شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بطل عمورية وقاتل

بطل عمورية وقاتل "الإمام الجواد"... الخليفة العباسي المعتصم بالله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 3 نوفمبر 202210:43 ص

ولد أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد سنة 179هـ. في شبابه، عهد إليه أخوه عبد الله المأمون بولاية مصر والشام، ثم نصّبه بعدها ولياً للعهد. ولمّا توفى المأمون سنة 218هـ، بويع محمد بالخلافة وتلقب بالمعتصم بالله ولم يكن قد بلغ الأربعين من عمره بعد.

وعلى الرغم من أن فترة خلافة المعتصم لم تزد عن التسع سنوات إلا أنها شهدت العديد من الأحداث المهمة التي أثّرت كثيراً في مسار التاريخ الإسلامي.

المعتصم والأتراك

قبل خلافة المعتصم بالله، اعتمدت الدولة العباسية على عنصرين رئيسيين: العنصر العربي الذي تحدر منه الخلفاء العباسيون القرشيون ممن تولوا زمام السلطة والحكم؛ والعنصر الفارسي الذي تحمل أعباء الثورة على النظام الأموي سنة 132هـ، وبعدها لعب دوراً مهماً في نقل السلطة إلى الخليفة عبد الله المأمون عقب التغلب على أخيه محمد الأمين.

عرف المعتصم بالله منذ اليوم الأول لخلافته أن هذين العنصرين لن يقفا في صفه، وأنه لن يتمكن من استخدامهما في سبيل إحكام قبضته على دولة الخلافة. ظهر ذلك بعد وفاة المأمون مباشرة.

يحكي ابن الأثير (ت. 630هـ)، في كتابه "الكامل في التاريخ"، أن الكثير من الجند الفرس والعرب رفضوا مبايعة المعتصم بالخلافة، و"نادوا باسم العباس بن المأمون". ورغم أن العباس رفض ذلك وسارع إلى مبايعة عمه المعتصم إلا أن الخليفة الجديد تأكد من ضرورة الاعتماد على عنصر جديد يضمن ولاءه الكامل.

هنا سنجد أن السمات الشخصية للمعتصم شجعته على الميل إلى العنصر التركي. كان المعتصم معروفاً بقوته البدنية الهائلة التي تتشابه مع القوة التي يتمتع بها الأتراك القادمون من آسيا الوسطى. يقول ابن الطقطقي (ت. 709هـ)، في كتابه "الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية"، واصفاً قوة المعتصم: "كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات... وكان يلوي العمود الحديد حتى يعيده طوقاً... وكان لا يُقاس به الرجال قوة بدن وشدة بأس وشجاعة قلب وكرم أخلاق".

الأمر الآخر الذي أسهم في ميل المعتصم للأتراك كان أمه. كانت أم المعتصم جارية تركية الأصل تُدعى ماردة. لا بد أنها قد ربّت ولدها على الاعتزاز بأصوله التركية. ومن المُحتمل أن يكون ذلك قد أسهم في قربه من الأتراك في ما بعد. يذكر المؤرخ العراقي الدكتور عبد العزيز الدوري، في كتابه "العصر العباسي الأول"، أن المعتصم كان يطلب من ولاته أن يبعثوا له بالغلمان الأتراك من كل مكان. على سبيل المثال، أرسل له والي خراسان عبد الله بن طاهر ألفي غلام تركي سنوياً كجزء من خراج خراسان. كما أن المعتصم كان يشجع الأتراك الأحرار في آسيا الصغرى على الانخراط في جيشه. وتذكر بعض المصادر أن المحاربين الأتراك في الجيش العباسي زادوا كثيراً في تلك الفترة حتى بلغ عددهم سبعين ألف شخص.

كما هو متوقع، تسبب ذلك في إثارة الغيرة بين صفوف العرب والفرس. على سبيل المثال، يذكر أحد المؤلفين المجهولين في كتاب بعنوان "العيون والحدائق في أخبار الحقائق" أن أهل بغداد ضجوا بالشكوى من كثرة الأتراك في مدينتهم. ووصل الأمر إلى حد أن أحد البغداديين ذهب إلى المعتصم في المسجد الجامع وشكا له من جوار الترك وقال له: "لا جزاك الله عن الجوار خيراً جاورتنا وأتيت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا فأيتمت صبياننا وأرملت بهم نساءنا وقتلت بهم رجالنا". على إثر تلك الشكاوى، خرج المعتصم من بغداد وبنى مدينة سامراء واتخذ منها معسكراً لجيشه التركي.

