في حياة العرب ثمة نباتات ارتبطت بالأنبياء والقديسين فأصبحت مباركة مع الوقت، يعتقد الكثيرون في قدرتها على الشفاء من الأمراض وتخفيف الأوجاع. وهذا ما أكدته الحكايات التي توارثناها جيلاً بعد آخر، حتى صارت في نظر البعض حقائق مؤكدة.
رائحة حاضرة في حكايات الطفولة
"زارعنا الميرمية ع باب الدار/وفلسطين بتنادي على الأحرار"، هكذا يتردد صوت دلال أبو آمنه الشجي في الأرجاء كخلفية موسيقية مناسبة لما يحكيه الصحافي والباحث الفلسطيني سعيد أبو معلا عن علاقته بنبتة الميرمية التي لم تتوقف عند حضورها الطاغي في كوب الشاي الصباحي والمسائي والذي يعد طقساً مقدساً في حياته، لكنها تمتد لأبعد من ذلك بكثير.
يعود سعيد بذاكرته لثمانينيات القرن الماضي عندما كان طفلاً صغيراً لعائلة فلسطينية تعيش في قرية صغيرة شمال الضفة الغربية التي لا تغيب الميرمية عن بيوتها حتى صارت رائحتها الطيبة تفصيلة أساسية حاضرة في حكايات الطفولة.
"عندما كنا صغار السن وتغرينا مشاهد التدخين من دون أن نمتلك مالاً لشراء سيجارة، كنا نقوم بفرك الميرمية اليابسة، وكنا نلفها بورق دفاتر المدرسة وندخن"
يحكي سعيد لرصيف22 قائلاً: "أتذكر حين كنت صغير السن وأشارك إخوتي الصغار عملية جمع الميرمية من الجبال المجاورة للقرية، وغالباً ما كانت رحلة البحث عنها تبدأ مع نهايات فصل الربيع حيث تكون أغصان 'بيوت الميرمية' قد اشتدت وأصبحت صلبة ممتلئة الرائحة والنكهة. كان الذهاب لجميع الميرمية سبباً مقنعاً لوالدي ووالدتي للخروج من المنزل والارتماء في أحضان الجبال والوديان. هذا أمر كان عشقي واستمر حتى اللحظة".
يواصل سعيد: أتذكر أنه لشدة الطلب على الميرمية في بعض الفترات (تسعينيات القرن الماضي) وأمام تنامي حالات اقتلاعها الجائر أصبحت نادرة، حيث كان ذلك يتطلب مجهوداً كبيراً. وكان البيت الذي يقدم الشاي مع الميرمية ميزة يتحدث عنها الجميع ويتفاخر بها أمام الجميع أيضاً، وكان يقال: 'زورني بعمل لك شاي بالميرمية'.
في منزلنا لم تنجح جهود أمي في زراعة 'بيت ميرمية' تم اقتلاعه من الجبل وزرع في حوض صغير أمام المنزل. جربت الأمر مرات كثيرة، وتشكلت لاحقاً عند أمي قناعة أن هذه النبتة بنت الجبل وليس المنزل".
علاقة سعيد بالميرمية علاقة قوية ومركبة، فقد كانت شريكة لحظات الوجع والألم وشقاوة الصبا، ويقول عن ذلك: "لأننا كنا نعيش في قرية نائية بعيدة عن الأطباء في تلك الفترة، كانت الميرمية سلاح أمي في مواجهة آلامنا مهما كانت؛ فاذا ما شعرت بأوجاع البطن أنا أو أحد من إخوتي، كانت تغلي أوراقها في الماء لنشرب حتى يخف الوجع. وإذا ما أصيب أحدنا بجرح كانت تسارع بمضغ أوراقها الخضراء أو اليابسة لتضعها على الجرح حتى يتوقف نزيف الدم ويعقم الجرح. وإن شعرتْ بإصابة أحدنا بعين الحاسد كانت تحرق أوراقها لنستنشق رائحتها التي تطرد العين كما كانت تؤكد أمي".
