن نفسها. فما الغاية من إقحام يوميات محفوظ في مذكرات ابنته؟ هل من أجل أن تنفرد الابنة باليوميات كجزء أصيل من كتابها أم من أجل أن تبيع كتابها نفسه؟

في كل الحالات نحن في انتظار جريمة أدبية كاملة الملامح؛ تشويه نص أصيل لكاتب أصيل ما زال الكاتب العربي الوحيد الذي نال جائزة نوبل وإقحامه في جسم غريب هلامي لابنة لم يسبق لها أن كتبت شيئاً من قبل، وكل مشروعيتها في ارتكاب ذلك الفعل الغريب أنها وريثة الكاتب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image