لم تنته المشكلة بالخروج من بغداد. غار القادة العرب والفرس من النفوذ المتزايد لنظرائهم الأتراك. يذكر الدكتور حسن إبراهيم حسن، في كتابه "تاريخ الإسلام السياسي والاجتماعي والثقافي"، أن هؤلاء القادة دبروا مؤامرة لعزل المعتصم وتولية العباس بن المأمون أثناء الحملة على عمورية سنة 223هـ. عرف المعتصم بأخبار تلك المؤامرة قبل أن تتم، وقتل جميع القادة الذين اشتركوا فيها، كما أنه تخلص أيضاً من العباس بن المأمون. وبعدها أسقط العرب من ديوان الخدمة العسكرية لينفرد الأتراك بالشؤون العسكرية.

تسببت الإجراءات التي قام بها المعتصم بالله في وقوع نتائج خطيرة على المدى الطويل. تمكن القادة الأتراك من السيطرة على مقاليد الدولة، وصار الخلفاء العباسيون ألعوبة في أياديهم. وصار العديد من الخلفاء أسرى في قصورهم. وتعرض الكثيرون منهم للقتل والتنكيل على أيادي القادة الأتراك. أفسح كل ذلك المجال لتأسيس العديد من الدول التركمانية في ما بعد، من أشهرها الدولة الغزنوية، والدولة السلجوقية، فضلاً عن الدولة العثمانية.

موقف المعتصم من خلق القرآن

توفي الخليفة المأمون أثناء محنة خلق القرآن. كان قد حمل الفقهاء والعلماء على القول بأن القرآن مخلوق. أقر البعض بهذا القول بينما رفضه بعض آخر. تذكر المصادر التاريخية أن المأمون أوصى المعتصم وهو على فراش الموت بأن يواصل حملته على العلماء الرافضين، وألا يشفق عليهم أو يتهاون في تأديبهم وعقابهم.

على الرغم من أن فترة خلافة المعتصم بالله لم تزد عن التسع سنوات إلا أنها شهدت العديد من الأحداث المهمة التي أثّرت كثيراً في مسار التاريخ الإسلامي

التزم المعتصم بأمر أخيه رغم أنه لم يكن معروفاً بثقافته أو علمه. يتفق المؤرخون على أن المعتصم كان ضعيف الكتابة أو أنه كان لا يعرف الكتابة من الأساس. نفّذ المعتصم وصية أخيه الراحل لما رأى فيها من تقوية لنفوذه وسطوته أمام رجال الدين من أهل السنة والجماعة. على سبيل المثال، يذكر عبد العزيز الدوري في كتابه أن المعتصم سمع رأي القاضي المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد لمّا أشار عليه بضرب الإمام أحمد بن حنبل لرفضه القول بخلق القرآن.

القضاء على الثورات الداخلية والحروب ضد البيزنطيين

تمكن المعتصم بالله من القضاء على العديد من الثورات التي وقعت في عهده. كانت أهمها حركة بابك الخرمي التي تمكنت من السيطرة على مساحات واسعة في بلاد أذربيجان منذ عهد الخليفة المأمون. كان أتباع بابك يغيرون على المناطق الواقعة تحت الحكم العباسي ثم يرجعون ليتحصنوا في معاقلهم الجبلية المنيعة فلا يتمكن المسلمون من الوصول إليهم. ومما زاد الأمر سوءاً أن بابك الخرمي عقد تحالفاً مع الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل، بموجبه تعهد الطرفان بقتال العباسيين معاً.

وكان من المعتاد أن يندفع بابك للإغارة على أملاك العباسيين في بلاد فارس عندما تخرج جيوشهم لقتال البيزنطيين في آسيا الصغرى. كما اعتاد ثيوفيل الإغارة على العباسيين في منطقة الثغور، الواقعة بين مناطق العباسيين والإمبراطورية البيزنطية، لتخفيف الضغط على معاقل بابك المُحاصرة.

سنة 222هـ، تمكن القائد التركي حيدر بن كاوس المعروف بالأفشين من هزيمة الخرميةـ ونجح في أسر بابك الخرمي فبعث به إلى المعتصم في سامراء، فقام الأخير بقتله وصلبه على مرأى من الجميع ليقضي بذلك على أخطر الثورات التي قامت ضد الدولة العباسية في زمنه.

في نفس الوقت، عرف المعتصم أن الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل أغار على مدينة زبطرة التي تقع في مدينة فيران شهر الحالية جنوبي غرب ملطية. يقول ابن جرير الطبري (ت. 310هـ)، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، واصفاً المذبحة الدامية التي حدثت في تلك الغارة: "لمّا دخل ملك الروم زبطرة قتل الرجال الذين فيها وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها".

يروي المؤرخون المسلمون عدداً من القصص التي تشير إلى حماس المعتصم الشديد قُبيل خروجه إلى محاربة البيزنطيين، منها القصة المشهورة عن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: "وامعتصماه فأجابها وهو جالس على سريره لبيك لبيك ونهض من ساعته"

جهز المعتصم قواته وتوجه ناحية الأراضي البيزنطية. ويروي المؤرخون المسلمون عدداً من القصص التي تشير إلى الحماس الشديد الذي أبداه المعتصم قُبيل الخروج للحرب. ومن ذلك ما رواه ابن الاثير من أن المعتصم بلغه ان امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: "وامعتصماه فأجابها وهو جالس على سريره لبيك لبيك ونهض من ساعته".

قسّم المعتصم جيشه إلى ثلاثة أقسام وتوجه إلى مدينة أنقرة فدخلها ودمرها، ثم انتصر على القوات البيزنطية التي تجمعت لقتاله في أكثر من معركة. زحف بعدها إلى مدينة عمورية الحصينة، والتي قيل إنها كانت مسقط رأس الإمبراطور ثيوفيل. وزّع المعتصم قواته على سور المدينة ونصب المنجنيق لضربه. وبعد أيام من الحصار تمكن المسلمون من اختراق السور. دخل المعتصم المدينة وعمل على الانتقام لما حدث في زبطرة، فأسرف في القتل حتى قيل إنه قتل ثلاثين ألفاً من سكان عمورية، كما أنه تركها للنهب والسلب والتدمير لمدة أربعة ايام كاملة. وأسر بعدها ما يزيد عن الثلاثين ألفاً من الرجال والنساء.

بلغت الغنائم التي حصل عليها المسلمون في فتح عمورية حداً لم يصل إليه الخلفاء العباسيون من قبل، وفي ذلك المعنى ذكر الطبري أنه جمع الرقيق والمتاع في مكان واحد لبيعهم "وأمر أن ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة، وعلى المتاع جملة واحدة". ويذكر ابن الطقطقي أن المعتصم أخذ باباً عظيماً من الحديد من أبواب عمورية، فخلعه من مكانه وحمله إلى بغداد ونصبه على أحد أبواب دار الخلافة، ليبقى شاهداً على نصره العظيم.

بقيت حملة المعتصم على عمورية أحد الانتصارات العظيمة التي ألهبت خيال المسلمين عبر العصور. تناسى المسلمون اضطهاد المعتصم لابن حنبل في مسألة خلق القرآن، وأولوه مكاناً مبجلاً باعتباره البطل العظيم الذي سحق العدو البيزنطي في عمورية. تعكس تلك النظرة الاعتقاد السائد في الأوساط السنّية بأن الخليفة يجب أن يكون رجل حرب وسياسة بالمقام الأول قبل أن يكون فقيهاً أو رجل دين.

المعتصم في المُتخيل الشيعي

على العكس من النظرة السنّية التقليدية للمعتصم باعتباره بطلاً عسكرياً عظيماً لا يُشق له غبار، نظر الشيعة إليه على أنه أحد الخلفاء الظالمين الذين اعتدوا على حق الأئمة المعصومين في الحكم والإمامة.

عاصر المعتصم فترة إمامة الإمام التاسع محمد الجواد بن علي الرضا. ووقعت بين الرجلين بعض القصص التي تفسر النظرة الشيعية السلبية للخليفة، من أشهرها تلك التي يذكرها الباحث الإيراني الدكتور رسول جعفريان في كتابه "الحياة الفكرية والسياسية لأئمة أهل البيت"، عن أن الإمام الجواد استدعي يوماً إلى بلاط الخليفة العباسي، وكان المعتصم جالساً ومعه القاضي المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد وقد أوتي إليهما بسارق لتنفيذ الحد عليه. تذكر الرواية أن المعتصم سأل ابن أبي دؤاد عن كيفية قطع يد السارق، فأفتى بأن يقطع الكف والأصابع، فهمّ المعتصم ليُنفذ الحكم على تلك الصورة، ولكن الإمام الجواد تدخل، وبيّن الخطأ في رأي الخليفة ومستشاره، وأوضح أن الطريقة الصحيحة هي القطع من مفصل أصول الأصابع. وتذكر الرواية أن هذا الموقف تسبب في غضب وإحراج كل من ابن أبي دؤاد والمعتصم لما ظهر من جهلهما بتنفيذ حكم شرعي بسيط كحكم قطع يد السارق.

في السياق نفسه، تذكر المصادر الشيعية أن المعتصم أمر الجواد بالمكوث في بغداد حتى يبقى تحت عينه. وذكرت بعض الروايات، ومنها ما يورده المسعودي (ت. 346هـ)، في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، أن المعتصم اغتال الجواد بالسم سنة 220هـ بناء على نصيحة من أحمد بن أبي دؤاد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image