على أعتاب الصبا
عندما ترك سعيد مرحلة الطفولة ووقف على أعتاب الصبا كان هناك استخدام آخر للميرمية اختبره هو ورفاقه. يقول: "عندما كنا صغار السن وتغرينا مشاهد التدخين من دون أن نمتلك مالاً لشراء سيجارة، كنا نقوم بفرك الميرمية اليابسة، وكنا نلفها بورق دفاتر المدرسة وندخن. أعتقد أنني جربت ذلك مرة واحدة وكانت تجربة غير موفقة. ولكن أقراناً كثراً بدأوا مشوار تدخينهم بهذه النبتة وهم صغار".
يجزم سعيد أن الميرمية نبتة لها فعل سحري لم يختبرها علمياً لكنه كباقي أهل الشام لمس آثارها لسنوات طويلة. وهي الآثار التي وصلت للأجانب فصار يشاهد السائحين الزائرين لفلسطين يطلبون منها الكميات ليستخدموها لتحسين المزاج وتخفيف الآلام.
كان البيت الذي يقدم الشاي مع الميرمية ميزة يتحدث عنها الجميع ويتفاخر بها أمام الجميع أيضاً، وكان يقال: 'زورني بعمل لك شاي بالميرمية'.
علاقة سعيد أبو معلا بالميرمية لم تنته بانقضاء طفولته وصباه، لكنها أصبحت شريكته وجارته، فبعد أن كبر وعاد من فترة إقامة مؤقته في مصر، اشترى قطعة أرض صغيرة على أطراف قريته وقام بتجريفها وتحسينها حيث كانت تعاني من وعورة فكانت مليئة بالصخور، لتفاجئه الأرض على ذلك المعروف أجمل مفاجأة.
يقول سعيد: "تمهيد الأرض واقتلاع النباتات البرية الضخمة منها منح الفرصة لبيوت الميرمية بالنمو، فتلقيت بعد ثلاث سنوات من تجريفها أجمل هدية منها، فقد لاحظت أن الأرض الصغيرة فيها ما لا يقل عن 5 بيوت ميرمية كبيرة الحجم تجعلني أفتخر بذلك. وهي تزود العائلة ومن يريد من أهالي القرية بالميرمية التي يريدونها. لم يكن لي دور كبير في هذه البيوت باستثناء أنني حميتها من الحراثة وجددتها بحجارة كبيرة، فنهضتْ وأصبحت تجود سنوياً ما يكفي عائلتنا الكبيرة".
تؤكد العديد من الروايات أهمها ما ذكر في مجلة "آفاق بيئية" تحت عنوان "الطعام التراثي الموسمي" على لسان الطبيب الفلسطيني الرائد توفيق كنعان أن اسم الميرمية جاء نسبة إلى اسم مريم العذراء ويروى -بحسب ماهو متوارث- أنها -السيدة مريم- في إحدى نزهاتها وفي وقت الصيف الحار جلست على حجر تستريح من عناء المشي، وكان العرق يتصبب من جبينها، فتناولت من تحت أقدامها بضع أوراق من نبات الميرمية لتجفف بها جبينها. ويقال إنه منذ ذلك الوقت اكتسب النبات رائحته الطيبة، وما زال يكرم باسم مريم.
رعرع أيوب
"رعرع أيوب، يشفي من المرض ويخفف الذنوب"، هكذا كانت تردد أمي على مسامعي وأنا طفلة حينما كنت أرفض الاستحمام بذلك العشب الأخضر الذي نطلق عليه بقريتنا الصغيرة بمحافظة الشرقية اسمَ "رعراع أيوب"، في طقس اعتادت أمي على تكراره بشكل سنوي في يوم الأربعاء من أسبوع الآلام السابق لعيد القيامة المجيد، حيث كانت تذهب بكل حماس لتبحث عنه في حقول القرية الممتدة.. تحضره وتدعك به أجسادنا الصغيرة وهي تردد "رعراع أيوب يشفي من المرض ويخفف الذنوب". ولا تنسى بالطبع أن تحكي لنا قصة سيدنا أيوب وكيف عانى من المرض لسنوات طويلة ولم يشف منه إلا بعد أن هداه الله للاستحمام بالرعرع.
عادة الاستحمام بالرعرع ارتبط بها المصريون على اختلاف معتقداتهم الدينية، فكما حرصت أمي الفلاحة المسلمة عليها، حرصت كذلك أم محب، المرأة الصعيدية المسيحية على فعلها.
يقول الكاتب والصحافي المصري محب سمير لرصيف 22: "الاستحمام برعرع أيوب في أربعاء أسبوع الآلام عادة توارثها المصريون جيلاً بعد آخر، لكنها للأسف في طريقها للاندثار حالياً، فقليل جداً من الأجيال الجديدة يعرفونها.
تؤكد العديد من الروايات أن اسم الميرمية جاء نسبة إلى اسم مريم العذراء
يحكي محب عن ذكرياته مع رعرع أيوب فيقول: "قديماً كان ينتشر ذلك العشب بكثرة، فأذكر أن جدي كان يبيعه باعتباره عطاراً لأهل قريتنا الصغيرة بمحافظة المنيا، وكانت أمي كباقي نساء القرية تحرص على إحضاره وخلطه بالماء ودعك أجسادنا به معتقدة كغيرها أنه يحمينا من الأمراض على مدار العام. لكن بمرور الوقت نسينا تلك العادة وربما ساهم في ذلك اختفاء الرعرع نفسه، فلم يعد منتشراً في الأسواق او الحقول كالسابق".
في كتابه "مقدمة في الفلكلور القبطي" الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية في سلسلة الدراسات الشعبية، أكد الكاتب عصام ستاتي أن رعرع أيوب سمي بذلك نسبة للنبي أيوب الذي يردد الاعتقاد الشعبي السائد أنه اغتسل مدلكاً جسده بنبات أخضر يسمى الرعرع، فشفي من أمراضه التي رافقته لسنوات طويلة، وكان ذلك فى يوم الأربعاء، فنسب له. واعتادت المجتمعات خاصة الريفية، الاحتفال بهذا اليوم بالاغتسال والتدليك بنبات الرعرع، وأحياناً يوضع في الماء المستخدم للاغتسال، ولا بد أن يرش ماء الاغتسال داخل المنزل، خاصة أمام الأبواب".
الحاج عبد الله أبو مسلم وهو من عرب مطروح، يعمل بمجال العطارة والتداوي بالأعشاب منذ سنوات طويلة، يؤكد لنا أن "الأعشاب المباركة التي ارتبطت بالأنبياء والقديسين عرفت منذ قرون طويلة بفاعليتها الكبيرة في التداوي من الأوجاع المختلفة. وهذا ما أكدته الخبرات الإنسانية قبل التجارب العلمية"، فالميرمية كما أكد الحاج "يتم وصفها لعلاج أوجاع البطن كالنزلات المعوية وانتفاخات القولون"، كذلك ينصح بغلي أوراقها الجافة وتحليتها بالعسل لأوجاع الحنجرة والتهابات الزور، كما قال إنها تدخل في العديد من وصفات التجميل الخاصة بالنساء.
أما الرعرع فيؤكد أبو مسلم أن المصريين وعبر عصور عديدة استخدموه في علاج الأمراض الجلدية المختلفة والتهابات المفاصل عن طريق عمل وصفات خاصة منه بعجن أوراقه الخضراء بطريقة معينة ووضعها على الأماكن المصابة. وهي وصفات شعبية لا زالت مستخدمه في العديد من المناطق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع